
13-12-2024, 05:15 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,561
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء التاسع
تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة
الحلقة (524)
صــ 441 إلى صــ 460
10886 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة : أن عمر بن الخطاب خطب الناس يوم الجمعة فقال : إني والله ما أدع بعدي شيئا هو أهم إلي من أمر الكلالة ، وقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها ، حتى طعن في نحري وقال : "تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء" ، وإن أعش أقض فيها بقضية لا يختلف فيها أحد قرأ القرآن .
10887 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا يحيى بن سعيد قال : حدثنا هشام ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة ، عن عمر بن الخطاب بنحوه .
10888 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال : سمعت أبي يقول ، أخبرنا أبو حمزة ، عن جابر ، عن الحسن بن مسروق ، عن أبيه قال : سألت عمر وهو يخطب الناس عن ذي قرابة لي ورث كلالة ، فقال : الكلالة ، الكلالة ، الكلالة !! وأخذ بلحيته ، ثم قال : والله لأن أعلمها أحب إلي من أن يكون لي ما على الأرض من شيء ، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ألم تسمع الآية التي أنزلت في الصيف ؟ فأعادها ثلاث مرات .
[ ص: 442 ]
10889 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو أسامة ، عن زكريا ، عن أبي إسحاق ، عن أبي سلمة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الكلالة ، فقال : ألم تسمع الآية التي أنزلت في الصيف : ( وإن كان رجل يورث كلالة ) إلى آخر الآية ؟
10890 - حدثني محمد بن خلف قال : حدثنا إسحاق بن عيسى قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير : أن رجلا سأل عقبة عن الكلالة ، فقال : ألا تعجبون من هذا ؟ يسألني عن الكلالة ، وما أعضل بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء ما أعضلت بهم الكلالة !
[ ص: 443 ]
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : فما وجه قوله جل ثناؤه : " وإن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك " ، ولقد علمت اتفاق جميع أهل القبلة ما خلا ابن عباس وابن الزبير رحمة الله عليهما على أن الميت لو ترك ابنة وأختا ، أن لابنته النصف ، وما بقي فلأخته ، إذا كانت أخته لأبيه وأمه ، أو لأبيه ؟ وأين ذلك من قوله : " إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك " ، وقد ورثوها النصف مع الولد ؟
قيل : إن الأمر في ذلك بخلاف ما ذهبت إليه . إنما جعل الله جل ثناؤه بقوله : " إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك " ، إذا لم يكن للميت ولد ذكر ولا أنثى ، وكان موروثا كلالة ، النصف من تركته فريضة لها مسماة . فأما إذا كان للميت ولد أنثى ، فهي معها عصبة ، يصير لها ما كان يصير للعصبة غيرها ، لو لم تكن . وذلك غير محدود بحد ، ولا مفروض لها فرض سهام أهل الميراث بميراثهم عن ميتهم . ولم يقل الله في كتابه : "فإن كان له ولد فلا شيء لأخته معه" ، فيكون لما روي عن ابن عباس وابن الزبير في ذلك وجه يوجه إليه . وإنما بين جل ثناؤه ، مبلغ حقها إذا ورث الميت كلالة ، وترك بيان ما لها من حق إذا لم يورث كلالة في كتابه ، وبينه بوحيه على لسان رسوله صلى الله عليه [ ص: 444 ] وسلم ، فجعلها عصبة مع إناث ولد الميت . وذلك معنى غير معنى وراثتها الميت ، إذا كان موروثا كلالة .
القول في تأويل قوله ( وهو يرثها إن لم يكن لها ولد )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : وأخو المرأة يرثها إن ماتت قبله ، إذا ورثت كلالة ، ولم يكن لها ولد ولا والد .
القول في تأويل قوله ( فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " فإن كانتا اثنتين " ، فإن كانت المتروكة من الأخوات لأبيه وأمه أو لأبيه"اثنتين" فلهما ثلثا ما ترك أخوهما الميت ، إذا لم يكن له ولد ، وورث كلالة " وإن كانوا إخوة " ، يعني : وإن كان المتروكون من إخوته" رجالا ونساء فللذكر " منهم بميراثهم عنه من تركته" مثل حظ الأنثيين " ، يعني : مثل نصيب اثنتين من أخواته . وذلك إذا ورث كلالة ، والإخوة والأخوات إخوته وأخواته لأبيه وأمه ، أو : لأبيه .
