عرض مشاركة واحدة
  #481  
قديم 30-12-2024, 04:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,137
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4649 الى صـ 4660
الحلقة (481)





القول في تأويل قوله تعالى:

[214 - 219] وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين .

[ ص: 4648 ] " وأنذر عشيرتك الأقربين أي: الأدنين. وإنه لا يخلص أحدا منه إلا إيمانه بربه عز وجل. وقد قال عليه الصلاة والسلام لما نزلت عليه: « يا فاطمة ابنة محمد ! يا صفية ابنة عبد المطلب ! لا أملك لكم من الله شيئا. أنقذوا أنفسكم من النار » . وقد بسط الأحاديث الواردة في ذلك، ابن كثير . فراجعه. وقوله تعالى: واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين أي: لين جانبك لهم. مستعار من حال الطائر. فإنه إذا أراد أن ينحط خفض جناحه: فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم أي: من النوم إلى التهجد: وتقلبك في الساجدين أي: المصلين. أي: تصرفك فيما بينهم بالقيام والركوع والسجود، إذا أممتهم. يعني: يراك وحدك ويراك في الجمع. والتوصيف بذلك للتذكير بالعناية بالصلاة ليلا وجمعا وفرادى. أو معنى الآية: لا يخفى عليه حالك، كلما قمت وتقلبت مع الساجدين، في كفاية أمور الدين. أو هي كناية عن رعايته صلوات الله عليه، والعناية به. كقوله تعالى: واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا
القول في تأويل قوله تعالى:

[220 - 222] إنه هو السميع العليم هل أنبئكم على من تنـزل الشياطين تنـزل على كل أفاك أثيم .

إنه هو السميع العليم أي: لما تقوله وبما تنويه: هل أنبئكم على من تنـزل الشياطين أي: تتنزل وهو استئناف مسوق لبيان استحالة تنزل الشياطين على رسول الله بعد امتناع تنزلهم بالقرآن: تنـزل على كل أفاك أثيم أي: كذاب في قوله، في الكلام من وجه إلى آخر، ولا يبالي بذلك. لأنه أثيم كثير الإثم والفجور في فعله. [ ص: 4649 ] وحيث كان المقام النبوي منزها عن ذلك، اتضح استحالة تنزلهم عليه.

قال القاشاني: لأن تنزلهم لا يكون إلا عند استعداد قبول النفوس لنزولها، بالمناسبة في الخبث والكيد والمكر والقدر والخيانة وسائر الرذائل. فمن تجرد عن صفات النفس، وترقى إلى جناب القدس، وتنورت نفسه بالأنوار الروحية ومصابيح الشهب السبوحية، وأشرق عقله بالاتصال بالعالم الأعلى، فلا يمكن للشياطين أن يتنزلوا عليه، ولا أن يتلقفوا المعارف والحقائق والشرائع. فإنهم معزولون عن استماع كلام الملكوت الأعلى، مرجومون بشهب الأنوار القدسية. وقوله تعالى: قل هل أنبئكم تقرير لقوله تعالى: وما ينبغي لهم وما يستطيعون لأن الإفك والإثم من لوازم النفوس الكدرة الخبيثة المظلمة السفلية، المستمدة من الشياطين بالمناسبة، المستدعية لإلقائهم وتنزلهم بحسب الجنسية. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[223 - 226] يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون

يلقون أي: الأفاكون: السمع أي: إلى الشياطين وأوهامهم ووساوسهم: وأكثرهم كاذبون أي: فيما يتكهنون به، وفيما يحكونه عن الشياطين. وقوله تعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون استئناف مسوق لإبطال ما قالوا في حق القرآن الكريم، من أنه من قبيل الشعر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشعراء، ببيان حال الشعراء المنافية لحاله عليه الصلاة والسلام. بعد إبطال ما قالوا إنه من قبيل ما يلقي الشياطين على الكهنة من الأباطيل، بما مر من بيان أحوالهم المضادة لأحواله عليه الصلاة والسلام.

والمعنى أن الشعراء [ ص: 4650 ] الذين يركبون المخيلات والمزخرفات من القياسات الشعرية والأكاذيب الباطلة، سواء كانت موزونة أم لا، فإنه يتبعهم: أي: يجاريهم ويسلك مسلكهم، ويكون من جملتهم الغاوون الضالون عن السنن، لا غيرهم من أهل الرشد، المهتدين إلى طريق الحق، الداعين إليه. قاله أبو السعود.

