عرض مشاركة واحدة
  #519  
قديم 13-12-2024, 04:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,318
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء التاسع
تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
الحلقة (519)
صــ 366 إلى صــ 380






قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن قوله : " فبما نقضهم ميثاقهم " وما بعده ، منفصل معناه من معنى ما قبله ، وأن معنى الكلام : فبما نقضهم ميثاقهم ، وكفرهم بآيات الله ، وبكذا وبكذا ، لعناهم وغضبنا عليهم فترك ذكر"لعناهم " ، [ ص: 366 ] لدلالة قوله : " بل طبع الله عليها بكفرهم " ، على معنى ذلك . إذ كان من طبع على قلبه ، فقد لعن وسخط عليه .

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن الذين أخذتهم الصاعقة ، إنما كانوا على عهد موسى والذين قتلوا الأنبياء ، والذين رموا مريم بالبهتان العظيم ، وقالوا : "قتلنا المسيح" ، كانوا بعد موسى بدهر طويل . ولم يدرك الذين رموا مريم بالبهتان العظيم زمان موسى ، ولا من صعق من قومه .

وإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الذين أخذتهم الصاعقة ، لم تأخذهم عقوبة لرميهم مريم بالبهتان العظيم ، ولا لقولهم : " إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم " . وإذ كان ذلك كذلك ، فبين أن القوم الذين قالوا هذه المقالة غير الذين عوقبوا بالصاعقة . وإذ كان ذلك كذلك ، كان بينا انفصال معنى قوله : " فبما نقضهم ميثاقهم " ، من معنى قوله : " فأخذتهم الصاعقة بظلمهم " .
القول في تأويل قوله ( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما ( 156 ) )

قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وبكفر هؤلاء الذين وصف صفتهم" وقولهم على مريم بهتانا عظيما " ، يعني : بفريتهم عليها ، ورميهم إياها بالزنا ، وهو"البهتان العظيم" ، لأنهم رموها بذلك ، وهي مما رموها به بغير ثبت ولا برهان بريئة ، فبهتوها بالباطل من القول .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 367 ]

10776 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " وقولهم على مريم بهتانا عظيما " ، يعني : أنهم رموها بالزنا .

10777 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " وقولهم على مريم بهتانا عظيما " ، حين قذفوها بالزنا .

10778 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا يعلى بن عبيد ، عن جويبر في قوله : " وقولهم على مريم بهتانا عظيما " ، قال : قالوا : "زنت" .
القول في تأويل قوله ( وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم )

قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وبقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله . ثم كذبهم الله في قيلهم ، فقال : " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " ، يعني : وما قتلوا عيسى وما صلبوه ولكن شبه لهم .

واختلف أهل التأويل في صفة التشبيه الذي شبه لليهود في أمر عيسى .

فقال بعضهم : لما أحاطت اليهود به وبأصحابه ، أحاطوا بهم وهم لا يثبتون معرفة عيسى بعينه ، وذلك أنهم جميعا حولوا في صورة عيسى ، فأشكل على الذين كانوا يريدون قتل عيسى ، عيسى من غيره منهم ، وخرج إليهم بعض من كان في البيت مع عيسى ، فقتلوه وهم يحسبونه عيسى .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 368 ]

10779 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن هارون بن عنترة ، عن وهب بن منبه قال : أتي عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت ، وأحاطوا بهم . فلما دخلوا عليهم صورهم الله كلهم على صورة عيسى ، فقالوا لهم : سحرتمونا! لتبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعا! فقال عيسى لأصحابه : من يشتري نفسه منكم اليوم بالجنة ؟ فقال رجل منهم : أنا! فخرج إليهم ، فقال : أنا عيسى وقد صوره الله على صورة عيسى ، فأخذوه فقتلوه وصلبوه . فمن ثم شبه لهم ، وظنوا أنهم قد قتلوا عيسى ، وظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى ، ورفع الله عيسى من يومه ذلك .