[ ص: 445 ] القول في تأويل قوله ( يبين الله لكم أن تضلوا )
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يبين الله لكم قسمة مواريثكم ، وحكم الكلالة ، وكيف فرائضهم"أن تضلوا" ، بمعنى : لئلا تضلوا في أمر المواريث وقسمتها ، أي : لئلا تجوروا عن الحق في ذلك وتخطئوا الحكم فيه ، فتضلوا عن قصد السبيل ، كما : -
10891 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " يبين الله لكم أن تضلوا " ، قال : في شأن المواريث .
10892 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا محمد بن حميد المعمري وحدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قالا جميعا ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين قال : كان عمر إذا قرأ : " يبين الله لكم أن تضلوا " قال : اللهم من بينت له الكلالة ، فلم تبين لي .
قال أبو جعفر : وموضع "أن" في قوله : "يبين الله لكم أن تضلوا" ، نصب ، في قول بعض أهل العربية ، لاتصالها بالفعل .
وفي قول بعضهم : خفض ، بمعنى : يبين الله لكم بأن لا تضلوا ، ولئلا تضلوا وأسقطت"لا" من اللفظ وهي مطلوبة في المعنى ، لدلالة الكلام عليها . والعرب تفعل ذلك ، تقول : "جئتك أن تلومني" ، بمعنى : جئتك أن لا تلومني ، كما قال القطامي في صفة ناقة : [ ص: 446 ]
رأينا ما يرى البصراء فيها فآلينا عليها أن تباعا
بمعنى : أن لا تباع .
القول في تأويل قوله ( والله بكل شيء عليم ( 176 ) )
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : "والله بكل شيء" من مصالح عباده في قسمة مواريثهم وغيرها ، وجميع الأشياء"عليم" ، يقول : هو بذلك كله ذو علم .
( آخر تفسير سورة النساء ) والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وسلم .
[ ص: 447 ] [ ص: 448 ] [ ص: 449 ]
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
تفسير سورة المائدة
القول في تأويل قوله عز ذكره ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " يا أيها الذين آمنوا أوفوا " ، يا أيها الذين أقروا بوحدانية الله ، وأذعنوا له بالعبودية ، وسلموا له الألوهة وصدقوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم في نبوته وفيما جاءهم به من عند ربهم من شرائع دينه " أوفوا بالعقود " ، يعني : أوفوا بالعهود التي عاهدتموها ربكم ، والعقود التي عاقدتموها إياه ، وأوجبتم بها على أنفسكم حقوقا ، وألزمتم أنفسكم بها لله فروضا ، فأتموها بالوفاء والكمال والتمام منكم لله بما ألزمكم بها ، ولمن عاقدتموه منكم ، بما أوجبتموه له بها على أنفسكم ، ولا تنكثوها فتنقضوها بعد توكيدها .
واختلف أهل التأويل في "العقود" التي أمر الله جل ثناؤه بالوفاء بها بهذه الآية ، بعد إجماع جميعهم على أن معنى"العقود " ، العهود .
فقال بعضهم : هي العقود التي كان أهل الجاهلية عاقد بعضهم بعضا على النصرة والمؤازرة والمظاهرة على من حاول ظلمه أو بغاه سوءا ، وذلك هو معنى"الحلف" الذي كانوا يتعاقدونه بينهم .
ذكر من قال : معنى"العقود" ، العهود .
10893 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني [ ص: 450 ] معاوية بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " أوفوا بالعقود " ، يعني : بالعهود .
10894 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله جل وعز : " أوفوا بالعقود " ، قال : العهود .
10895 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
10896 - حدثنا سفيان قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، مثله .
10897 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عبيد الله ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس قال : جلسنا إلى مطرف بن الشخير وعنده رجل يحدثهم ، فقال : " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " ، قال : هي العهود .
10898 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " أوفوا بالعقود " ، قال : العهود .
10899 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك : " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " ، قال : هي العهود .
10900 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول : " أوفوا بالعقود " ، بالعهود . [ ص: 451 ]
10901 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : " أوفوا بالعقود " ، قال : بالعهود .
10902 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " أوفوا بالعقود " ، قال : هي العهود .
10903 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : سمعت الثوري يقول : " أوفوا بالعقود " ، قال : بالعهود .
