شرح سنن أبي داود
(عبد المحسن العباد)
كتاب الزكاة
شرح سنن أبي داود [199]
الحلقة (230)
شرح سنن أبي داود [199]
لقد حثنا ديننا على علو الهمة، وعلى الاعتماد على النفس، ونهانا عن سفاسف الأمور وسقطاتها، وعن الاعتماد على الآخرين، لذا فقد نهى عن مسألة الناس وتكففهم، وحذر من ذلك وقبّحه، ورتّب عليه العقاب في الآخرة، فالمسألة إراقة لماء الوجه، وسكب لحياء النفس، وتذلل للعباد، وقد بين الشرع من تحل له المسألة، فإذا قضى حاجته فليستعفف.
الذين يجوز لهم أخذ الصدقة وهم أغنياء
شرح حديث (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة...)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب من يجوز له أخذ الصدقة وهو غني. حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: [ (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغازٍ في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين، فأداها المسكين للغني) ]. أورد أبو داود باب: من يجوز له أخذ الصدقة وهو غني، وقد سبق أن مر أن الصدقة لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب، وجاء هنا أن بعض الأغنياء يأخذون منها لكن ليس للغنى، وإنما لأوصاف أُخر غير الغنى، فلا ينافي هذا ما تقدم؛ لأن المنع هناك من أجل الغنى، والجواز هنا من أجل وصف آخر غير الغنى. وقد أورد أبو داود حديثاً مرسلاً عن عطاء بن يسار ، وسيذكره بعد هذا مسنداً من حديث أبي سعيد . وهذا المرسل فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله)، وهو المجاهد في سبيل الله، فله أن يأخذ من الزكاة ولو كان غنياً؛ لأنه يصرف على نفسه في الجهاد في سبيل الله، فيجوز له أن يأخذ من الصدقة لا لغناه ولكن لكونه مجاهداً في سبيل الله، فهو داخل في مصرف: في سبيل الله، وهو أحد مصارف الزكاة كما قال تعالى: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:60]، وسبيل الله هو الجهاد في سبيل الله، فالغازي مجاهد في سبيل الله، وهو من أهل الزكاة ولو كان غنياً. قوله: (أو لعامل عليها)، أي: الذي يشتغل في جبايتها، فإنه يأخذ أجرة مقابل عمله ولو كان غنياً، ولا يلزم أن يكون العامل عليها فقيراً حتى يأخذ منها، فالفقير يأخذ لفقره، والعامل يأخذ لعمله سواء كان غنياً أو فقيراً. وإذا كان موظفاً من الحكومة فإذا كان ذلك ما يسمونه (بدل انتداب) فإنه إذا سافر عن محل عمله يحصل مقابل ذلك غير الوظيفة؛ لكونه انتقل من بلده إلى بلد آخر، فهذا من جنسه إذا كان موظفاً وكان عمله خارج البلد، وأما إذا كان في داخل البلد فهو في حكم الوظيفة. قوله: (أو لغارم)، الغارم هو الذي استدان وتحمل مالاً للإصلاح بين الناس، فإنه يعطى من الزكاة لكونه غارماً لا لكونه غنياً، وهو من الأصناف الثمانية كما في آية التوبة. قوله: (أو لرجل اشتراها بماله) فلو أن فقيراً تُصدِّق عليه بصدقه فباعها، فاشتراها غني فإن الذي اشتراها بماله وهو غني إنما وصلت إليه الصدقة عن طريق الشراء، ولم تصل إليه الصدقة عن طريق التصدق عليه، وإنما جاءت عن طريق تملكها بالمال الذي دفعه في مقابلها، فإذاً هي صدقة وصلت إلى غني، لكن عن طريق الشراء، ولا يكون هو المتصدق. وأما لو كان هو المتصدق فقد سبق أن مر بنا قصة عمر عندما حمل على فرس في سبيل الله، ثم وجده يباع فذهب يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاه عن شرائه، وقال: لا تعد في صدقتك، والسبب في هذا -والله أعلم- أن بائع الصدقة إذا باعها على المتصدق فلعله أن يداريه ويراعيه؛ لأن له معروفاً وإحساناً عليه فيتسامح معه، بخلاف غيره فإنه لا يستحي منه، وقد ذكر في (عون المعبود) خلافاً في هذا، فمنهم من قال بكراهة ذلك، ومنهم من قال: إن البيع مفسوخ، والذي يظهر أن الإنسان ليس له أن