وقد روي عن وهب بن منبه غير هذا القول ، وهو ما : -

10780 - حدثني به المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال : حدثني عبد الصمد بن معقل : أنه سمع وهبا يقول : إن عيسى ابن مريم عليه السلام لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا ، جزع من الموت وشق عليه ، فدعا الحواريين فصنع لهم طعاما ، فقال : احضروني الليلة ، فإن لي إليكم حاجة . فلما اجتمعوا إليه من الليل ، عشاهم وقام يخدمهم . فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضئهم بيده ، ويمسح أيديهم بثيابه ، فتعاظموا ذلك وتكارهوه ، فقال : ألا من رد علي شيئا الليلة مما أصنع ، فليس مني ولا أنا منه! فأقروه ، حتى إذا فرغ من ذلك قال : أما ما صنعت بكم الليلة ، مما خدمتكم على الطعام وغسلت أيديكم بيدي ، فليكن لكم بي أسوة ، فإنكم ترون أني خيركم ، فلا يتعظم بعضكم على بعض ، وليبذل بعضكم لبعض نفسه ، كما بذلت نفسي لكم . وأما حاجتي التي استعنتكم عليها ، فتدعون لي الله وتجتهدون في الدعاء : أن يؤخر أجلي . فلما نصبوا أنفسهم للدعاء وأرادوا أن يجتهدوا ، أخذهم النوم حتى [ ص: 369 ] لم يستطيعوا دعاء . فجعل يوقظهم ويقول : سبحان الله! ما تصبرون لي ليلة واحدة تعينوني فيها! قالوا : والله ما ندري ما لنا! لقد كنا نسمر فنكثر السمر ، وما نطيق الليلة سمرا ، وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه! فقال : يذهب بالراعي وتتفرق الغنم! وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعى به نفسه . ثم قال : الحق ، ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات ، وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة ، وليأكلن ثمني! فخرجوا فتفرقوا ، وكانت اليهود تطلبه ، فأخذوا شمعون أحد الحواريين ، فقالوا : هذا من أصحابه! فجحد وقال : ما أنا بصاحبه! فتركوه ، ثم أخذه آخرون فجحد كذلك . ثم سمع صوت ديك فبكى وأحزنه ، فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود فقال : ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح ؟ فجعلوا له ثلاثين درهما ، فأخذها ودلهم عليه . وكان شبه عليهم قبل ذلك ، فأخذوه فاستوثقوا منه ، وربطوه بالحبل ، فجعلوا يقودونه ويقولون له : أنت كنت تحيي الموتى ، وتنتهر الشيطان ، وتبرئ المجنون ، أفلا تنجي نفسك من هذا الحبل ؟! ويبصقون عليه ، ويلقون عليه الشوك ، حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها ، فرفعه الله إليه ، وصلبوا ما شبه لهم ، فمكث سبعا .

ثم إن أمه والمرأة التي كان يداويها عيسى فأبرأها الله من الجنون ، جاءتا تبكيان حيث المصلوب ، فجاءهما عيسى فقال : علام تبكيان ؟ قالتا : عليك! فقال : إني قد رفعني الله إليه ، ولم يصبني إلا خير ، وإن هذا شيء شبه لهم ، [ ص: 370 ] فأمرا الحواريين أن يلقوني إلى مكان كذا وكذا . فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر . وفقد الذي كان باعه ودل عليه اليهود ، فسأل عنه أصحابه ، فقالوا : إنه ندم على ما صنع ، فاختنق وقتل نفسه . فقال : لو تاب لتاب الله عليه! ثم سألهم عن غلام يتبعهم يقال له : يحنى فقال : هو معكم ، فانطلقوا ، فإنه سيصبح كل إنسان منكم يحدث بلغة قوم ، فلينذرهم وليدعهم .

وقال آخرون : بل سأل عيسى من كان معه في البيت أن يلقى على بعضهم شبهه ، فانتدب لذلك رجل ، فألقي عليه شبهه ، فقتل ذلك الرجل ، ورفع عيسى ابن مريم عليه السلام .