10904 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
قال أبو جعفر : و"العقود " جمع "عقد" ، وأصل "العقد" ، عقد الشيء بغيره ، وهو وصله به ، كما يعقد الحبل بالحبل ، إذا وصل به شدا . يقال منه : "عقد فلان بينه وبين فلان عقدا ، فهو يعقده" ، ومنه قول الحطيئة :
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا [ ص: 452 ]
وذلك إذا واثقه على أمر وعاهده عليه عهدا بالوفاء له بما عاقده عليه ، من أمان وذمة ، أو نصرة ، أو نكاح ، أو بيع ، أو شركة ، أو غير ذلك من العقود .
ذكر من قال المعنى الذي ذكرنا عمن قاله في المراد من قوله : " أوفوا بالعقود " .
10905 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " ، أي : بعقد الجاهلية . ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : أوفوا بعقد الجاهلية ، ولا تحدثوا عقدا في الإسلام . وذكر لنا أن فرات بن حيان العجلي ، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الجاهلية ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : لعلك تسأل عن حلف لخم وتيم الله ؟ فقال : نعم ، يا نبي الله! قال : لا يزيده الإسلام إلا شدة .
10906 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : حدثنا معمر ، عن قتادة : " أوفوا بالعقود " ، قال : عقود الجاهلية : الحلف .
وقال آخرون : بل هي الحلف التي أخذ الله على عباده بالإيمان به وطاعته ، فيما أحل لهم وحرم عليهم .
ذكر من قال ذلك :
10907 - حدثني المثنى قال : أخبرنا عبد الله قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " أوفوا بالعقود " ، يعني : ما أحل وما حرم ، وما فرض ، وما حد في القرآن كله ، فلا تغدروا ولا تنكثوا . ثم شدد ذلك فقال : ( والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ) إلى قوله : ( سوء الدار ) [ سورة الرعد : 35 ] .
10908 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن [ ص: 453 ] ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " أوفوا بالعقود " ، ما عقد الله على العباد مما أحل لهم وحرم عليهم .
وقال آخرون : بل هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم ، ويعقدها المرء على نفسه .
ذكر من قال ذلك :
10909 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثني أبي ، عن موسى بن عبيدة ، عن أخيه عبد الله بن عبيدة قال : العقود خمس : عقدة الأيمان ، وعقدة النكاح ، وعقدة العهد ، وعقدة البيع ، وعقدة الحلف .
10910 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا وكيع ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القرظي أو عن أخيه عبد الله بن عبيدة ، نحوه .
10911 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " ، قال : عقد العهد ، وعقد اليمين وعقد الحلف ، وعقد الشركة ، وعقد النكاح . قال : هذه العقود ، خمس .
10912 - حدثني المثنى قال : حدثنا عتبة بن سعيد الحمصي قال : حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال : حدثنا أبي في قول الله جل وعز : " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " ، قال : العقود خمس : عقدة النكاح ، وعقدة الشركة ، وعقد اليمين ، وعقدة العهد ، وعقدة الحلف .
وقال آخرون : بل هذه الآية أمر من الله تعالى لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم ، من العمل بما في التوراة والإنجيل في تصديق محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند الله .
[ ص: 454 ]
ذكر من قال ذلك :
10913 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " أوفوا بالعقود " ، قال : العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب : أن يعملوا بما جاءهم .
10914 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني الليث قال : حدثني يونس قال : قال محمد بن مسلم : قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه على نجران فكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم ، فيه : "هذا بيان من الله ورسوله : " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " ، فكتب الآيات منها حتى بلغ" إن الله سريع الحساب " .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، ما قاله ابن عباس ، وأن معناه : أوفوا ، يا أيها الذين آمنوا ، بعقود الله التي أوجبها عليكم ، وعقدها فيما أحل لكم وحرم عليكم ، وألزمكم فرضه ، وبين لكم حدوده .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من غيره من الأقوال ، لأن الله جل وعز أتبع ذلك البيان عما أحل لعباده وحرم عليهم ، وما أوجب عليهم من فرائضه . فكان معلوما بذلك أن قوله : " أوفوا بالعقود " ، أمر منه عباده بالعمل بما ألزمهم من فرائضه وعقوده عقيب ذلك ، ونهي منه لهم عن نقض ما عقده عليهم منه ، مع أن قوله : " أوفوا بالعقود " ، أمر منه بالوفاء بكل عقد أذن فيه ، فغير جائز أن يخص منه شيء حتى تقوم حجة بخصوص شيء منه يجب التسليم لها . فإذ كان الأمر في ذلك كما وصفنا ، فلا معنى لقول من وجه ذلك إلى معنى الأمر بالوفاء ببعض العقود التي أمر الله بالوفاء بها دون بعض .