يشتري الصدقة، والمقصود هنا صدقة غيره. قوله: (أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأداها المسكين للغني)، أي: فإنها عند ذلك تخرج عن كونها صدقة؛ لأنّ الإنسان الذي أعطيت له صارت له ملكاً، فله أن يتصرف فيها كيف يشاء، وذلك إما بالبيع أو الإهداء أو غير ذلك، فالصورة السابقة فيها بيع، وهذه الصورة فيها إهداء، فسواء خرجت من الفقير إلى غيره من الأغنياء عن طريق البيع كما هي الصورة السابقة، أو عن طريق الإهداء كما في هذه الصورة الأخيرة؛ فكل ذلك سواء، وذكر الجار هنا لا مفهوم له، فلو تصدق على مسكين ليس جاراً له فالأمر سواء، وإنما ذكر الجار على سبيل المثال، ولأن التهادي يكون غالباً بين الجيران. وفي بعض النسخ: (فأداها) بدلاً من (أهداها) والنتيجة واحدة، فـ(أداها) أي: أعطاه إياها، و(أهداها) أي: أعطاه إياها هدية، فالمعنى كله صحيح.
تراجم رجال إسناد حديث (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة...)
قوله: [ حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم ]. عبد الله بن مسلمة مر ذكره، ومالك بن أنس إمام دار الهجرة، الفقيه المحدث الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. [ عن زيد بن أسلم ]. زيد بن أسلم المدني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن عطاء بن يسار ]. عطاء بن يسار ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهو إذاً مرسل، لكن الحديث الذي سيأتي بعده متصل.
شرح حديث (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة...) من طريق ثانية وتراجم رجالها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمعناه ]. وهو كالسابق. قوله: [ حدثنا الحسن بن علي ]. الحسن بن علي الحلواني ثقة أخرج له أصحاب الكتب إلا النسائي . [ حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري ]. وقد مر ذكرهم جميعاً. [ قال أبو داود : ورواه ابن عيينة عن زيد كما قال مالك]. قوله: كما قال مالك ، أي أنه مرسل، يعني: عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم. [ ورواه الثوري عن زيد قال: حدثني الثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ]. وهذا أيضاً مرسل، فإنه لم يسم من حدثه.
شرح حديث (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة...) من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن عوف الطائي حدثنا الفريابي حدثنا سفيان عن عمران البارقي عن عطية عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله، أو ابن السبيل، أو جار فقير يتصدق عليه فيهدي لك، أو يدعوك) ]. أورد أبو داود حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله) يعني: غازياً في سبيل الله، وهذا قد مر في السابق. قوله: (أو ابن السبيل)، وهذا ليس في الرواية السابقة، لكنه يدخل أيضاً؛ لأن ابن السبيل المنقطع ولو كان غنياً في بلده فإنه يعطى ما يوصله إلى بلده. قوله: (أو جار فقير يتصدق عليه فيهدي لك، أو يدعوك) وهذا مثل الأول، ومعنى ذلك أن يصنع وليمة فيدعوك لتأكل منها، فهي صدقة عليه، وبعد أن ملكها فإنه يتصرف فيها بالإهداء أو بالإطعام، فلا حرج على الغني بأن يتناول شيئاً من طعام الفقير الذي تصدق به عليه، أو يقبل هدية منه، ويشبه ذلك ما جاء في قصة بريرة رضي الله عنها أنه تصدق عليها وأنهم أكلوا مما تصدق به عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هو لها صدقة، ولنا هدية) يعني: منها، فدل هذا على أن الفقير إذا ملك شيئاً فإنه يتصرف فيه كيف يشاء إما بالإهداء، أو بالإطعام، وأنه لا حرج على الغني إذا أكل أو طعم من طعام المتصدق عليه، أو أخذ هدية من المتصدق عليه، وهو مثل الذي قبله إلا أن فيه زيادة ابن السبيل.