ذكر من قال ذلك :

10781 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه " إلى قوله : "وكان الله عزيزا حكيما" ، أولئك أعداء الله اليهود ائتمروا بقتل عيسى ابن مريم رسول الله ، وزعموا أنهم قتلوه وصلبوه . وذكر لنا أن نبي الله عيسى ابن مريم قال لأصحابه : أيكم يقذف عليه شبهي ، فإنه مقتول ؟ فقال رجل من أصحابه : أنا ، يا نبي الله! فقتل ذلك الرجل ، ومنع الله نبيه ورفعه إليه .

10782 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " ، قال : ألقي شبهه على رجل من الحواريين فقتل . وكان عيسى ابن مريم عرض ذلك عليهم ، فقال : أيكم ألقي شبهي عليه ، وله الجنة ؟ فقال رجل : علي .

[ ص: 371 ]

10783 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أن بني إسرائيل حصروا عيسى وتسعة عشر رجلا من الحواريين في بيت ، فقال عيسى لأصحابه : من يأخذ صورتي فيقتل وله الجنة ؟ فأخذها رجل منهم ، وصعد بعيسى إلى السماء . فلما خرج الحواريون أبصروهم تسعة عشر ، فأخبروهم أن عيسى عليه السلام قد صعد به إلى السماء ، فجعلوا يعدون القوم فيجدونهم ينقصون رجلا من العدة ، ويرون صورةعيسى فيهم ، فشكوا فيه . وعلى ذلك قتلوا الرجل وهم يرون أنه عيسى وصلبوه . فذلك قول الله تبارك وتعالى : " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " ، إلى قوله : " وكان الله عزيزا حكيما " .

10784 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن القاسم بن أبي بزة : أن عيسى ابن مريم قال : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ؟ فقال رجل من أصحابه : أنا ، يا رسول الله! فالقي عليه شبهه فقتلوه . فذلك قوله : " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " .

10785 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : كان اسم ملك بني إسرائيل الذي بعث إلى عيسى ليقتله ، رجلا منهم يقال له داود . فلما أجمعوا لذلك منه ، لم يفظع عبد من عباد الله بالموت فيما ذكر لي فظعه ، ولم يجزع منه جزعه ، ولم يدع الله في صرفه عنه دعاءه ، حتى إنه ليقول ، فيما يزعمون : "اللهم إن كنت صارفا هذه الكأس عن أحد من خلقك فاصرفها عني!" ، وحتى إن جلده من كرب ذلك ليتفصد دما . فدخل المدخل الذي أجمعوا أن يدخلوا عليه فيه ليقتلوه هو وأصحابه ، وهم ثلاثة عشر بعيسى . فلما أيقن أنهم داخلون عليه ، قال لأصحابه من الحواريين وكانوا اثني عشر رجلا [ ص: 372 ] فطرس ، ويعقوب بن زبدي ، ويحنس أخو يعقوب ، وأندراييس ، وفيلبس ، وأبرثلما ، ومتى ، وتوماس ، ويعقوب بن حلفيا ، وتداوسيس ، وقنانيا ، ويودس زكريا يوطا .

قال ابن حميد ، قال سلمة ، قال ابن إسحاق : وكان فيهم ، فيما ذكر لي ، رجل اسمه سرجس ، فكانوا ثلاثة عشر رجلا سوى عيسى ، جحدته النصارى ، وذلك أنه هو الذي شبه لليهود مكان عيسى . قال : فلا أدري ما هو ؟ من هؤلاء الاثني عشر ، أم كان ثالث عشر ، فجحدوه حين أقروا لليهود بصلب عيسى ، وكفروا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الخبر عنه . فإن كانوا ثلاثة عشر فإنهم دخلوا المدخل حين دخلوا وهم بعيسى أربعة عشر ، وإن كانوا اثني عشر ، فإنهم دخلوا المدخل حين دخلوا وهم بعيسى ثلاثة عشر .

حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : حدثني رجل كان نصرانيا فأسلم : أن عيسى حين جاءه من الله : " إني رافعك إلي " قال : يا معشر الحواريين ، أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة ، على أن يشبه للقوم في صورتي فيقتلوه مكاني ؟ فقال سرجس : أنا ، يا روح الله! قال : فاجلس في مجلسي .

[ ص: 373 ] فجلس فيه ، ورفع عيسى صلوات الله عليه . فدخلوا عليه فأخذوه فصلبوه ، فكان هو الذي صلبوه وشبه لهم به . وكانت عدتهم حين دخلوا مع عيسى معلومة ، قد رأوهم وأحصوا عدتهم . فلما دخلوا عليه ليأخذوه ، وجدوا عيسى فيما يرون وأصحابه ، وفقدوا رجلا من العدة ، فهو الذي اختلفوا فيه ، وكانوا لا يعرفون عيسى ، حتى جعلوا ليودس زكريا يوطا ثلاثين درهما على أن يدلهم عليه ويعرفهم إياه ، فقال لهم : إذا دخلتم عليه ، فإني سأقبله ، وهو الذي أقبل ، فخذوه . فلما دخلوا عليه وقد رفع عيسى ، رأى سرجس في صورة عيسى ، فلم يشكك أنه هو عيسى ، فأكب عليه فقبله ، فأخذوه فصلبوه . ثم إن يودس زكريا يوطا ندم على ما صنع ، فاختنق بحبل حتى قتل نفسه . وهو ملعون في النصارى ، وقد كان أحد المعدودين من أصحابه . وبعض النصارى يزعم أن يودس زكريا يوطا هو الذي شبه لهم ، فصلبوه وهو يقول : "إني لست بصاحبكم! أنا الذي دللتكم عليه"! والله أعلم أي ذلك كان .

10786 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : بلغنا أن عيسى ابن مريم قال لأصحابه : أيكم ينتدب فيلقى عليه شبهي فيقتل ؟ فقال رجل من أصحابه : أنا ، يا نبي الله . فالقي عليه شبهه فقتل ، ورفع الله نبيه إليه .

10787 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "شبه لهم" ، قال : صلبوا رجلا غير عيسى ، يحسبونه إياه .

10788 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "ولكن شبه لهم" ، فذكر نحوه .

[ ص: 374 ]

10789 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : صلبوا رجلا شبهوه بعيسى ، يحسبونه إياه ، ورفع الله إليه عيسى حيا .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب ، أحد القولين اللذين ذكرناهما عن وهب بن منبه : من أن شبه عيسى ألقي على جميع من كان في البيت مع عيسى حين أحيط به وبهم ، من غير مسألة عيسى إياهم ذلك . ولكن ليخزي الله بذلك اليهود ، وينقذ به نبيه عليه السلام من مكروه ما أرادوا به من القتل ، ويبتلي به من أراد ابتلاءه من عباده في قيله في عيسى ، وصدق الخبر عن أمره . أو : القول الذي رواه عبد الصمد عنه .

وإنما قلنا ذلك أولى القولين بالصواب ، لأن الذين شهدوا عيسى من الحواريين ، لو كانوا في حال ما رفع عيسى وألقي شبهه على من ألقي عليه شبهه ، كانوا قد عاينوا وهو يرفع من بينهم ، وأثبتوا الذي القي عليه شبهه ، وعاينوه متحولا في صورته بعد الذي كان به من صورة نفسه بمحضر منهم ، لم يخف ذلك من أمر عيسى وأمر من ألقي عليه شبهه عليهم ، مع معاينتهم ذلك كله ، ولم يلتبس ولم يشكل عليهم ، وإن أشكل على غيرهم من أعدائهم من اليهود أن المقتول والمصلوب كان غير عيسى ، وأن عيسى رفع من بينهم حيا .

