
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء التاسع
تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة
الحلقة (526)
صــ 476 إلى صــ 490
10966 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا [ ص: 476 ] الثوري ، عن بيان ، عن الشعبي قال : لم ينسخ من سورة المائدة غير هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله " .
10967 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام" الآية ، قال : منسوخ . قال : كان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت ، فأمروا أن لا يقاتلوا في الأشهر الحرم ، ولا عند البيت ، فنسخها قوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) .
10968 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو معاوية ، عن جويبر ، عن الضحاك : "لا تحلوا شعائر الله" إلى قوله : "ولا آمين البيت الحرام" ، قال : نسختها"براءة" : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) .
10969 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : حدثنا هشيم ، عن الضحاك ، مثله .
10970 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن منصور ، عن حبيب بن أبي ثابت : " لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد " ، قال : هذا شيء نهي عنه ، فترك كما هو .
10971 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام " ، قال : هذا كله منسوخ ، نسخ هذا أمره بجهادهم كافة .
[ ص: 477 ]
وقال آخرون : الذي نسخ من هذه الآية قوله : " ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام " .
ذكر من قال ذلك :
10972 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عبدة بن سليمان قال : قرأت على ابن أبي عروبة فقال : هكذا سمعته من قتادة : نسخ من"المائدة" : " آمين البيت الحرام " ، نسختها"براءة" قال الله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) ، وقال : ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ) [ سورة التوبة : 17 ] ، وقال : ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) [ سورة التوبة : 27 ] ، وهو العام الذي حج فيه أبو بكر ، فنادى فيه بالأذان .
10973 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا همام بن يحيى ، عن قتادة قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله " الآية ، قال : فنسخ منها : " آمين البيت الحرام " ، نسختها"براءة" ، فقال : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) ، فذكر نحو حديث عبدة .
10974 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : نزل في شأن الحطم : "ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام" ، ثم نسخه الله فقال : ( واقتلوهم حيث ثقفتموهم ) [ سورة البقرة : 191 ] .
10975 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن [ ص: 478 ] علي ، عن ابن عباس قوله : " لا تحلوا شعائر الله " إلى قوله : "ولا آمين البيت" ، [ فكان المؤمنون والمشركون يحجون إلى البيت ] جميعا ، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا أن يحج البيت أو يعرضوا له ، من مؤمن أو كافر ، ثم أنزل الله بعد هذا : ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، وقال : ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ) ، وقال : ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ) [ سورة التوبة : 18 ] ، فنفى المشركين من المسجد الحرام .
10976 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام" ، الآية ، قال : منسوخ ، كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج ، تقلد من السمر فلم يعرض له أحد . وإذا رجع ، تقلد قلادة شعر فلم يعرض له أحد . وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت . وأمروا أن لا يقاتلوا في الأشهر الحرم ، ولا عند البيت ، فنسخها قوله : "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " .
وقال آخرون : لم ينسخ من ذلك شيء ، إلا القلائد التي كانت في الجاهلية يتقلدونها من لحاء الشجر .
ذكر من قال ذلك :
10977 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام" ، الآية ، قال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : هذا كله من عمل الجاهلية فعله وإقامته ، فحرم الله ذلك كله بالإسلام ، إلا لحاء القلائد ، فترك [ ص: 479 ] ذلك "ولا آمين البيت الحرام" ، فحرم الله على كل أحد إخافتهم .
10978 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصحة ، قول من قال : نسخ الله من هذه الآية قوله : " ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام " ، لإجماع الجميع على أن الله قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها من شهور السنة كلها . وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قلد عنقه أو ذراعيه لحاء جميع أشجار الحرم ، لم يكن ذلك له أمانا من القتل ، إذا لم يكن تقدم له عقد ذمة من المسلمين أو أمان وقد بينا فيما مضى معنى"القلائد" في غير هذا الموضع .
وأما قوله : " ولا آمين البيت الحرام " ، فإنه محتمل ظاهره : ولا تحلوا حرمة آمين البيت الحرام من أهل الشرك والإسلام ، لعموم جميع من أم البيت . وإذا احتمل ذلك ، فكان أهل الشرك داخلين في جملتهم ، فلا شك أن قوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) ، ناسخ له . لأنه غير جائز اجتماع الأمر بقتلهم وترك قتلهم في حال واحدة ووقت واحد . وفي إجماع الجميع على أن حكم الله في أهل الحرب من المشركين قتلهم ، أموا البيت الحرام أو البيت المقدس ، في أشهر الحرم وغيرها ما يعلم أن المنع من قتلهم إذا أموا البيت الحرام منسوخ . ومحتمل أيضا : ولا آمين البيت الحرام من أهل الشرك .
