عرض مشاركة واحدة
  #483  
قديم 30-12-2024, 05:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,558
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النَّمْلِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4672 الى صـ 4682
الحلقة (483)




[ ص: 4672 ] وأن في قوله تعالى: لأعذبنه عذابا شديدا الآية، دليلا على أن العذاب على قدر الذنب، لا على قدر الجسد. وعلى جواز تأديب الحيوانات والبهائم بالضرب عند تقصيرها في المشي وإسراعها ونحو ذلك. وأن في قوله تعالى: فقال أحطت بما لم تحط به أن الصغير يقول للكبير والتابع للمتبوع: عندي من العلم ما ليس عندك، إذا تحقق ذلك. وأن في قوله تعالى: قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين قبول الوالي عذر رعيته، ودرءه العقوبة عنهم، وامتحان صدقهم فيما اعتذروا به. وأن في قوله تعالى: اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم إرسال الطير بالكتب. وأن في قوله تعالى: كتاب كريم استحباب ختم الكتب، لقول السدي : كريم بمعنى مختوم. وأن في قوله تعالى: قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري المشاورة والاستعانة بالآراء في الأمور المهمة. وأن في قوله تعالى: أتمدونن بمال الآية، استحباب رد هدايا المشركين. كذا في (الإكليل) بزيادة.

ثم أخبر تعالى عن ثمود وما كان من أمرها مع نبيها صالح عليه السلام، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[45 - 47] ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون

ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون [ ص: 4673 ] أي: فريق مؤمن وفريق كافر. يختصمون خصومة لا يرجع فيها المبطل إلى الحق بعد ما تبين له. كقوله تعالى: قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة أي: بالعقوبة السيئة قبل التوبة الحسنة. أي: لم تدعون بحضور العقوبة ولا تطلبون من الله رحمته بالإيمان: لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون قالوا اطيرنا أي: تطيرنا أي: تشاءمنا: بك وبمن معك أي: من المؤمنين. وقد كانوا، لشقائهم، إذا أصيبوا بسوء قالوا: هذا من قبل صالح وصحبه: قال طائركم عند الله أي: سبيلكم الذي يجيء منه خيركم وشركم عن الله. وهو قدره وقسمته، إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم. قاله الزمخشري .

قال الشهاب: لما كان المسافر من العرب إذا خرج مر به طائر سانحا، وهو ما وليه بميسرته، أو بارحا وهو ما وليه بميمنته - تيمنوا بالأول وتشاءموا بالثاني. ونسبوا الخير والشر إلى الطائر. ثم استعير لما كان سببهما من قدر الله وقسمته. أو من عمل العبد الذي هو سبب الرحمة والنقمة. ومنه طائر الله، لا طائرك: بل أنتم قوم تفتنون أي: مفتونون بضلالكم وكفركم. لا ترون حسنا إلا ما يوافق هواكم، ولا شؤما إلا يخالفه. ثم أخبر تعالى عن طغاة ثمود ورؤسائهم الذين كانوا دعاة قومهم إلى الضلال والكفر، وتكذيب صالح عليه السلام، وما آل بهم الأمر، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[48 - 52] وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون [ ص: 4674 ] قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون

وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون أي: شأنهم وعادتهم الإفساد، كما يفيده المضارع وتأكيده بقوله: "في الأرض" الدال على عموم فسادهم. وهو صفة (رهط) أو (تسعة): قالوا تقاسموا بالله أي: ليحلف كل واحد منكم على موافقة الآخرين، بالله الذي هو أعظم المعبودين: لنبيتنه أي: لنقتلنه ليلا. قرئ بالتاء على خطاب بعضهم لبعض: وأهله أي: من آمن معه ثم لنقولن لوليه أي: الطالب ثأره علينا: ما شهدنا مهلك أهله أي: ما حضرنا مكان هلاك الأهل، مع تفرقهم في الأماكن الكثيرة، فضلا عن مكانه، فضلا عن مباشرته: وإنا لصادقون أي: ونحلف إنا لصادقون. أو: والحال إنا لصادقون فيما ذكرنا: ومكروا مكرا أي: بهذه الحيلة: ومكرنا مكرا أي: بأن جعلناهم سببا لإهلاكهم: وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية أي: خالية ساقطة. لم تعمر بعدهم لأنهم استؤصلوا: بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون أي: بأنهم ما أخذوا إلا لظلمهم. وإن عاقبة الظلم الدمار والبوار.
القول في تأويل قوله تعالى:

[53 - 59] وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون [ ص: 4675 ] أإنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون

وأنجينا الذين آمنوا يعني صالحا عليه السلام ومن معه: وكانوا يتقون ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون أي: قبحها ومضادتها لحكمه تعالى وحكمته: أإنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء أي: متجاوزين النساء اللاتي هن محال الشهوة: بل أنتم قوم تجهلون أي: تفعلون فعل الجاهلين سفها وعمى عن العاقبة: فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون أي: يتنزهون عن أفعالنا ويرونها رجسا. قالوه استهزاء: فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين أي: الباقين في العذاب: وأمطرنا عليهم مطرا أي: هائلا غير معهود: فساء مطر المنذرين قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون قال الزمخشري : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته وقدرته على كل شيء وحكمته. وأن يستفتح بتحميده، والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده. وفيه تعليم حسن، وتوقيف على أدب جميل، وبعث على التيمن بالذكرين، والتبرك بهما، والاستظهار بمكانهما، على قبول ما يلقى إلى السامعين، وإصغائهم إليه وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المسمع. ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر هذا الأدب. فحمدوا الله عز وجل، وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمام [ ص: 4676 ] كل علم مفاد، وقبل كل عظة وتذكرة، وفي مفتتح كل خطبة. وتبعهم المترسلون. فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن. وقيل: هو متصل بما قبله، وأمر بالتحميد على الهالكين من كفار الأمم. والصلاة على الأنبياء عليهم السلام وأشياعهم الناجين.

ثم قال: معلوم أن لا خير فيما أشركوه أصلا حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه. وإنما هو إلزام لهم وتبكيت وتهكم بحالهم. وذلك أنه آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله. ولا يؤثر عاقل شيئا على شيء، إلا لداع يدعوه إلى إيثاره، من زيادة خير ومنفعة. فقيل لهم، مع العلم بأنه لا خير فيما آثروه، وأنهم لم يؤثروه لزيادة الخير، ولكن هوى وعبثا، لينبهوا على الخطأ المفرط، والجهل المورط. وإضلالهم التمييز ونبذهم المعقول. وليعلموا أن الإيثار يجب أن يكون للخير الزائد. ونحوه ما حكاه عن فرعون: أم أنا خير من هذا الذي هو مهين مع علمه أنه ليس لموسى مثل أنهاره التي كانت تجري تحته.

ثم عدد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله، كما عددها في موضع آخر. ثم قال: هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء

لطيفة:

قال ابن القيم في (طريق الهجرتين) في هذه الآية: كلمة (السلام) هنا تحتمل أن تكون داخلة في حيز القول فتكون معطوفة على الجملة الخبرية، وهي: (الحمد لله)، ويكون الأمر بالقول متناولا للجملتين معا. وعلى هذا، فيكون الوقف على الجملة الأخيرة، ويكون محلها النصب محكية بالقول.

ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة مستقلة معطوفة على جملة الطلب. وعلى هذا فلا محل لها من الإعراب.

[ ص: 4677 ] وهذا التقدير أرجح، وعليه يكون السلام من الله عليهم. وهو المطابق لما تقدم من سلامه سبحانه على رسله صلى الله عليهم وسلم.

وعلى التقدير الأول يكون أمر بالسلام عليهم.

ولكن يقال على هذا: كيف يعطف الخبر على الطلب مع تنافر ما بينهما. فلا يحسن أن يقول: قم وذهب زيد، ولا اخرج وقعد عمرو .

ويجاب على هذا بأن جملة الطلب، قد حكيت بجملة خبرية، ومع هذا لا يمتنع العطف فيه بالخبر على الجملة الطلبية لعدم تنافر الكلام فيه وتباينه. وهذا نظير قوله تعالى: قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون

فقوله: وما تغني الآيات ليس معطوفا بالقول وهو انظروا بل معطوف على الجملة الكبرى.