وكيف يجوز أن يكون كان أشكل ذلك عليهم ، وقد سمعوا من عيسى مقالته : "من يلقى عليه شبهي ، ويكون رفيقي في الجنة" ، إن كان قال لهم ذلك ، وسمعوا [ ص: 375 ] جواب مجيبه منهم : "أنا" ، وعاينوا تحول المجيب في صورة عيسى بعقب جوابه ؟ ولكن ذلك كان إن شاء الله على نحو ما وصف وهب بن منبه : إما أن يكون القوم الذين كانوا مع عيسى في البيت الذي رفع منه من حواريه ، حولهم الله جميعا في صورة عيسى حين أراد الله رفعه ، فلم يثبتوا عيسى معرفة بعينه من غيره لتشابه صور جميعهم ، فقتلت اليهود منهم من قتلت وهم يرونه بصورة عيسى ، ويحسبونه إياه ، لأنهم كانوا به عارفين قبل ذلك . وظن الذين كانوا في البيت مع عيسى مثل الذي ظنت اليهود ، لأنهم لم يميزوا شخص عيسى من شخص غيره ، لتشابه شخصه وشخص غيره ممن كان معه في البيت . فاتفقوا جميعهم يعني : اليهود والنصارى من أجل ذلك على أن المقتول كان عيسى ، ولم يكن به ، ولكنه شبه لهم ، كما قال الله جل ثناؤه : " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " .

أو يكون الأمر في ذلك كان على نحو ما روى عبد الصمد بن معقل ، عن وهب بن منبه : أن القوم الذين كانوا مع عيسى في البيت ، تفرقوا عنه قبل أن يدخل عليه اليهود ، وبقي عيسى ، وألقي شبهه على بعض أصحابه الذين كانوا معه في البيت بعد ما تفرق القوم غير عيسى ، وغير الذي ألقي عليه شبهه . ورفع عيسى ، فقتل الذي تحول في صورة عيسى من أصحابه ، وظن أصحابه واليهود أن الذي قتل وصلب هو عيسى ، لما رأوا من شبهه به ، وخفاء أمر عيسى عليهم . لأن رفعه وتحول المقتول في صورته ، كان بعد تفرق أصحابه عنه ، وقد كانوا سمعوا عيسى من الليل ينعى نفسه ، ويحزن لما قد ظن أنه نازل به من الموت ، فحكوا ما كان عندهم حقا ، والأمر عند الله في الحقيقة بخلاف ما حكوا . فلم يستحق الذين حكوا ذلك من حوارييه أن يكونوا كذبة ، إذ حكوا ما كان حقا عندهم في الظاهر ، [ ص: 376 ] وإن كان الأمر كان عند الله في الحقيقة بخلاف الذي حكوا .
القول في تأويل قوله ( وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا ( 157 ) )

قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وإن الذين اختلفوا فيه " ، اليهود الذين أحاطوا بعيسى وأصحابه حين أرادوا قتله . وذلك أنهم كانوا قد عرفوا عدة من في البيت قبل دخولهم ، فيما ذكر . فلما دخلوا عليهم ، فقدوا واحدا منهم ، فالتبس أمر عيسى عليهم بفقدهم واحدا من العدة التي كانوا قد أحصوها ، وقتلوا من قتلوا على شك منهم في أمر عيسى .

وهذا التأويل على قول من قال : لم يفارق الحواريون عيسى حتى رفع ودخل عليهم اليهود .

