السؤال الثالث: هل لنا أمثلة من الأمم السابقة؟
تأخذنا السورة الكريمة إلى أمثلة متعددة من صور الابتلاء والاختبار؛ لتوضح لنا عمق وأهمية هذه التجارب في حياة المؤمن. هذه الأمثلة تظهر كيف يختبر الله عباده خاصة الأنبياء منهم الذين هم أفضل البشر على الله عز وجل، ليميز الصادقين من المدعين، وليعلم من يصبر ويثبت على الحق رغم الصعوبات والتحديات. إن الابتلاءات تأتي في صور متنوعة، منها ما يتعلق بالنفس، ومنها ما يتعلق بالمال والأهل والمكانة، ومنها ما يتعلق بالتكذيب، وكلها تهدف إلى تنقية القلوب وتقوية الإيمان.
القصة الأولى: قوم نوح عليه السلام:
يقول الله عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [العنكبوت: 14 - 15].
قال القرطبي: قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ﴾ ذكر قصة نوح تسليةً لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ أي: ابتلي النبيون قبلك بالكفار فصبروا. وخص نوحًا بالذكر؛ لأنه أول رسول أرسل إلى الأرض وقد امتلأت كفرًا. وأنه لم يلق نبي من قومه ما لقي نوح. قال الحسن: لما أتى ملك الموت نوحًا ليقبض روحه قال: يا نوح، كم عشت في الدنيا؟ قال: ثلاثمائة قبل أن أبعث، وألف سنة إلا خمسين عامًا في قومي، وثلاثمائة سنة وخمسين سنةً بعد الطوفان. قال ملك الموت: فكيف وجدت الدنيا؟ قال نوح: مثل دار لها بابان دخلت من هذا وخرجت من هذا.
قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ الهاء والألف في "جعلناها" للسفينة، أو للعقوبة، أو للنجاة، ثلاثة أقوال.
وتأمل هنا أن عمر الدعوة كان ألف سنة إلا خمسين عامًا، عمر مديد، وكل من آمن حوتهم سفينة صنعها نوح عليه السلام بيده، وكان فيها من الحيوانات من كل زوجين اثنين، والنصر كان في إجابة دعوة نوح عليه السلام، بلا جيوش ولا قتال، بل بدعوة نبي من أولي العزم عليهم السلام، صدق الله وثبت بفضل الله على الحق والهدى.
القصة الثانية: قصة إبراهيم عليه السلام:
ثم يقول الله عز وجل في قصة أخرى في نفس السورة: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [العنكبوت: 16 - 18].
فماذا كان جواب قومه؟ يقول الله عز وجل: ﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [العنكبوت: 24].
وفي قصة إبراهيم عليه السلام لفتة مهمة، أن من الأنبياء من آتاه الله ثوابه في الدنيا والآخرة، ومنهم إبراهيم عليهم السلام، يقول الله عز وجل: ﴿ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [العنكبوت: 26، 27].
يقول القرطبي: قوله تعالى: ﴿ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ﴾ أول من صدق إبراهيم حين رأى النار عليه بردًا وسلامًا. قال ابن إسحاق آمن لوط بإبراهيم وكان ابن أخته، وآمنت به سارة وكانت بنت عمه.
﴿ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ﴾ قال النخعي وقتادة: الذي قال: ﴿ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ﴾ هو إبراهيم عليه السلام. وتأمل هنا أن النصر كان بتحويل النار إلى برد وسلام على إبراهيم عليه السلام.
القصة الثالثة: قصة لوط عليه السلام:
ثم تنتقل السورة إلى القصة الثالثة: ﴿ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 28-35].
وهنا لفتة مهمة، أن نصر الله عز وجل في هذه القصة لم يأتِ على الفور، بل دعا لوط عليه السلام ربه، واستجاب الله عز وجل له، وتخلل ذلك إرسال الرسل إلى إبراهيم بالبشرى، ثم ذهابهم إلى لوط، ثم موعدهم الصبح، ومع أن الصبح قريب، كما أن نصر الله عز وجل لدينه قريب، إلا أن هناك أقوامًا يستعجلون النصر، ونحن نؤمن بالنصر يقينًا، في الموعد الذي يشاء الله عز وجل.
القصة الرابعة: قصة مدين:
ثم القصة الرابعة، يقول الله عز وجل: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [العنكبوت: 36، 37].
القصة الخامسة والسادسة: قوم عاد وثمود:
ثم الإشارة إلى القصة الخامسة والسادسة، يقول الله عز وجل: ﴿ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ﴾ [العنكبوت: 38].