تراجم رجال إسناد حديث (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة) من طريق ثالثة
قوله: [ حدثنا محمد بن عوف الطائي ] . محمد بن عوف الطائي ثقة أخرج له مسلم ، و أبو داود و النسائي في (مسند علي) [ حدثنا الفريابي ]. الفريابي هو محمد بن يوسف الفريابي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا سفيان ]. سفيان هو الثوري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن عمران البارقي ]. عمران البارقي مقبول أخرج له أبو داود . [ عن عطية ]. هو عطية بن سعد العوفي ، وهو صدوق يخطئ كثيراً، أخرج حديثه البخاري في (الأدب المفرد) و أبو داود و الترمذي و ابن ماجة . وهذا الحديث ضعفه الألباني ، ولعله من أجل عطية ومن أجل عمران البارقي ، فالأول يخطئ كثيراً، والثاني مقبول، ولكن ذكر الغازي في سبيل الله والفقير الذي يتصدق عليه موجود في الحديث السابق، وأما ابن السبيل فهو وإن كان غنياً في بلده فإن غناه لا ينفعه في هذه الحال، فلا بأس أن يعطى من الزكاة ما يوصله إلى بلده، وقد جاء بذلك القرآن، وهو مطلق فيعطى سواء كان غنياً أو فقيراً، وإذا كان ابن السبيل منقطعاً فإنه يعطى ولو كان كافراً. ومما لم يذكر أيضاً المؤلفة قلوبهم، فإنهم يعطون مع غناهم، فالتأليف أمر خارج عن الغنى، أما لو كانوا فقراء فإنهم يعطون لفقرهم، أما في التأليف فيعطى مع غناه ولو كان كافراً. [ قال أبو داود : ورواه فراس و ابن أبي ليلى عن عطية عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ] . فراس يحيى الهمداني ، صدوق ربما وهم أخرج له أصحاب الكتب الستة. و ابن أبي ليلى هذا يحتمل أنه محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى وهو ضعيف، أو عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، والأول أقرب؛ لأنه المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق.
أسئلة
حكم أخذ المقابل على شحن كتب وقف لله تعالى
السؤال: جاءتني كتب مكتوب عليها: وقف لله تعالى، وأريد أن أشحنها إلى بلدي بمالي الخاص، غير أني سأطلب من الإخوة تعويض الشحن، فما حكم هذا العمل، علماً أنني اتفقت مع البعض ولم أتفق مع البقية، وأنا على علم أنهم يوافقون على ذلك؟ الجواب: إن كنت متبرعاً فلا تطلب منهم شيئاً، وإن كنت فعلت ذلك على أساس أنهم يعطونك، فلا بأس أن تأخذ إذا أعطوك.
الضرائب الحكومية وإسقاطها للزكاة
السؤال: إذا فرضت الحكومة ضرائب على التجار فهل للتاجر أن يعتبر هذه الضريبة زكاة فتسقط من الذمة؟ الجواب: لا يعتبرها زكاة، فإن الزكاة حق يجب إخراجه للفقراء والمساكين، والشيء الذي أخذ منه بغير حق لا يعتبر مقابل هذا الحق الذي هو لازم للفقراء والمساكين.