وأما تأويله على قول من قال : تفرقوا عنه من الليل ، فإنه : "وإن الذين اختلفوا" ، في عيسى ، هل هو الذي بقي في البيت منهم بعد خروج من خرج منهم من العدة التي كانت فيه ، أم لا ؟"لفي شك منه" ، يعني : من قتله ، لأنهم كانوا أحصوا من العدة حين دخلوا البيت أكثر ممن خرج منه ومن وجد فيه ، فشكوا في الذي قتلوه : هل هو عيسى أم لا ؟ من أجل فقدهم من فقدوا من العدد الذي كانوا أحصوه ، ولكنهم قالوا : "قتلنا عيسى " ، لمشابهة المقتول عيسى في الصورة . يقول الله جل ثناؤه : " ما لهم به من علم " ، يعني : أنهم قتلوا من قتلوه على شك منهم فيه واختلاف ، هل هو عيسى أم هو غيره ؟ من غير أن يكون لهم [ ص: 377 ] بمن قتلوه علم ، من هو ؟ هو عيسى أم هو غيره ؟ " إلا اتباع الظن " ، يعني جل ثناؤه : ما كان لهم بمن قتلوه من علم ، ولكنهم اتبعوا ظنهم فقتلوه ، ظنا منهم أنه عيسى ، وأنه الذي يريدون قتله ، ولم يكن به" وما قتلوه يقينا " ، يقول : وما قتلوا - هذا الذي اتبعوه في المقتول الذي قتلوه وهم يحسبونه عيسى - يقينا أنه عيسى ولا أنه غيره ، ولكنهم كانوا منه على ظن وشبهة .



وهذا كقول الرجل للرجل : "ما قتلت هذا الأمر علما ، وما قتلته يقينا" ، إذا تكلم فيه بالظن على غير يقين علم . ف"الهاء" في قوله : "وما قتلوه" ، عائدة على"الظن" .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك .

10790 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وما قتلوه يقينا " ، قال : يعني لم يقتلوا ظنهم يقينا .

10791 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا يعلى بن عبيد ، عن جويبر في قوله : " وما قتلوه يقينا " ، قال : ما قتلوا ظنهم يقينا .

وقال السدي في ذلك ما : -

10792 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وما قتلوه يقينا " ، وما قتلوا أمره يقينا أن الرجل هو عيسى ، "بل رفعه الله إليه" .
[ ص: 378 ] القول في تأويل قوله ( بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما ( 158 ) )

قال أبو جعفر : أما قوله جل ثناؤه : " بل رفعه الله إليه " ، فإنه يعني : بل رفع الله المسيح إليه . يقول : لم يقتلوه ولم يصلبوه ، ولكن الله رفعه إليه فطهره من الذين كفروا .

وقد بينا كيف كان رفع الله إياه إليه فيما مضى ، وذكرنا اختلاف المختلفين في ذلك ، والصحيح من القول فيه بالأدلة الشاهدة على صحته ، بما أغنى عن إعادته .

وأما قوله : " وكان الله عزيزا حكيما " ، فإنه يعني : ولم يزل الله منتقما من أعدائه ، كانتقامه من الذين أخذتهم الصاعقة بظلمهم ، وكلعنه الذين قص قصتهم بقوله : "فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله""حكيما" ، يقول : ذا حكمة في تدبيره وتصريفه خلقه في قضائه . يقول : فاحذروا أيها السائلون محمدا أن ينزل عليكم كتابا من السماء ، من حلول عقوبتي بكم ، كما حل بأوائلكم الذين فعلوا فعلكم ، في تكذيبهم رسلي وافترائهم على أوليائي ، وقد : -

10793 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا محمد بن إسحاق بن أبي سارة الرؤاسي ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : " وكان الله عزيزا حكيما " ، قال : معنى ذلك : أنه كذلك .
[ ص: 379 ] القول في تأويل قوله ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى ذلك :

فقال بعضهم : معنى ذلك : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به " ، يعني : بعيسى "قبل موته" ، يعني : قبل موت عيسى يوجه ذلك إلى أن جميعهم يصدقون به إذا نزل لقتل الدجال ، فتصير الملل كلها واحدة ، وهي ملة الإسلام الحنيفية ، دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 380 ]

ذكر من قال ذلك :

10794 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : قبل موت عيسى ابن مريم .

10795 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : قبل موت عيسى .

10796 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك في قوله : " إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : ذلك عند نزول عيسى ابن مريم ، لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به .

10797 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن قال : "قبل موته" ، قال : قبل أن يموت عيسى ابن مريم .

10798 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن في قوله : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : قبل موت عيسى . والله إنه الآن لحي عند الله ، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون .

10799 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، يقول : قبل موت عيسى .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 38.68 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.05 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.62%)]