وأكثر أهل التأويل على ذلك .
وإن كان عني بذلك المشركون من أهل الحرب ، فهو أيضا لا شك منسوخ .
[ ص: 480 ]
وإذ كان ذلك كذلك وكان لا اختلاف في ذلك بينهم ظاهر ، وكان ما كان مستفيضا فيهم ظاهرا حجة فالواجب ، وإن احتمل ذلك معنى غير الذي قالوا ، التسليم لما استفاض بصحته نقلهم .
القول في تأويل قوله ( يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا )
قال أبو جعفر : يعني بقوله : "يبتغون" ، يطلبون ويلتمسون و"الفضل" الأرباح في التجارة و"الرضوان" ، رضى الله عنهم ، فلا يحل بهم من العقوبة في الدنيا ما أحل بغيرهم من الأمم في عاجل دنياهم ، بحجهم بيته .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
10979 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : حدثنا معمر ، عن قتادة في قوله : " يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا " ، قال : هم المشركون ، يلتمسون فضل الله ورضوانه فيما يصلح لهم دنياهم .
10980 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عبدة بن سليمان قال : قرأت على ابن أبي عروبة فقال : هكذا سمعته من قتادة في قوله : " يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا " ، والفضل والرضوان اللذان يبتغون : أن يصلح معايشهم في الدنيا ، وأن لا يعجل لهم العقوبة فيها .
[ ص: 481 ]
10981 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن ابن عباس : "يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا" ، يعني : أنهم يترضون الله بحجهم .
10982 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عبيد الله ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس قال : جلسنا إلى مطرف بن الشخير ، وعنده رجل فحدثهم في قوله : "يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا" ، قال : التجارة في الحج ، والرضوان في الحج .
10983 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن أبي أميمة قال : قال ابن عمر في الرجل يحج ويحمل معه متاعا ، قال : لا بأس به وتلا هذه الآية : " يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا " .
10984 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا" ، قال : يبتغون الأجر والتجارة .
القول في تأويل قوله ( وإذا حللتم فاصطادوا )
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وإذا حللتم فاصطادوا الصيد الذي نهيتكم أن تحلوه وأنتم حرم . يقول : فلا حرج عليكم في اصطياده ، واصطادوا إن شئتم حينئذ ، لأن المعنى الذي من أجله كنت حرمته عليكم في حال إحرامكم قد زال .
[ ص: 482 ]
وبما قلنا في ذلك قال جميع أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
10985 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : حدثنا حصين ، عن مجاهد أنه قال : هي رخصة يعني قوله : " وإذا حللتم فاصطادوا " .
10986 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن حجاج ، عن القاسم ، عن مجاهد قال : خمس في كتاب الله رخصة ، وليست بعزمة ، فذكر : "وإذا حللتم فاصطادوا" ، قال : من شاء فعل ، ومن شاء لم يفعل .
10987 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو خالد ، عن حجاج ، عن عطاء ، مثله .
10988 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حصين ، عن مجاهد : " وإذا حللتم فاصطادوا " ، قال : إذا حل ، فإن شاء صاد ، وإن شاء لم يصطد .
10989 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن إدريس ، عن ابن جريج ، عن رجل ، عن مجاهد : أنه كان لا يرى الأكل من هدي المتعة واجبا ، وكان يتأول هذه الآية : "وإذا حللتم فاصطادوا" ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ) [ سورة الجمعة : 10 ] .
[ ص: 483 ] القول في تأويل قوله ( ولا يجرمنكم )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "ولا يجرمنكم" ، ولا يحملنكم ، كما : -
10990 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " ولا يجرمنكم شنآن قوم " ، يقول : لا يحملنكم شنآن قوم .
10991 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ولا يجرمنكم شنآن قوم " ، أي : لا يحملنكم .
وأما أهل المعرفة باللغة فإنهم اختلفوا في تأويلها .
فقال بعض البصريين : معنى قوله : "ولا يجرمنكم " ، لا يحقن لكم ، لأن قوله : ( لا جرم أن لهم النار ) [ سورة النحل : 62 ] ، هو : حق أن لهم النار .
وقال بعض الكوفيين : معناه : لا يحملنكم . وقال : يقال : "جرمني فلان على أن صنعت كذا وكذا" ، أي : حملني عليه .
واحتج جميعهم ببيت الشاعر :
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
[ ص: 484 ]
فتأول ذلك كل فريق منهم على المعنى الذي تأوله من القرآن . فقال الذين قالوا : "لا يجرمنكم " ، لا يحقن لكم معنى قول الشاعر : "جرمت فزارة" ، أحقت الطعنة لفزارة الغضب .