وقوله تعالى: ألم تر أنهم في كل واد يهيمون استشهاد على أن الشعراء إنما يتبعهم الغاوون، وتقرير له. أي: ألم تر أنهم في كل واد من أودية الخيال يهيمون على وجوههم، لا يقفون عند حد معين، بل يركبون للباطل والكذب وفضول القول كل مركب. ديدنهم الهجاء، وتمزيق الأعراض، والقدح في الأنساب، والنسيب بالحرم والغزل والابتهار. ومدح من لا يستحق المدح، والغلو في الثناء والهجاء.

لطيفة:

في ذكر الوادي والهيام، تمثيل لذهابهم في شعب القول وفنونه وطرقه وشجونه. قال ابن الأثير: استعار الأودية للفنون والأغراض من المعاني الشعرية التي يقصدونها. وإنما خص الأودية بالاستعارة، ولم يستعر الطرق والمسالك، أو ما جرى مجراها -لأن معاني الشعر تستخرج بالفكرة والروية، والفكرة والروية فيهما خفاء وغموض. فكان استعارة الأودية لها أشبه وأليق.

وأنهم يقولون ما لا يفعلون أي: مما يتبجحون به من أقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم، كناية عن أنهم يكذبون غير مبالين بما يستتبعه من اللوائم. أي: فكيف يتوهم أن يتبعهم في مسلكهم ذلك، ويلتحق بهم وينتظم في سلكهم، من تنزهت ساحته عن أن يحوم حولها شائبة الاتصاف بشيء من الأمور المذكورة، واتصف بمحاسن الصفات [ ص: 4651 ] الجليلة، وتخلق بمكارم الأخلاق الجميلة، وحاز جميع الكمالات القدسية، وفاز بجملة الملكات الأنسية، مستقرا على المنهاج القويم، مستمرا على الصراط المستقيم، ناطقا بكل أمر رشيد، داعيا إلى صراط العزيز الحميد، مؤيدا بمعجزات قاهرة، وآيات ظاهرة، مشحونة بفنون الحكم الباهرة، وصنوف المعارف الزاهرة، مستقلة بنظم رائق، أعجز كل منطيق ماهر، وبكت كل مفلق ساحر! قاله أبو السعود.

تنبيه:

قال الحافظ ابن كثير : اختلف العلماء فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حدا. هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا ؟ لأنهم يقولون ما لا يفعلون -على قولين: وقد ذكر محمد بن إسحاق ومحمد بن سعد في (الطبقات) والزبير بن بكار في كتاب (الفكاهة) أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان، من أرض البصرة. وكان يقول الشعر، فقال:


ألا هل أتى الحسناء أن خليلها بميسان يسقى في زجاج وحنتم إذا شئت غنتني دهاقين قرية
ورقاصة تحثو على كل مبسم فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني
ولا تسقني بالأصغر المتثلم لعل أمير المؤمنين يسوؤه
تنادمنا بالجوسق المتهدم


فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: إي والله! إنه ليسوؤني بذلك. ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته، وكتب إليه عمر : (بسم الله الرحمن الرحيم: حم تنـزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير أما بعد فقد بلغني قولك:


لعل أمير المؤمنين يسوؤه تنادمنا بالجوسق المتهدم


[ ص: 4652 ] وايم الله! إنه ليسوؤني ذلك. وقد عزلتك).

فلما قدم على عمر . بكته بهذا الشعر. وقال: والله! يا أمير المؤمنين ! ما شربتها قط وما ذاك الشعر إلا شيء طفح على لساني. فقال عمر : أظن ذلك. ولكن، والله! لا تعمل لي عملا أبدا، وقد قلت ما قلت.

فلم يذكر أنه حده على الشراب، وقد ضمنه شعره. لأنهم يقولون ما لا يفعلون. ولكن ذمه عمر ولامه على ذلك وعزله به.

وحكى الزمخشري عن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله:


فبتن بجانبي مصرعات وبت أفض أغلاق الختام


فقال: وقد وجب عليك الحد. فقال: يا أمير المؤمنين ! قد درأ الله عني الحد بقوله: وأنهم يقولون ما لا يفعلون

ثم استثنى تعالى الشعراء المؤمنين الصالحين، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[227] إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون

إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا أي: في شعرهم، بأن كان غالبه في توحيد الله والثناء عليه والحكمة والموعظة والآداب الحسنة: وانتصروا أي: بشعرهم على عدوهم بأن هجوه: من بعد ما ظلموا أي: فكان هجاؤهم على سبيل [ ص: 4653 ] الانتصار ممن يهجوهم، جزاء وفاقا. قال الله: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وقال تعالى: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم

قال ابن كثير : وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان : « اهجهم، أو قال هاجهم، وجبريل معك » ويروي الإمام أحمد عن كعب بن مالك أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل قد أنزل في الشعر ما قد علمت، وكيف ترى فيه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه. والذي نفسي بيده! لكأن ما ترمونهم به نضح النبل » .