كم يعطى الرجل الواحد من الزكاة
شرح حديث ابن أبي حثمة (وداه بمائة من إبل الصدقة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب كم يعطى الرجل الواحد من الزكاة. حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا أبو نعيم حدثني سعيد بن عبيد الطائي عن بشير بن يسار زعم أن رجلاً من الأنصار يقال له: سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه أخبره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وداه بمائة من إبل الصدقة، يعني: دية الأنصاري الذي قتل بخيبر) ]. قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله: باب كم يعطى الرجل الواحد من الصدقة؟ والمقصود من هذا أن الشخص يعطى ما يحتاج إليه، وكل شيء بحسبه، فالغارم يعطى ما يقابل ما تحمله من الغرم، والمؤلف قلبه يعطى ما يحصل به المقصود، وابن السبيل يعطى ما يوصله إلى بلده، والفقير يعطى ما يكفيه لمدة سنة، أي: أن كلاً منهم يعطى بحسبه ولو كان الذي يعطاه كثيراً. وأورد أبو داود حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ودى الرجل الأنصاري الذي قتل بخيبر بمائة من إبل الصدقة. ووجه إيراد أبي داود لهذا الحديث في هذا الباب، وفي كتاب الزكاة، أن من غرم مالاً لإصلاح ذات البين فإنه يعطى من الزكاة، وقصة الأنصاري الذي قتل بخيبر تأتي في أبواب كثيرة لاسيما القسامة، فإن حديث القسامة إنما جاء في هذه القصة، وهو ثابت في الصحيحين وفي غيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإيراده من أجل دخوله في الغرامة لإصلاح ذات البين.
تراجم رجال إسناد حديث ابن أبي حثمة (وداه بمائة من إبل الصدقة)
قوله: [ حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ]. الحسن بن محمد بن الصباح ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن. [ حدثنا أبو نعيم ] . أبو نعيم الفضل بن دكين الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثني سعيد بن عبيد الطائي ]. سعيد بن عبيد الطائي ثقة أخرج له أصحاب الكتب إلا ابن ماجة . [ عن بشير بن يسار ]. بشير بن يسار ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ زعم أن رجلاً من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة ]. سهل بن أبي حثمة صحابي صغير، وكلمة (زعم) تعني أخبر، فالزعم يأتي كثيراً بمعنى الإخبار المحقق، ولا يراد به الشك أو الظن، وإنما يراد به الخبر المحقق، وكثيراً ما يأتي في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الأسانيد، فزعم هنا بمعنى أخبر خبراً محققاً، و سهل بن أبي حثمة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
إعطاء المستحق للزكاة بحسب حاجته
يعطى الشخص -إذا كان فقيراً- ما يكفيه لمدة سنة، هذا هو الصحيح. وإن كان من الغارمين فإنه يعطى مقدار غرامته، فإذا تحمّل مالاً لإصلاح ذات البين فإنه لا يخلى بينه وبين هذا الغرم الذي تحمله؛ لأنه تحمله للإصلاح، فيعطى ما يقابله. وأما إذا كان غرم هذا الدين لنفسه فهذا فيه خلاف بين أهل العلم، فمنهم من يقول: إنه يعطى ما يكفيه أو بعض ذلك، وبعض أهل العلم يقولون: إن الغرم إنما هو لإصلاح ذات البين، وأما إذا كان فقيراً فإنه يعطى لفقره. ويكثر السؤال عن إعطاء الزكاة لمن يريد الزواج ولم يتوفر عنده المهر كاملاً، أو يعطى لتأثيث البيت؟ فنقول: لا بأس بذلك؛ لأنه إذا كان فقيراً فإنه يعطى ويساعد من الزكاة لفقره، وإذا لم يكن فقيراً وإنما بسبب غلاء المهور فالأولى أن تصرف الزكوات للفقراء، فالذي يعطى ليسد جوعته وفاقته أولى من غيره ممن يأخذ لقضاء حاجة أخرى.