وقال الذين قالوا : معناه : لا يحملنكم معناه في البيت : "جرمت فزارة أن يغضبوا" ، حملت فزارة على أن يغضبوا .
وقال آخر من الكوفيين : معنى قوله : "لا يجرمنكم " ، لا يكسبنكم شنآن قوم .
وتأويل قائل هذا القول قول الشاعر في البيت : "جرمت فزارة " ، كسبت فزارة أن يغضبوا . قال : وسمعت العرب تقول : "فلان جريمة أهله" ، بمعنى : كاسبهم "وخرج يجرمهم" ، يكسبهم .
قال أبو جعفر : وهذه الأقوال التي حكيناها عمن حكيناها عنه ، متقاربة المعنى . وذلك أن من حمل رجلا على بغض رجل ، فقد أكسبه بغضه . ومن أكسبه بغضه ، فقد أحقه له .
فإذا كان ذلك كذلك ، فالذي هو أحسن في الإبانة عن معنى الحرف ، ما قاله ابن عباس وقتادة ، وذلك توجيههما معنى قوله : "ولا يجرمنكم شنآن قوم" ، ولا يحملنكم شنآن قوم على العدوان .
[ ص: 485 ]
واختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأته عامة قرأة الأمصار : ( ولا يجرمنكم ) بفتح"الياء" من : "جرمته أجرمه" .
وقرأ ذلك بعض قرأة الكوفيين وهو يحيى بن وثاب ، والأعمش : ما : -
10992 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن الأعمش أنه قرأ : ( ولا يجرمنكم ) مرتفعة"الياء" ، من : "أجرمته أجرمه ، وهو يجرمني" .
قال أبو جعفر : والذي هو أولى بالصواب من القراءتين ، قراءة من قرأ ذلك : ( ولا يجرمنكم ) بفتح"الياء" ، لاستفاضة القراءة بذلك في قرأة الأمصار ، وشذوذ ما خالفها ، وأنها اللغة المعروفة السائرة في العرب ، وإن كان مسموعا من بعضها : "أجرم يجرم" على شذوذه . وقراءة القرآن بأفصح اللغات ، أولى وأحق منها بغير ذلك . ومن لغة من قال"جرمت" ، قول الشاعر :
يا أيها المشتكي عكلا وما جرمت إلى القبائل من قتل وإبآس
[ ص: 486 ] القول في تأويل قوله ( شنآن قوم )
اختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأه بعضهم : ( شنآن ) بتحريك"الشين والنون" إلى الفتح ، بمعنى : بغض قوم ، توجيها منهم ذلك إلى المصدر الذي يأتي على"فعلان" ، نظير"الطيران" و"النسلان" و"العسلان" و"الرملان" .
وقرأ ذلك آخرون : شنآن قوم بتسكين"النون" وفتح"الشين" بمعنى : الاسم ، توجيها منهم معناه إلى : لا يجرمنكم بغيض قوم فيخرج"شنآن" على تقدير"فعلان" ، لأن"فعل" منه على"فعل" كما يقال : "سكران" من"سكر" ، و"عطشان" من"عطش" ، وما أشبه ذلك من الأسماء .
قال أبو جعفر : والذي هو أولى القراءتين في ذلك بالصواب ، قراءة من قرأ : ( شنآن قوم ) بفتح"النون" محركة ، لشائع تأويل أهل التأويل على أن معناه : بغض قوم وتوجيههم ذلك إلى معنى المصدر دون معنى الاسم .
وإذ كان ذلك موجها إلى معنى المصدر ، فالفصيح من كلام العرب فيما جاء من المصادر على"الفعلان" بفتح"الفاء" ، تحريك ثانيه دون تسكينه ، كما وصفت من قولهم : "الدرجان" و"الرملان" ، من"درج" و"رمل" ، فكذلك"الشنآن" من"شنئته أشنؤه شنآنا" ، ومن العرب من يقول : "شنان" على تقدير"فعال" ، ولا أعلم قارئا قرأ ذلك كذلك ، ومن ذلك قول الشاعر : [ ص: 487 ]
وما العيش إلا ما تلذ وتشتهي وإن لام فيه ذو الشنان وفندا
وهذا في لغة من ترك الهمز من"الشنآن" ، فصار على تقدير"فعال" وهو في الأصل"فعلان" .
ذكر من قال من أهل التأويل : "شنآن قوم" ، بغض قوم .
10993 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : "ولا يجرمنكم شنآن قوم" ، لا يحملنكم بغض قوم .
10994 - وحدثني به المثنى مرة أخرى بإسناده ، عن ابن عباس فقال : لا يحملنكم عداوة قوم أن تعتدوا .