القصة السابعة والثامنة والتاسعة: قارون وفرعون وهامان:
ثم الإشارة إلى القصة السابعة والثامنة والتاسعة، في قول الله عز وجل: ﴿ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 39، 40].
وتأمل النهايات في كل هذه القصص، من الله عز وجل، دون أي أسباب من البشر.
السؤال الرابع: ما الذي يجب على المسلم فعله عند الابتلاء ليحظى بالفوز والنجاة؟
ثم تأخذنا الآيات إلى الأسباب الرئيسية في الفوز والنجاة عند وقوع الابتلاء، وهي كالتالي:
السبب الأول: توحيد الله عز وجل: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 41 - 43].
يقول ابن القيم: فذكر سبحانه أنهم ضعفاء، وأن الذين اتخذوهم أولياءهم أضعف منهم، فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت اتخذت بيتًا، وهو أوهن البيوت وأضعفها؛ وتحت هذا المثل أن هؤلاء المشركين أضعف ما كانوا حين اتخذوا من دون الله أولياء فلم يستفيدوا بمن اتخذوهم أولياء إلا ضعفًا؛ كما قال تعالى: ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ﴾ [مريم: 81، 82]، وقال تعالى: ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ * لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ﴾ [يس: 74، 75].
وقال بعد أن ذكر إهلاك الأمم المشركين: ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ﴾ [هود: 101].
فهذه أربعة مواضع في القرآن تدل على أن من اتخذ من دون الله وليًّا يتعزز به، ويتكبر به، ويستنصر به، لم يحصل له به إلا ضد مقصوده، وفي القرآن أكثر من ذلك، وهذا من أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك وخسارة صاحبه وحصوله على ضد مقصوده.
فإن قيل: فهم يعلمون أن أوهن البيوت بيت العنكبوت، فكيف نفى عنهم علم ذلك بقوله: ﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾؟ فالجواب أنه سبحانه لم ينفِ عنهم علمهم بوهن بيت العنكبوت، وإنما نفى عنهم علمهم بأن اتخاذهم أولياء من دونه كالعنكبوت اتخذت بيتًا، فلو علموا ذلك لما فعلوه، ولكن ظنوا أن اتخاذهم الأولياء من دونه يفيدهم عزًّا وقدرةً، فكان الأمر بخلاف ما ظنوه.
وضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور التذكير والوعظ والحث والزجر والاعتبار والتقرير وتقريب المراد للعقل وتصويره في صورة المحسوس بحيث يكون نسبته للعقل كنسبة المحسوس إلى الحس. وقد تأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر على المدح والذم وعلى الثواب والعقاب وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره وعلى تحقيق أمر وإبطال أمر والله أعلم.
ومن عجيب حيل العنكبوت أنه ينسج تلك الشبكة شركًا للصيد ثم يكمن في جوفها فإذا نشب فيها البرغش والذباب وثب عليه وامتص دمه، فهذا يحكي صيد الأشراك والشباك، والأول يحكي صيد الكلاب والفهود، ولا تزدرينَّ العبرة بالشيء الحقير من الذرة والبعوض، فإن المعنى النفيس يقتبس من الشيء الحقير، والازدراء بذلك ميراث من الذين استنكرتْ عقولهم ضرب الله تعالى في كتابه المثل بالذباب والعنكبوت والكلب والحمار، فأنزل الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾ [البقرة: 26]، فما أغزر الحِكَم وأكثرها في هذه الحيوانات التي تزدريها وتحتقرها! وكم من دلالة فيها على الخالق ولطفه ورحمته وحكمته! فسل المعطل: مَن ألهمها هذه الحيل والتلطف في اقتناص صيدها الذي جعل قوتها، ومَن جعل هذه الحيل فيها بدل ما سلبها من القوة والقدرة فأغناها ما أعطاها من الحيلة عما سلبها من القوة والقدرة سوى اللطيف الخبير؛ انتهى من كلامه رحمه الله.
السبب الثاني: ديمومة قراءة القرآن وإقام الصلاة وذكر الله عز وجل:
﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].
السبب الثالث: الإيمان بالقرآن الكريم اعتقادًا واتِّباعًا وتصديقًا وعملًا وتلاوةً:
﴿ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ ﴾ [العنكبوت: 47].
وجاءت عدة آيات في فضل القرآن الكريم وإعجازه كنت أتمنى أن يتسع المقام لبسطها.