ما تجوز فيه المسألة
شرح حديث (المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه ... )
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب ما تجوز فيه المسألة. حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة عن عبد الملك بن عمير عن زيد بن عقبة الفزاري عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه ومن شاء ترك، إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان، أو في أمر لا يجد منه بداً) ]. أورد أبو داود باب ما تجوز فيه المسألة، يعني الأحوال والأمور التي يجوز للإنسان أن يسأل فيها، وأورد هنا حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه ومن شاء ترك يعني: أنه كلما كثرت المسائل كثرت الكدوح في الوجه، ويأتي يوم القيامة وهذه الكدوح في وجهه علامة على ذلك، وسبق أن مر بنا بعض الأحاديث المتعلقة بذلك. قوله: (إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان) لأن سؤال السلطان ليس فيه سؤال لأموال الناس، فإن له حقاً في بيت المال، فإذا سأل في أمر لابد منه، أو كان مضطراً إلى السؤال فلا بأس، وذكر السلطان في الحديث يدل على الإباحة؛ لأن له حقاً، لكن إذا تعفف الإنسان ولم يسأل السلطان فهو أفضل. وإذا كان الرجل محتاجاً فله أن يسأل السلطان وغيره، وجاء في حديث عمر : (ما أتاك من غير استشراف ولا مسألة فخذه)، فهذا يدل على أن الإنسان يتعفف حتى فيما عند السلطان.
تراجم رجال إسناد حديث ( المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه ... )
قوله: [ حدثنا حفص بن عمر النمري ]. حفص بن عمر ثقة أخرج له البخاري و أبو داود و النسائي . [ حدثنا شعبة ]. شعبة بن الحجاج الواسطي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن عبد الملك بن عمير ]. عبد الملك بن عمير ثقة فصيح عالم تغير حفظه، وربما دلس، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن زيد بن عقبة الفزاري ]. زيد بن عقبة الفزاري ثقة أخرج له أبو داود و الترمذي و النسائي . [ عن سمرة ]. سمرة بن جندب رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
شرح حديث (إن المسألة لا تحلّ إلا لأحد ثلاثة...)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن هارون بن رئاب حدثني كنانة بن نعيم العدوي عن قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله عنه قال: (تحملت حمالة فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أقم يا قبيصة ! حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، ثم قال يا قبيصة ! إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة، فسأل حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة، فسأل حتى يصيب قواماً من عيش -أو قال: سداداً من عيش- ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: قد أصابت فلاناً الفاقة، فحلت له المسألة، فسأل حتى يصيب قواماً من عيش -أو سداداً من عيش- ثم يمسك، وما سواهن من المسألة يا قبيصة ! سحت يأكلها صاحبها سحتاً) ]. أورد أبو داود حديث قبيصة بن مخارق رضي الله عنه: [ (أنه تحمل حمالة وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها)] أي بالحمالة؛ لأنه سأل عن هذه الحمالة، والصدقة -كما هو معلوم- قد تكون أكثر من الحمالة وقد تكون قليلة، فالذي يبدو أن الذي يؤمر له به هو الحمالة التي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أجلها. ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فله أن يسأل حتى يصيبها ثم يمسك) أي: حتى يحصل ما تحمله ثم يمسك، أي: فلا يستمر في السؤال، ولا يبحث عن شيء زائد على ذلك. (ورجل أصابت ماله جائحة) أي: إما احتراق، أو كان زرعاً أصابه برد فهلك، أو نزل عليه بَرَد وحتّه فتساقط، أو مرّ عليه سيل وأهلك المال الذي عنده، أو غير ذلك من الأسباب الظاهرة التي تكون معروفة ولا تخفى على الناس، فهذا يسأل حتى يحصِّل سداداً وقواماً من العيش، ولا يسأل حتى يحصل المال الذي ضاع منه ويرجع كما كان، وإنما يسأل عن الذي يكفيه. فالأول يسأل حتى يحصِّل الحمالة التي تحملها، وهذا يسأل حتى يحصل ما تكون به الكفاية، ولا يستمر حتى يرجع إليه ماله الذي فقده. قوله: (ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: قد أصابت فلاناً الفاقة، فحلت له المسألة، فسأل حتى يصيب قواماً من عيش، أو سداداً من عيش)، فهذا حصل له الفاقة بسبب خفي لا يعرف، والأول حصلت له جائحة، والجائحة تعرف؛ لأن الناس يشاهدونها ويعاينونها، وأما الفاقة فهي أمر خفي، فهذا لا يكفي أن يقول ويصدَّق فيما يقول، بل قال: (حتى يقول ثلاثة من أهل الحجا: إن فلاناً أصابته فاقة، فيسأل حتى يحصل سداداً من عيش، أو قواماً من عيش)، وأهل الحجا هم أصحاب العقول الذين عندهم فهم وخبرة ومعرفة، فيخرج بذلك الذين عندهم غفلة وليس عندهم خبرة ومعرفة، فإن مثل هؤلاء قد يقولون غير الحقيقة، لذا نصّ على أهل الحجا والعقل، فإذا شهدوا وأخبروا بأن فلاناً قد أصابته فاقة فله أن يسأل حتى يصيب سداداً من عيش أو قواماً من عيش. قوله: (وما سوى ذلك يا قبيصة ! فسحْت يأكله الإنسان سحتاً)، والسحت: هو ذاهب البركة، أي: الذي لا بركة ولا خير فيه.