10995 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : "ولا يجرمنكم شنآن قوم" ، لا يجرمنكم بغض قوم .
10996 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : "ولا يجرمنكم شنآن قوم " ، قال : بغضاؤهم ، أن تعتدوا .
القول في تأويل قوله ( أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا )
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأه بعض أهل المدينة وعامة قرأة الكوفيين : ( أن صدوكم ) بفتح"الألف " [ ص: 488 ] من"أن" ، بمعنى : لا يجرمنكم بغض قوم بصدهم إياكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا .
وكان بعض قرأة الحجاز والبصرة يقرأ ذلك : ( ولا يجرمنكم شنآن قوم إن صدوكم ) ، بكسر"الألف" من"إن" ، بمعنى : ولا يجرمنكم شنآن قوم إن هم أحدثوا لكم صدا عن المسجد الحرام أن تعتدوا فزعموا أنها في قراءة ابن مسعود : ( إن يصدوكم ) ، فقرأوا ذلك كذلك اعتبارا بقراءته .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ، أنهما قراءتان معروفتان مشهورتان في قرأة الأمصار ، صحيح معنى كل واحدة منهما .
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صد عن البيت هو وأصحابه يوم الحديبية ، وأنزلت عليه"سورة المائدة" بعد ذلك ، فمن قرأ ( أن صدوكم ) بفتح"الألف" من"أن" ، فمعناه : لا يحملنكم بغض قوم ، أيها الناس ، من أجل أن صدوكم يوم الحديبية عن المسجد الحرام ، أن تعتدوا عليهم .
ومن قرأ : ( إن صدوكم ) بكسر"الألف" ، فمعناه : لا يجرمنكم شنآن قوم إن صدوكم عن المسجد الحرام إذا أردتم دخوله . لأن الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قريش يوم فتح مكة ، قد حاولوا صدهم عن المسجد الحرام . فتقدم الله إلى المؤمنين في قول من قرأ ذلك بكسر"إن" بالنهي عن الاعتداء عليهم ، إن هم صدوهم عن المسجد الحرام ، قبل أن يكون ذلك من الصادين .
غير أن الأمر ، وإن كان كما وصفت ، فإن قراءة ذلك بفتح"الألف" ، أبين معنى . لأن هذه السورة لا تدافع بين أهل العلم في أنها نزلت بعد يوم الحديبية .
[ ص: 489 ] وإذ كان ذلك كذلك ، فالصد قد كان تقدم من المشركين ، فنهى الله المؤمنين عن الاعتداء على الصادين من أجل صدهم إياهم عن المسجد الحرام .
وأما قوله : "أن تعتدوا" ، فإنه يعني : أن تجاوزوا الحد الذي حده الله لكم في أمرهم .
فتأويل الآية إذا : ولا يحملنكم بغض قوم ، لأن صدوكم عن المسجد الحرام ، أيها المؤمنون ، أن تعتدوا حكم الله فيهم ، فتجاوزوه إلى ما نهاكم عنه ، ولكن الزموا طاعة الله فيما أحببتم وكرهتم .
وذكر أنها نزلت في النهي عن الطلب بذحول الجاهلية .
ذكر من قال ذلك :
10997 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "أن تعتدوا" ، رجل مؤمن من حلفاء محمد ، قتل حليفا لأبي سفيان من هذيل يوم الفتح بعرفة ، لأنه كان يقتل حلفاء محمد ، فقال محمد صلى الله عليه وسلم : لعن الله من قتل بذحل الجاهلية .
10998 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : هذا منسوخ
ذكر من قال ذلك : [ ص: 490 ]
10999 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : "ولا يجرمنكم شنآن قوم أن تعتدوا" ، قال : بغضاؤهم ، حتى تأتوا ما لا يحل لكم . وقرأ : "أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا" ، وقال : هذا كله قد نسخ ، نسخه الجهاد .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول مجاهد أنه غير منسوخ ، لاحتماله : أن تعتدوا الحق فيما أمرتكم به . وإذا احتمل ذلك ، لم يجز أن يقال : "هو منسوخ" ، إلا بحجة يجب التسليم لها .
القول في تأويل قوله ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وتعاونوا على البر والتقوى " ، وليعن بعضكم ، أيها المؤمنون ، بعضا "على البر" ، وهو العمل بما أمر الله بالعمل به "والتقوى" ، هو اتقاء ما أمر الله باتقائه واجتنابه من معاصيه .
وقوله : " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ، يعني : ولا يعن بعضكم بعضا "على الإثم" ، يعني : على ترك ما أمركم الله بفعله "والعدوان" ، يقول : ولا على أن تتجاوزوا ما حد الله لكم في دينكم ، وفرض لكم في أنفسكم وفي غيركم .
