عرض مشاركة واحدة
  #482  
قديم 30-12-2024, 05:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,126
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النَّمْلِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4661 الى صـ 4672
الحلقة (482)






[9 - 12] يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين

يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم وفي إيثار هذه الأسماء الجليلة سر بديع. وهو الإشارة الجملية إلى روح إرساله عليه السلام. أي: أنا الله لا تلك المعبودات التي عكف عليها قوم فرعون، العزيز الغالب القاهر لكل عات متمرد، الحكيم في البعثة والإرسال، والتفضل والإفضال. ثم أمره تعالى أن يلقي عصاه من يده ليريه دليلا واضحا على أنه القادر على كل شيء، بقوله: وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان هو ضرب من الحيات، أسرعه حركة وأكثره اضطرابا: ولى أي: من الخوف: مدبرا ولم يعقب أي: لم يرجع على عقبه من شدة خوفه: يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون أي: لحفظي لهم وعنايتي بهم وعصمتي إياهم مما يؤذيهم. وفيه تبشير له باصطفائه بالرسالة والنبوة. وتشجيع له بنزع الخوف. إذ لا يتمكن من أداء الرسالة، ما لم يزل خوفه من المرسل إليه. وقوله تعالى: إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم استثناء منقطع. استدرك به ما عسى يختلج في الخلد من نفي الخوف عن كلهم. مع أن منهم من فرطت منه صغيرة ما، مما يجوز صدوره عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فإنهم وإن صدر عنهم شيء من ذلك، فقد فعلوا عقيبه ما يبطله، ويستحقون به من الله تعالى مغفرة ورحمة. وقد قصد به التعريض بما وقع من [ ص: 4661 ] موسى عليه الصلاة والسلام، من وكزه القبطي والاستغفار. قاله أبو السعود. وسبقه الزمخشري حيث قال: يوشك أن يقصد بهذا، التعريض بما وجد من موسى. وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها، وسماه ظلما كما قال موسى: رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ثم أشار تعالى إلى آية خارقة غير العصا، آتاه إياها، بقوله: وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء أي: آفة كبرص: في تسع آيات أي: غيرها تؤتاها، إذا جحد فرعون رسالتك. وهي ضرب ماء النهر بالعصا فينقلب دما. وإصعاد الضفادع على أرض مصر. وضرب التراب فتمتلئ الأرض قملا. وإرسال الجراد عليهم. والوباء الشديد. وإصابة أجسادهم بالقروح والدمامل والبثور. وإهلاك حصادهم بالبرد الشديد. وتغشيتهم بظلام كثيف، على ما روي، وفي: "تسع" أوجه: أحدها أنها حال ثالثة. أي: تخرج آية في تسع آيات. والثاني أنها متعلقة بمحذوف، أي: اذهب في تسع. والثالث أن يتعلق بقوله: وألق عصاك وأدخل يدك أي: في جملة تسع آيات. و(في) بمعنى: (مع): إلى فرعون أي: مرسلا بها إلى فرعون: وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين أي: خارجين عن الحدود، في الكفر والعدوان. وهذا تعليل للإرسال.
القول في تأويل قوله تعالى:

[13 - 16] فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين [ ص: 4662 ] وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين

فلما جاءتهم آياتنا مبصرة أي: ظاهرة بينة: قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها أي: كذبوا بها بألسنتهم: واستيقنتها أنفسهم أي: عرفت أنفسهم أنها آيات يقينا، لا سيما عند إلقاء السحرة ساجدين: ظلما أي: للآيات، بتسميتها سحرا كقوله: بما كانوا بآياتنا يظلمون ولقد ظلموا بها: وعلوا أي: تكبرا عن الانقياد لموسى: فانظر كيف كان عاقبة المفسدين أي: من إهلاكهم بالإغراق، لغرقهم في بحر الفساد والإفساد: ولقد آتينا داود وسليمان علما أي: بالقضاء بين الناس، وحكمة باهرة: وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وورث سليمان داود أي: العلم والحكمة والنبوة أو الملك: وقال أي: تحدثا بنعمة الله وتنويها بمنته: يا أيها الناس علمنا منطق الطير أي: فهم صوته: وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين أي: البين الظاهر. وهو قول وارد على سبيل الشكر والمحمدة. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أنا سيد ولد آدم ولا فخر » أي: أقول هذا القول شكرا، ولا أقوله فخرا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[17 - 25] وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون [ ص: 4663 ] فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون

وحشر لسليمان جنوده أي: جمع له عساكره: من الجن والإنس والطير فهم يوزعون أي: يحبسهم أولهم على آخرهم ليتلاحقوا: حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة أي: رأتهم متوجهين إلى واديها: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون أي: بمكانهم: فتبسم ضاحكا من قولها أي: تعجبا من حذرها واهتدائها إلى تدبير مصالحها ومصالح بني نوعها. وسرورا بشهرة حاله وحال جنوده في باب التقوى والشفقة، فيما بين أصناف المخلوقات، التي هي أبعدها من إدراك أمثال هذه [ ص: 4664 ] الأمور، وابتهاجا بما خصه الله تعالى به من إدراك همسها وفهم مرادها. قاله أبو السعود: وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي أي ألهمني شكرها: وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين أي: بحجة تبين عذره: فمكث غير بعيد أي: فلبث في الغيبة أمدا غير طويل: فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ وهي مدينة: بنبإ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم أي: سرير تجلس عليه، هائل مزخرف بأنواع الجواهر: وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا أي: هلا يسجدوا. كما قرأ بذلك. وجوز بعضهم أن يكون معمولا لما قبله. أي: فصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا، فحذف الجار مع (أن) أو تكون (لا) مزيدة، والمعنى: فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا: لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض أي: يظهر ما هو مخبوء فيهما من نبات ومعادن وغيرهما: ويعلم ما تخفون وما تعلنون قرئ بالتاء والياء على صيغة الغيبة. والجملة التحضيضية إما مستأنفة من كلامه تعالى، أو محكية عن قول الهدهد. واستظهر الزمخشري الثاني. قال: لأن في إخراج الخبء أمارة على أنه من كلام الهدهد، لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض. وذلك بإلهام من يخرج الخبء في السماوات والأرض، جلت قدرته ولطف علمه. ولا يكاد يخفى على ذي الفراسة النظار بنور الله، مخايل كل مختص بصناعة أو فن أو من العلم، في روائه ومنطقه وشمائله.
[ ص: 4665 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[26] الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم

الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم أي: المحيط بالشمس وسائر الكواكب وكل شيء. فما أصغر عرشها في جنب عظمته! وما أضعف معبودها -الشمس- في جانب قدرته!.

تنبيه:

هذه السجدة من عزائم السجدات. قال الزمخشري : لأن مواضع السجدة إما أمر بها، أو مدح لمن أتى بها، أو ذم لمن تركها. وإحدى القراءتين أمر بالسجود، والأخرى ذم للتارك.
القول في تأويل قوله تعالى:

[27 - 32] قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون

قال أي: سليمان: سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم أي: حسن مضمونه وما فيه: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين أي: لا تتكبروا علي، وأتوني منقادين لأمري: قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون أي: لا أبت [ ص: 4666 ] أمرا إلا بمحضركم ومشورتكم. ولا أستبد بقضاء إلا باستطلاع آرائكم والرجوع إلى استشارتكم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[33 - 35] قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون .

قالوا نحن أولو قوة أي: في العدد والعدد: وأولو بأس شديد أي: نجدة وبلاء في الحرب: والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين أي: وأمر القتال أو الصلح مفوض إلى رأيك. فانظري ما هو أبقى لشرفك وملكك: قالت أي: مشيرة إلى اختيار خطة المسالمة وإيثارها، بالنظر لحالتها ومركزها وضعفها أمام عدوها، بأن القتال إنما يؤثر إذا لم يغلب على الظن دخول العدو في قرية العدو. وألا تعين الانقياد. وذلك معنى قولها: إن الملوك إذا دخلوا قرية أي: عنوة وقهرا: أفسدوها أي: أخربوها: وجعلوا أعزة أهلها أذلة أي: بالقهر والغلبة والقتل والأسر ونهب الأموال: وكذلك يفعلون تأكيد لما وصفت من حالهم، وتقرير له بأن ذلك عادتهم المستمرة. وقيل تصديق لها منه تعالى: وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون أي: وإني سأرسل إلى سليمان وملئه رسلا بهدية توجب المحبة وتشبه الانقياد. من غير اختلال لشرفنا. ثم أنتظر بأي أمر يرجع المرسلون منه، حتى أعمل على حسب ذلك.
[ ص: 4667 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[36 - 40] فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم

فلما جاء سليمان أي: المرسلون منها: قال أتمدونن بمال فما آتاني الله أي: من الملك والحكمة والنبوة: خير مما آتاكم أي: فلا أبالي بجميع ما عندكم فضلا عن الهدية: بل أنتم بهديتكم تفرحون أي: إذا أهدي إليكم مثلها، أو أهديتم مثلها، تفرحون استكثارا أو افتخارا: ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون أي: مهانون: قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك [ ص: 4668 ] وإني عليه لقوي أمين قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر أي: ليختبرني أأشكر بالطاعة والعمل بالشريعة، أم أكفر بالمعصية والمخالفة. وقوله تعالى: ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم كقوله: من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وكقوله: ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون
القول في تأويل قوله تعالى:

[41 - 42] قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين

قال نكروا لها عرشها أي: اجعلوه متنكرا متغيرا عن هيئته وشكله كما يتنكر الرجل للناس: ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون أي: لمعرفته: فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو قال المهايمي: لم تقل: (هو هو) خوفا من التكذيب، مع نوع من التغيير. ولا (لا) خوفا من التجهيل.

وقال الزمخشري : لم تقل: (هو هو) ولا (ليس به) وذلك من رجاحة عقلها حيث لم تقطع في المحتم. أي: فأتت بـ(كأن) الدالة على غلبة الظن.

قال الشهاب: وهذا إشارة إلى أن (كأن) ليس المراد بها هنا التشبيه بل الشك وهو مشهور فيها.

وقد أبدى صاحب (الانتصاف) فرقا بين (كأن) و(هكذا) في التشبيه. وعبارته: [ ص: 4669 ] وفي قولها: (كأنه هو) وعدولها عن مطابقة الجواب للسؤال بأن تقول: (هكذا هو) نكتة حسنة. ولعل قائلا يقول: كلتا العبارتين تشبيه. إذ كان التشبيه فيهما جميعا، وإن كانت في إحداهما داخلة على اسم الإشارة، وفي الأخرى داخلة على المضمر، وكلاهما (أعني: اسم الإشارة والمضمر) واقع على الذات المشبهة. وحينئذ تستوي العبارتان في المعنى. ويفضل قولها: هكذا هو بمطابقته للسؤال. فلا بد في اختيار: "كأنه هو" من حكمة. فنقول: حكمته، والله أعلم، أن: "كأنه هو" عبارة من قرب عنده الشبه حتى شكك نفسه في التغاير بين الأمرين. فكاد يقول: (هو هو) وتلك حال بلقيس. وأما (هكذا هو) فعبارة جازم بتغاير الأمرين، حاكم بوقوع الشبه بينهما لا غير. فلهذا عدلت إلى العبارة المذكورة في التلاوة، لمطابقتها لحالها، والله أعلم. انتهى.

وقوله تعالى: وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين هذا من تمام كلام سليمان عليه السلام، شكرا لله على فضلهم عليها، وسبقهم إلى العلم بالله وبالإسلام. أي: وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته، وبصحة ما جاء من عنده، قبل علمها الذي أومأ إليه قولها: "كأنه هو" والجملة عطف على مقدر اقتضاه المقام المقتضي، للإفاضة في وصفها برجاحة الرأي في الهداية للإسلام. والتقدير: أصابت في جوابها وقد رزقت الإسلام، وعلمت قدرة الله. وأوتينا العلم إلخ. وقيل إنه من كلام بلقيس، موصولا بقولها: "كأنه هو"، لا من كلام سليمان، كأنها ظنت أنه أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار معجزة لها، فقالت: أوتينا العلم إلخ. أي: لا حاجة إلى الاختبار لأني آمنت قبل. وهذا يدل على كمال عقلها.

أو المعنى: علمنا إتيانك بالعرش قبل الرؤية، أو هذه الحالة بالقرائن أو الأخبار.

قال ابن كثير : ويؤيد الأول، أي: أنه من كلام سليمان، أنها إنما أظهرت الإسلام بعد دخولها إلى الصرح، كما سيأتي، والله أعلم. وقوله تعالى:
[ ص: 4670 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[43 - 44] وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين

وصدها أي: وكان صدها عن الهداية: ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين قيل لها ادخلي الصرح أي: القصر، أو صحن الدار وكان سليمان عليه السلام اتخذ قصرا بديعا من زجاج، فأراد أن يريها منه عظمة ملكه وسلطانه، ومقدار ما آثره الله به: فلما رأته أي: صحنه: حسبته لجة أي: ماء عظيما: وكشفت أي: للخوض فيه: عن ساقيها قال إنه صرح ممرد أي: مملس: من قوارير أي: من الزجاج : قالت رب إني ظلمت نفسي أي: بكفرها السالف وعبادتها وقومها الشمس: وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين أي: متابعة له في دينه وعبادته لله وحده لا شريك له.