السبب الرابع: عدم الاستعجال:
﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [العنكبوت: 53 - 55].
وهنا يكمن موضع العبرة: عدم الاستعجال، فالتأخير في تحقُّق النصر للمؤمنين أو في إنزال العقوبة على الظالمين ليس دليلًا على ضعف أو عجز من الله عز وجل، بل هو جزء من حكمته البالغة وتدبيره المحكم. إن الله سبحانه وتعالى يعلم مواطن الخير، ويعلم ما يصلح عباده في الوقت الذي يراه مناسبًا، فيؤخر النصر ليزداد المؤمنون صبرًا وثباتًا، ولتنضج قلوبهم باليقين، ويمهل الظالمين لعلهم يتوبون أو تزيد عليهم الحجة. فهذا التأخير هو جزء من الابتلاء والتمحيص، ودرس للمؤمنين في التوكل على الله والرضا بقضائه وانتظار فرجه بتفاؤل وثقة.
السبب الخامس: الهجرة للمستضعفين مع اليقين بأن الرزق من الله عز وجل:
﴿ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ﴾ [العنكبوت: 56].
﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [العنكبوت: 60].
السبب السادس: الإيمان والعمل الصالح:
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [العنكبوت: 58].
السبب السابع: الصبر على الإيمان والعمل الصالح والتوكل على الله عز وجل:
﴿ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [العنكبوت: 59].
السبب الثامن: الجهاد في سبيل الله، ويشمل كافة صور الجهاد:
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].
قال ابن القيم: علق سبحانه الهداية بالجهاد، فأكملُ الناس هدايةً أعظمُهم جهادًا، وأفضلُ الجهاد جهادُ النفس، وجهادُ الهوى، وجهادُ الشيطان، وجهادُ الدنيا. فمن جاهد هذه الأربعة في الله، هداه الله سُبُل رضاه الموصلة إلى جنته. ومن ترك الجهاد، فاته من الهدى بحسب ما عَطَّل من الجهاد.
قال الجنيد: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا ﴾ أهواءهم ﴿ فِينَا ﴾ بالتوبة ﴿ لَنَهْدِيَنَّهُمْ ﴾ سُبُل الإخلاص.
ولا يتمكن من جهاد عدوِّه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنًا، فمن نُصِر عليها نُصِر على عدوِّه، ومن نُصِرت عليه نُصِر عليه عدوُّه.
قال الأوزاعي وابن المبارك: إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما عليه أهل الثغر؛ يعني: أهل الجهاد، فإن الله تعالى يقول: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].
قلت: وفي هذا ردٌّ على الذين يحملون إخواننا المجاهدين مسؤولية ما يحدث، متناسين الخذلان غير المسبوق، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فلا يفتي القاعد للمجاهد.
ثم يواصل ابن القيم كلامه فيقول: واعلم أن حقيقة الصبر مع الله هو ثبات القلب بالاستقامة معه، وهو ألا يروغ عنه روغان الثعالب ها هنا وها هنا، فحقيقة هذا هو الاستقامة إليه وعكوف القلب عليه.
وقد قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ وقال: ﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ ﴾ [الحج: 78]، وفي حديث جابر: "إن الله تعالى لما أحيا أباه وقال له: تمَنَّ. قال: يا رب أن ترجعني إلى الدنيا حتى أُقْتَل فيك مرة ثانية"، وقال: "ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد".
وهذا يفهم منه معنيان أحدهما أن ذلك في مرضاته وطاعته وسبيله، وهذا فيما يفعله الإنسان باختياره كما في الحديث: "تعلمت فيك العلم".
والثاني إنه بسببه وبجهته حصل ذلك، وهذا فيما يصيبه بغير اختياره وغالب ما يأتي قولهم: "ذلك في الله" في هذا المعنى.
فتأمل قوله: "ولقد أوذيت في الله،" وقول خبيب: "وذلك في ذات الإله" وقول عبدالله بن حرام: "حتى أقتل فيك" وكذلك قوله: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا ﴾، فإنه يترتب عليه الأذى فيه سبحانه.