تنبيهات:

الأول: قال في (الإكليل): في قوله تعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون الآية، ذم الشعر، والمبالغة في المدح والهجو وغيرهما من فنونه، وجوازه في الزهد والأدب ومكارم الأخلاق وجواز الهجو لمن ظلم، انتصارا. انتهى.

وحكى الزمخشري عن عمرو بن عبيد، أن رجلا من العلوية قال له: إن صدري ليجيش بالشعر. فقال: فما يمنعك منه فيما لا بأس به؟ والقول فيه: أن الشعر باب من الكلام، محسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام.

الثاني: ذكر ابن إسحاق أنه لما نزلت: والشعراء يتبعهم الغاوون جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكون. قالوا: قد علم الله حين أنزل [ ص: 4654 ] هذه الآية أنا شعراء. فتلا النبي صلى الله عليه وسلم: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات قال: أنتم.

قال ابن كثير : لكن هذه السورة مكية، فكيف يكون سبب نزول هذه الآيات في شعراء الأنصار؟ وفي ذلك نظر. ولم يرو فيه إلا مرسلات لا يعتمد عليها. والله أعلم. ولكن الاستثناء دخل فيه شعراء الأنصار وغيرهم، حتى يدخل فيه من كان متلبسا من شعراء الجاهلية بذم الإسلام وأهله، ثم تاب وأناب ورجع وأقلع، وعمل صالحا، وذكر الله كثيرا، في مقابلة ما تقدم من الكلام السيئ. فإن الحسنات يذهبن السيئات. وامتدح الإسلام وأهله في مقابلة ما كان يذمه. كما قال: عبد الله بن الزبعرى، لما أسلم:


يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت، إذ أنا بور إذ أجاري الشيطان في سنن الغي
ومن مال ميله مثبور


وكذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، كان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم فهو ابن عمه وأكثرهم له هجوا. فلما أسلم لم يكن أحد أحب إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى. وقوله تعالى: وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون تهديد شديد ووعيد أكيد، لما في "سيعلم" من تهويل متعلقه. وفي "الذين ظلموا" من إطلاقه وتعميمه. وفي "أي منقلب ينقلبون" من إبهامه وتهويله. كأنه لا يمكن معرفته، وقد رأوا ما حاق بهم في الدنيا. ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
بسم الله الرحمن الرحيم

27- سُورَةُ النَّمْلِ


قال المهايمي: سميت بها، لاشتمالها على مقالتها، الدالة على علم الحيوان بنزاهة الأنبياء وأتباعهم، عن ارتكاب المكاره عمدا، وهو مما يوجب الثقة بهم. وهو من أعظم مقاصد القرآن. وهي مكية وآياتها ثلاث وتسعون.

[ ص: 4656 ] بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى:

[1 - 3] طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون

طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين الإشارة إلى نفس السورة. والقرآن عبارة عن الكل أو عن الجميع المنزل. أي: تلك السورة آيات القرآن الذي عرف بعلو الشأن. وآيات كتاب عظيم المقدار، مبين لما تضمنه من الحكم والأحكام والمواعظ والاعتبار هدى وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون أي: هو هدى من الضلالة، وبشرى برحمة الله ورضوانه، لمن آمن وعمل صالحا من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وأيقن بالآخرة، والجزاء على الأعمال خيرها وشرها.

لطيفة:

تكرير الضمير لإفادة الحصر والاختصاص على ما في (الكشاف).

ولصاحب (الانتصاف) وجه آخر قال: لما كان أصل الكلام، وهم يوقنون بالآخرة، ثم قدم المجرور على عامله، عناية به، فوقع فاصلا بين المبتدأ والخبر، فأريد أن يلي المبتدأ خبره، وقد حال المجرور بينهما، فطرى ذكره ليليه الخبر، ولم يفت مقصود العناية بالمجرور حيث بقي على حاله مقدما: ولا يستنكر أن تعاد الكلمة مفصولة له وحدها، بعد ما يوجب التطرية. فأقرب منها أن الشاعر قال:


سل ذو وعجل ذا وألحقنا بذا الشحم، إنا قد مللناه بخل


[ ص: 4657 ] والأصل (وألحقنا بذا الشحم) فوقع منتصف الرجز أو منتهاه (على القول بأن مشطور الرجز بيت كامل) عند اللام. وبنى الشاعر على أنه لا بد، عند المنتصف أو المنتهى، من وقيفة ما. فقدر بتلك الوقفة بعدا بين المعرف وآلة التعريف. فطراها ثانية. فهذه التطرية لم تتوقف على أن يحول بين الأول وبين المكرر ولا كلمة واحدة، سوى تقديره وقفة لطيفة لا غير.