تنبيهات:

الأول: روى كثير من المفسرين ههنا أقاصيص لم تصح سندا ولا مخبرا. وما هذا سبيله، فلا يسوغ نقله وروايته.

قال الحافظ ابن كثير ، بعد أن ساق ما رواه ابن أبي شيبة عن عطاء مستحسنا له، ما مثاله: قلت: بل هو منكر غريب جدا. ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس ، والله أعلم.

ثم قال: والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب، مما وجد في صحفهم. كروايات كعب ووهب ، سامحهما الله تعالى، فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل، من الأوابد والغرائب والعجائب. مما كان ومما لم يكن. ومما حرف وبدل ونسخ.

[ ص: 4671 ] وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ، ولله الحمد والمنة.

الثاني: أشير في (التوراة) في الفصل الرابع من سفر الملوك الثالث إلى تفصيل نبأ سليمان عليه السلام وعظمة ملكه وسلطانه. ومما جاء فيه أن سليمان كان متسلطا على جميع الممالك من نهر الفرات إلى أرض فلسطين وإلى تخم مصر. وإن ملوك الأطراف كانوا يحملون له الهدايا خاضعين له كل أيام حياته أي: أنها تؤدي له الجزية، وإن كان محصورا في فلسطين. وأن الله تعالى آتاه حكمة وفهما ذكيا جدا، وسعة صدر. ففاقت حكمته حكمة جميع أهل المشرق وأهل مصر. وقال ثلاثة آلاف مثل. وتكلم. في الشجر، من الأرز الذي على لبنان إلى الزوفى التي تخرج في الحائط. وتكلم في البهائم والطير والزحافات والسمك. وأما صرحه وبيته عليه السلام، فقد جاء وصفه في الفصل الخامس من السفر المتقدم. وأنه أكمل بناءه في ثلاث عشرة سنة. وأنه بنى جازر وبيت حورون السفلى وبعلت وتدمر في أرض البرية. وجاء في الفصل العاشر من هذا السفر أيضا قصة ملكة سبأ ومقدمها من اليمن على سليمان لتخبر حكمته وعظمة ملكه، ودهشتها مما رأته وتحققته، وإيمانها بربه تعالى. ثم إعطاؤه إياها بغيتها. ثم انصرافها إلى أرضها.

وقد ذكرنا غير مرة أن القرآن الكريم لا يسوق أنباء ما تقدم سوق مؤرخ، بل يقصها موجزة ليتحقق أنه مصداق ما بين يديه، ومهيمن عليه، ولينبه على أن القصد منها موضع العبرة والحكمة. ومثار التبصر والفطنة.

الثالث: مما استنبط من آيات هذه القصة الجليلة، أن في قوله تعالى: فتبسم ضاحكا من قولها أنه لا بأس بالتبسم والضحك عن التعجب وغيره. وفي قوله تعالى: وتفقد الطير استحباب تفقد الملك أحوال رعيته. وأخذ منه بعضهم تفقد الإخوان، فأنشد:


تفقد الإخوان مستحسن فمن بداه نعم ما قد بدا سن سليمان لنا سنة
وكان فيما سنه مقتدى تفقد الطير على ملكه
فقال: ما لي لا أر الهدهدا


[ ص: 4672 ] وأن في قوله تعالى: لأعذبنه عذابا شديدا الآية، دليلا على أن العذاب على قدر الذنب، لا على قدر الجسد. وعلى جواز تأديب الحيوانات والبهائم بالضرب عند تقصيرها في المشي وإسراعها ونحو ذلك. وأن في قوله تعالى: فقال أحطت بما لم تحط به أن الصغير يقول للكبير والتابع للمتبوع: عندي من العلم ما ليس عندك، إذا تحقق ذلك. وأن في قوله تعالى: قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين قبول الوالي عذر رعيته، ودرءه العقوبة عنهم، وامتحان صدقهم فيما اعتذروا به. وأن في قوله تعالى: اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم إرسال الطير بالكتب. وأن في قوله تعالى: كتاب كريم استحباب ختم الكتب، لقول السدي : كريم بمعنى مختوم. وأن في قوله تعالى: قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري المشاورة والاستعانة بالآراء في الأمور المهمة. وأن في قوله تعالى: أتمدونن بمال الآية، استحباب رد هدايا المشركين. كذا في (الإكليل) بزيادة.

ثم أخبر تعالى عن ثمود وما كان من أمرها مع نبيها صالح عليه السلام، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[45 - 47] ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 51.95 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 51.32 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.21%)]