[ ص: 455 ]
وأما قوله : "أوفوا" فإن للعرب فيه لغتين :
إحداهما : "أوفوا" ، من قول القائل : "أوفيت لفلان بعهده ، أوفي له به" .
والأخرى من قولهم : "وفيت له بعهده أفي" .
و"الإيفاء بالعهد" ، إتمامه على ما عقد عليه من شروطه الجائزة .
القول في تأويل قوله ( أحلت لكم بهيمة الأنعام )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في "بهيمة الأنعام" التي ذكر الله عز ذكره في هذه الآية أنه أحلها لنا .
فقال بعضهم : هي الأنعام كلها .
ذكر من قال ذلك :
10915 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن عوف ، عن الحسن قال : بهيمة الأنعام ، هي الإبل والبقر والغنم .
10916 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " أحلت لكم بهيمة الأنعام " ، قال : الأنعام كلها .
10917 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا ابن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " أحلت لكم بهيمة الأنعام " ، قال : الأنعام كلها .
10918 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : " أحلت لكم بهيمة الأنعام " ، قال : الأنعام كلها .
10920 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول ، [ ص: 456 ] أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " بهيمة الأنعام " ، هي الأنعام .
وقال آخرون : بل عنى بقوله : " أحلت لكم بهيمة الأنعام " ، أجنة الأنعام التي توجد في بطون أمهاتها - إذا نحرت أو ذبحت - ميتة .
ذكر من قال ذلك :
10921 - حدثني الحارث بن محمد قال : حدثنا عبد العزيز قال : أخبرنا أبو عبد الرحمن الفزاري ، عن عطية العوفي ، عن ابن عمر في قوله : " أحلت لكم بهيمة الأنعام قال : ما في بطونها . قال قلت : إن خرج ميتا آكله ؟ قال : نعم .
10922 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا يحيى بن زكريا ، عن إدريس الأودي ، عن عطية ، عن ابن عمر نحوه وزاد فيه قال : نعم ، هو بمنزلة رئتها وكبدها .
10923 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : الجنين من بهيمة الأنعام ، فكلوه .
10924 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن مسعر وسفيان ، عن قابوس عن أبيه ، عن ابن عباس : أن بقرة نحرت فوجد في بطنها جنين ، فأخذ ابن عباس بذنب الجنين فقال : هذا من بهيمة الأنعام التي أحلت لكم .
10925 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : هو من بهيمة الأنعام .
10926 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا أبو عاصم ومؤمل قالا حدثنا سفيان ، عن قابوس ، عن أبيه قال : ذبحنا بقرة ، فإذا في بطنها جنين ، فسألنا ابن عباس فقال : هذه بهيمة الأنعام .
قال أبو جعفر : وأولى القولين بالصواب في ذلك ، قول من قال : عنى [ ص: 457 ] بقوله : " أحلت لكم بهيمة الأنعام " ، الأنعام كلها : أجنتها وسخالها وكبارها . لأن العرب لا تمتنع من تسمية جميع ذلك"بهيمة وبهائم" ، ولم يخصص الله منها شيئا دون شيء . فذلك على عمومه وظاهره ، حتى تأتي حجة بخصوصه يجب التسليم لها .
وأما "النعم" فإنها عند العرب ، اسم للإبل والبقر والغنم خاصة ، كما قال جل ثناؤه : ( والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ) ، [ سورة النحل : 5 ] ، ثم قال : ( والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ) [ سورة النحل : 8 ] ، ففصل جنس النعم من غيرها من أجناس الحيوان .
وأما "بهائمها" ، فإنها أولادها . وإنما قلنا يلزم الكبار منها اسم "بهيمة" ، كما يلزم الصغار ، لأن معنى قول القائل : "بهيمة الأنعام" ، نظير قوله : "ولد الأنعام" . فلما كان لا يسقط معنى الولادة عنه بعد الكبر ، فكذلك لا يسقط عنه اسم البهيمة بعد الكبر .
وقد قال قوم : "بهيمة الأنعام" ، وحشيها ، كالظباء وبقر الوحش والحمر .