ثم قال: فتأمل هذا الفصل فإنه جدير بالتأمل. والله أعلم.

ثم تأثر أحوال المؤمنين بأحوال الكفرة، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[4 - 8] إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين

إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون أي: مددنا لهم في غيهم، فهم يتيهون في ضلالهم. وكان هذا جزاء على ما كذبوه به من الدار الآخرة والجزاء على الأعمال كما قال تعالى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون أي: أشد الناس [ ص: 4658 ] خسرانا للنجاة وثواب الله وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم أي: لتؤتاه وتلقنه من عند حكيم في أمره ونهيه، عليم بالأمور جليها وخفيها. فخبره هو الصدق المحض والحكمة البالغة، كما قال: وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا والجملة مستأنفة، سيقت بعد بيان بعض شؤون القرآن الكريم، تمهيدا لما يعقبه من الأنباء الجليلة. وقد بدأ منها بما كان من أمر موسى عليه السلام واصطفائه وإيتائه من الآيات الباهرة ما أذل معانديه، وجعلهم مثل السوء. فقال سبحانه: إذ قال موسى لأهله أي: حين قفل من مدين إلى مصر، وأضل الطريق: إني آنست نارا أي: رأيتها: سآتيكم منها بخبر أي: عن الطريق: أو آتيكم بشهاب قبس أي: بشعلة مقتبسة: لعلكم تصطلون أي: تتدفئون به: فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها أي: بورك من في مكان النار ومن حول مكانها. ومكانها البقعة التي حصلت فيها. وتدل عليه قراءة أبي: (تباركت الأرض ومن حولها)، وعنه: بوركت النار. والذي بوركت له البقعة، وبورك من فيها وحواليها، حدوث أمر ديني فيها، وهو تكليم الله موسى، واستنباؤه له، وإظهار المعجزات عليه. ورب خير يتجدد في بعض البقاع، فينشر الله بركة ذلك الخير في أقاصيها ويبث آثار يمنه في أباعدها. فكيف بمثل ذلك الأمر العظيم الذي جرى فـ تلك البقعة المباركة؟ كذا في (الكشاف).

وقال السمين: (بارك) يتعدى بنفسه. فلذلك بني للمفعول: باركك الله، وبارك عليك، وبارك فيك وبارك لك. والمراد بـ(من) إما الباري تعالى وهو على حذف مضاف، أي: من قدرته وسلطانه في النار. وقيل المراد به موسى والملائكة. وكذلك قوله: ومن حولها وقيل المراد بـ(من) غير العقلاء. وهو النور والأمكنة التي حولها. انتهى.

ولذا قال الزمخشري : والظاهر أنه عام في كل من كان في تلك الأرض وفي ذلك الوادي [ ص: 4659 ] وحواليهما من أرض الشام. قال: ولقد جعل الله أرض الشام بالبركات موسومة في قوله: ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين وحقت أن تكون كذلك. فهي مبعث الأنبياء صلوات الله عليهم، ومهبط الوحي إليهم، وكفاتهم أحياء وأمواتا.

ثم قال: ومعنى ابتداء خطاب الله موسى بذلك عند مجيئه، هي بشارة له بأنه قد مضى أمر عظيم تنتشر منه في أرض الشام كلها البركة. انتهى.

وقال القرطبي : هذا تحية من الله تعالى لموسى، وتكرمة له. كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا: "رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت".

وعن ابن عباس : لم تكن تلك النار نارا، وإنما كانت نورا يتوهج. وعنه: هي نور رب العالمين.

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي عبيدة عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام. يخفض القسط ويرفعه. يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل. حجابه النور أو النار. لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره » ثم قرأ أبو عبيدة : أن بورك من في النار ومن حولها

قال ابن كثير : وأصل الحديث مخرج في صحيح مسلم من حديث عمرو بن مرة : وسبحان الله رب العالمين أي: الذي يفعل ما يشاء، ولا يشبهه شيء من مخلوقاته، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته، وهو العلي العظيم المباين لجميع المخلوقات، ولا يكتنفه الأرض والسماوات، بل هو الأحد الصمد المنزه عن مماثلة المحدثات. قاله ابن كثير .

وقد أفاد أن المقام اقتضى التنزيه، دفعا لإيهام ما لا يليق من التشبيه. ثم إن موسى عليه السلام، أعلمه تعالى بأنه هو الذي يكلمه ويناجيه، لا ملك ولا خلق آخر، بل ذاته العلية المستحقة للألوهية والنعوت القدسية، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 53.97 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 53.34 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.16%)]