تراجم رجال إسناد حديث (إنّ المسألة لا تحل إلّا لأحد ثلاثة...)
قوله: [ حدثنا مسدد ]. مسدد بن مسرهد البصري ثقة أخرج حديثه البخاري و أبو داود و الترمذي و النسائي . [ حدثنا حماد بن زيد ]. حماد بن زيد البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن هارون بن رئاب ]. هارون بن رئاب ثقة أخرج له مسلم و أبو داود و النسائي . [ حدثني كنانة بن نعيم العدوي ]. كنانة بن نعيم العدوي ثقة أخرج له مسلم و أبو داود و النسائي . [ عن قبيصة بن مخارق الهلالي ]. قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله عنه، وحديثه أخرجه مسلم و أبو داود و النسائي .
شرح حديث (إن المسألة لا تصلح إلّا لثلاثة لذي فقر مدقع...)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبد الله بن مسلمة أخبرنا عيسى بن يونس عن الأخضر بن عجلان عن أبي بكر الحنفي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأله، فقال: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء، قال: ائتني بهما، قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده وقال: من يشتري هذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال: من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثاً، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري، وقال: اشتر بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوماً فأتني به، فأتاه به فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عوداً بيده ثم قال له: اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينّك خمسة عشر يوماً، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هذا خير لك أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع) ]. أورد أبو داود رحمه الله حديث أنس رضي الله عنه. قوله: (إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع) أي: فقر شديد. قوله: (أو لذي غرم مفظع) أي: تحمل حمالة كبيرة، فتحل له المسألة. قوله: (أو لذي دم موجع) أي: أنه أصلح بين الناس وحقن الدماء، فإنه يحل لمن كان كذلك أن يسأل حتى يحصل مراده. والحديث في إسناده أبو بكر الحنفي وهو مجهول لا يعرف، فهو إذاً غير صحيح. وهذا الحديث يدل على جواز البيع بالمزايدة، وأنه لا يدخل في النهي عن البيع على البيع، لأن النهي عن البيع على البيع يكون إذا وجد الاستقرار وتمام البيع، ويكون في مدة خيار، وأما أن يقول: من يشتري هذا؟ فيقول رجل: أنا بكذا، ثم يزيد آخر فهذا لا بأس به، وقد جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم فيه الحث على العمل، وأن على الإنسان أن يسعى ويعمل، وأن ذلك خير له من أن يسأل الناس. وفيه بيان من تحل له المسألة. والحلس: هو كساء يفرش بعضه، ويتغطى ببعضه. وقوله: (نلبسه ونجلس عليه)، يطلق اللبس على التغطية، أي: أنهم يتغطون به، ومن ذلك حديث أنس : (فعمدنا إلى حصير قد اسود من طول ما لبس) أي: من طول ما استعمل في الافتراش، وهنا قال: (نلبسه)، أي: نلتحف به. والقعب: هو وعاء أو قدح.