وليست (في) ها هنا للظرفية، ولا لمجرد السببية، وإن كانت السببية هي أصلها فانظر إلى قوله: "في نفس المؤمن مائة من الإبل"، وقوله: "دخلت امرأة النار في هِرَّة" كيف تجد فيه معنًى زائدًا على السببية وليست "في" للوعاء في جميع معانيها، فقولك: "فعلت هذا في مرضاتك" فيه معنى أزيد على قولك: "فعلته لمرضاتك"، وأنت إذا قلت: "أوذيت في الله" لا يقوم مقام هذا اللفظ كقولك: "أوذيت لله" ولا "بسبب الله"، وإذا فهم المعنى طوى حكم العبارة. والمقصود أن الصبر في الله إن أريد به هذا المعنى فهو حق، وإن أريد به معنى خارج عن الصبر على أقضيته وعلى أوامره وعن نواهيه وله وبه لم يحصل. فالصابر في الله كالمجاهد في الله، والجهاد فيه لا يخرج عن معنى الجهاد به وله. والله الموفق؛ انتهى من كلامه رحمه الله.
ختامًا: هذه وقفات مباركة مع سورة العنكبوت، السورة التي تتناول الفتنة كحقيقة حتمية في حياة المسلم، ونسأل الله السلامة والعافية، تتجلى فيها أسباب الفتنة التي يجب أن يحذر منها المؤمن، وتتركز في ثلاثة محاور: الحب الجِبِلِّي، والترهيب، والترغيب. كما تحتوي السورة على تسع قصص للأنبياء مع أقوامهم، تقدم دروسًا عظيمة يجب على كل مسلم التوقف عندها واستنباط العبر منها، وهي قصص: قوم نوح، وإبراهيم، ولوط، ومدين، وعاد، وثمود، وقارون، وفرعون، وهامان.
أما عن أسباب النصر، فقد تضمنتها السورة الكريمة في ثمانية أسباب رئيسية، قد تزيد حسب ما يفتحه الله على عباده: توحيد الله عز وجل، الاستمرار في قراءة القرآن، وإقامة الصلاة، وذكر الله، الإيمان بالقرآن الكريم قولًا وعملًا، وتصديقًا وتلاوةً، عدم الاستعجال وانتظار حكمة الله في كل أمر، الهجرة للمستضعفين، مع اليقين بأن الرزق من الله، الإيمان والعمل الصالح، الصبر على الإيمان والعمل الصالح، والتوكل على الله، والجهاد في سبيل الله بكافة صوره وأشكاله.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الثبات على دينه، وأن يجعلنا من الذين ينجون من الفتن، ويفوزون بنصر الله وتأييده، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.
اللهم إنا عبيدك، بنو عبيدك، بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، عَدْلٌ فينا قضاؤك، نسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو عَلَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب هَمِّنا وغَمِّنا.
اللهم انصر إخواننا في غزة وفي كل ديار المسلمين، واربط على قلوبهم، وأنزل عليهم من رحماتك، اللهم داوِ جرحاهم، واشْفِ مرضاهم، وتقبَّل شهداءهم. اللهم إنهم إخواننا، قد ظُلِموا بغير حق، وأُخْرِجوا من ديارهم بغير حق، اللهم انتصر لهم، واربط على قلوبهم، وردهم إلى ديارهم، ومساجدهم سالمين آمنين. اللهم يا رب العالمين، يا أرحم الراحمين، يا رب السماوات والأرض، يا من بيده مقاليد الأمور، نسألك أن تنصر إخواننا على عدوِّك وعدوِّهم وعدوِّنا نصرًا عزيزًا مؤزرًا. اللهم انصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، واجعل الدائرة تدور على أعدائهم وأعوانهم. اللهم ارفع الحصار عن إخواننا، واجعل ديارهم وأوطانهم آمنةً مطمئنةً، اللهم انصر إخواننا، وارحم شهداءهم، واشفِ جرحاهم، وفكَّ أسراهم، واحفظهم من كل مكروه وسوء.
اللهم إنا نسألك باسمك القَهَّار أن تقهر من قهر إخواننا، ونسألك أن تنصرهم على القوم المجرمين. اللهم بارك جهاد المجاهدين في كل أرض المسلمين، وأيِّدهم بجنودك ونصرك يا قوي يا كريم. اللهم انصر إخواننا المجاهدين، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم.
اللهم من كان من والدينا حيًّا، فأطل عمره في طاعتك، ومُنَّ عليه بالصحة والعافية وحسن الخاتمة، ومن سبقنا منهم إليك، فاغفر له ذنبه، ووسع له في قبره مد بصره، وآنس وحدته ووحشته.
اللهم ربِّ لنا أبناءنا، وأصلح نساءنا، واهدِ بناتنا، وارزقهن العفاف، ووفق المسلمين لكل خير وبر.
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.