القول في تأويل قوله ( إلا ما يتلى عليكم )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في الذي عناه الله بقوله : " إلا ما يتلى عليكم " . فقال بعضهم : عنى الله بذلك : أحلت لكم أولاد الإبل والبقر والغنم ، إلا ما بين الله لكم فيما يتلى عليكم بقوله : ( حرمت عليكم الميتة والدم ) ، الآية [ سورة المائدة : 3 ] .
ذكر من قال ذلك :
10927 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا [ ص: 458 ] عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم " ، إلا الميتة وما ذكر معها .
10928 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم " ، أي : من الميتة التي نهى الله عنها ، وقدم فيها .
10929 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " إلا ما يتلى عليكم " ، قال : إلا الميتة وما لم يذكر اسم الله عليه .
10930 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " إلا ما يتلى عليكم " ، الميتة والدم ولحم الخنزير .
10931 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم " ، الميتة ولحم الخنزير .
10932 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم " ، هي الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به .
وقال آخرون : بل الذي استثنى الله بقوله : " إلا ما يتلى عليكم " ، الخنزير .
ذكر من قال ذلك .
10933 - حدثني عبد الله بن داود قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " إلا ما يتلى عليكم قال : الخنزير .
10934 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " إلا ما يتلى عليكم " ، يعني : الخنزير .
[ ص: 459 ]
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين في ذلك بالصواب ، تأويل من قال : "عنى بذلك : إلا ما يتلى عليكم من تحريم الله ما حرم عليكم بقوله : " حرمت عليكم الميتة " ، الآية . لأن الله عز وجل استثنى مما أباح لعباده من بهيمة الأنعام ، ما حرم عليهم منها . والذي حرم عليهم منها ، ما بينه في قوله : ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ) [ سورة المائدة : 3 ] . وإن كان حرمه الله علينا ، فليس من بهيمة الأنعام فيستثنى منها . فاستثناء ما حرم علينا مما دخل في جملة ما قبل الاستثناء ، أشبه من استثناء ما حرم مما لم يدخل في جملة ما قبل الاستثناء .
القول في تأويل قوله ( غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .
فقال بعضهم : معنى ذلك : " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " " غير محلي الصيد وأنتم حرم " " أحلت لكم بهيمة الأنعام " فذلك ، على قولهم ، من المؤخر الذي معناه التقديم . ف"غير" منصوب على قول قائلي هذه المقالة على الحال مما في قوله : "أوفوا" من ذكر"الذين آمنوا" .
وتأويل الكلام على مذهبهم : أوفوا ، أيها المؤمنون ، بعقود الله التي عقدها عليكم في كتابه ، لا محلين الصيد وأنتم حرم .
وقال آخرون : معنى ذلك : أحلت لكم بهيمة الأنعام الوحشية من الظباء والبقر والحمر "غير محلي الصيد" ، غير مستحلي اصطيادها ، وأنتم حرم إلا [ ص: 460 ] ما يتلى عليكم" . ف"غير" ، على قول هؤلاء ، منصوب على الحال من"الكاف والميم" اللتين في قوله : "لكم" ، بتأويل : أحلت لكم ، أيها الذين آمنوا ، بهيمة الأنعام ، لا مستحلي اصطيادها في حال إحرامكم .
وقال آخرون : معنى ذلك : أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها " إلا ما يتلى عليكم " ، إلا ما كان منها وحشيا ، فإنه صيد ، فلا يحل لكم وأنتم حرم . فكأن من قال ذلك ، وجه الكلام إلى معنى : أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها " إلا ما يتلى عليكم " ، إلا ما يبين لكم من وحشيها ، غير مستحلي اصطيادها في حال إحرامكم . فتكون"غير" منصوبة ، على قولهم ، على الحال من"الكاف والميم" في قوله : "إلا ما يتلى عليكم" .
ذكر من قال ذلك :
10935 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا عبيد الله ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس قال : جلسنا إلى مطرف بن الشخير ، وعنده رجل ، فحدثهم فقال : " أحلت لكم بهيمة الأنعام " صيدا " غير محلي الصيد وأنتم حرم " ، فهو عليكم حرام . يعني بقر الوحش والظباء وأشباهه .
10936 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : " أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم " ، قال : الأنعام كلها حل ، إلا ما كان منها وحشيا ، فإنه صيد ، فلا يحل إذا كان محرما .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|