على أن عطف الخبر على الطلب كثير كقوله تعالى: قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون وقوله: وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين

والمقصود أنه على هذا القول، يكون الله سبحانه قد سلم على المصطفين من عباده، والرسل أفضلهم. انتهى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[60 - 63] أمن خلق السماوات والأرض وأنـزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون [ ص: 4678 ] أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون

أمن خلق السماوات والأرض إضراب وانتقال، من التبكيت تعريضا، إلى التصريح به خطابا على وجه أظهر منه لمزيد التأكيد. أي: بل من خلق السماوات والأرض، وأودع فيهما من المنافع ما لا يحصى: وأنـزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة أي: بساتين ذات حسن ورونق يبهج النظار: ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله أي: أإله آخر كائن مع الله، الذي ذكر بعض أفعاله، التي لا يكاد يقدر عليها غيره، حتى يتوهم جعله شريكا له تعالى في العبادة؟ وهذا تبكيت لهم بنفي الألوهية عما يشركون به تعالى، في ضمن النفي الكلي على الطريقة البرهانية، بعد تبكيتهم بنفي الخيرية عنه بما ذكر من الترديد. قال أبو السعود: بل هم قوم يعدلون أي: عن طريق الحق. أو به تعالى غيره أمن جعل الأرض قرارا أي: قارة لا تنكفئ بمن عليها. أو مستقرا لمن عليها، يتمتعون بمنافعها: وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أي: برزخا مانعا من الممازجة: أإله مع الله أي: في الوجود، أو في إبداع هذه البدائع: بل أكثرهم لا يعلمون أي: شيئا من الأشياء. ولذلك لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشرك، مع كمال ظهوره: أمن يجيب المضطر إذا دعاه وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر، إلى اللجأ والتضرع إلى الله تعالى، اسم مفعول من (الاضطرار) الذي هو افتعال من [ ص: 4679 ] (الضرورة) وهي الحالة المحوجة إلى اللجأ أي: الالتجاء والاستناد.

قال ابن كثير : ينبه تعالى أنه المدعو عند الشدائد، الموجود عند النوازل، كما قال تعالى: وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه

وقال تعالى: ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون وهكذا قال هاهنا: أمن يجيب المضطر إذا دعاه أي: من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه؟.

وقال ابن القيم في (الجواب الكافي): إذا اجتمع مع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب، وصادف انكسارا بين يدي الرب وذلا له وتضرعا ورقة، ثم توسل إليه تعالى بأسمائه وصفاته وتوحيده، فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدا. ولا سيما إن صادف الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظنة الإجابة، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم. ثم ساقها ابن القيم مسندة.

ثم قال: وكثيرا ما نجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم، فيكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله. أو حسنة تقدمت منه، جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكرا لحسنته. أو صادف الدعاء وقت إجابة، ونحو ذلك، فأجيبت دعوته. فيظن الظان أن السر في لفظ ذلك الدعاء، فيأخذه مجردا عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي. وهذا كما إذا استعمل رجل دواء نافعا، في الوقت الذي ينبغي، على الوجه الذي ينبغي. فانتفع به. فظن غيره أن استعمال هذا الدواء بمجرده، كاف في حصول المطلوب، كان غالطا. وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس. ومن هذا قد يتفق دعاؤه باضطرار عند قبر فيجاب. فيظن الجاهل أن السر للقبر ولم يعلم أن السر للاضطرار وصدق اللجأ إلى الله. فإذا حصل ذلك في بيت من بيوت الله، كان أفضل وأحب إلى الله. انتهى.

وقوله تعالى: ويكشف السوء أي: كل ما هو يسوء مما يضطر فيه وغيره: ويجعلكم خلفاء الأرض أي: خلفاء فيها. وذلك توارثهم سكانها، والتصرف فيها قرنا بعد قرن [ ص: 4680 ] أو أراد بالخلافة الملك والتسلط. قاله الزمخشري أإله مع الله قليلا ما تذكرون أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر أي: بالنجوم في السماء، والعلامات في الأرض، إذا جن الليل عليكم مسافرين في البر والبحر: ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وهي المطر: أإله مع الله تعالى الله عما يشركون
القول في تأويل قوله تعالى:

[64 - 65] أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون

أمن يبدأ الخلق ثم يعيده أي: بعد الموت بالبعث. فإن قيل: هم منكرون للإعادة، فكيف خوطبوا بها خطاب المعترف؟ أجيب بأنها لظهورها ووضوح براهينها، جعلوا كأنهم معترفون بها، لتمكنهم من معرفتها -فلم يبق لهم عذر في الإنكار. فلا حاجة إلى القول بأن منهم من اعترف بها، فالكلام بالنسبة إليه: ومن يرزقكم من السماء والأرض أي: مما ينزله من مائها وما يخرجه من نباتها: أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين أمر له عليه الصلاة والسلام بتبكيتهم إثر تبكيت. أي: هاتوا برهانا عقليا أو نقليا، يدل على أن معه تعالى إلها. لا على أن غيره تعالى يقدر على شيء مما ذكر من أفعاله تعالى، فإنهم لا يدعونه صريحا. وفي إضافة (البرهان) إلى ضميرهم، تهكم بهم. لما فيها من إيهام أن لهم برهانا. وأنى لهم ذلك؟ قاله أبو السعود: قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله أي: فإنه المتفرد بذلك وحده، كما قال: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو في آيات [ ص: 4681 ] لا تحصى. والاستثناء منقطع، لاستحالة أن يكون تعالى ممن في السماء والأرض، أو متصل، على أن المراد ممن في السماوات والأرض، من تعلق علمه بها واطلع عليها اطلاع الحاضر فيها مجازا مرسلا أو استعارة. فإنه يعم الله تعالى وأولي العلم من خلقه: وما يشعرون أيان يبعثون أي: متى ينشرون.
القول في تأويل قوله تعالى:

[66] بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون

بل ادارك علمهم في الآخرة قال السمين: فيه وجهان: أحدهما: أن في على بابها، وادارك وإن كان ماضيا لفظا، فهو مستقبل معنى، لأنه كائن قطعا. كقوله: أتى أمر الله

وعلى هذا فـ(في) متعلق بـ(ادارك).

والثاني: أن (في) بمعنى الباء. أي: بالآخرة.

وعلى هذا فيتعلق بنفس علمهم. كقولك: (علمي بزيد كذا)، انتهى.

والوجه الثاني على الاستفهام. أي: بل هل ادارك علمهم فيها، أي: بلغ وانتهى؟ كلا. وقد قرئ: (بل اءدرك) بهمزتين، (بل آءدرك) بألف بينهما، (أم أدرك) و(أم تدارك).

قال الرازي: وهي (أم) التي بمعنى (بل) والهمزة. فالمعنى على الاستفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم بها، وأنهم لم يبرحوا في حضيض الجهالة بحقيتها، مع ما يتلى عليهم من أدلة ثبوتها.

وقد جنح إلى الكلام على تقدير الاستفهام، السيوطي والمهايمي. وذهب غيرهما إلى إبقاء (بل) على أصلها من الإضراب الانتقالي. وقرروه بما فيه خفاء ودقة ويبعده ما ذكرنا [ ص: 4682 ] من القراءات الصريحة في الاستفهام. وهي مما يرجع إليها إذا اشتبه المقام. كما تقرر في قواعد التفسير: بل هم في شك منها أي: مرية، مع تقرير ما يزيله ويكشف غشاوته: بل هم منها عمون أي: في عماية وجهل كبير.

قال الزمخشري : فإن قلت: هذه الاضطرابات الثلاثة ما معناها؟ قلت: ما هي إلا تنزيل لأحوالهم: وصفهم أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث. ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة. ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية، فلا يزيلونه. والإزالة مستطاعة. ألا ترى أن من لم يسمع اختلاف المذاهب وتضليل أربابها بعضهم لبعض، كان أمره أهون ممن سمع بها وهو جاثم، لا يشخص به طلب التمييز بين الحق والباطل؟ ثم بما هو أسوأ حالا، وهو العمى وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه، وفرجه، لا يخطر بباله حقا ولا باطلا ولا يفكر في عاقبة. وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه. فلذلك عداه بـ(من) دون (عن) لأن الكفر بالعاقبة والجزاء، هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يتبصرون. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[67 - 70] وقال الذين كفروا أإذا كنا ترابا وآباؤنا أإنا لمخرجون لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون

وقال الذين كفروا أي: بوعد الله وآياته وعلمه وقدرته وحكمته: أإذا كنا ترابا وآباؤنا أإنا لمخرجون أي: من القبور: لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين أي: أحاديثهم وأكاذيبهم التي سطروها بعبارة مموهة: قل سيروا في الأرض أي: لتبصروا آثار القائلين هذا القول قبلكم: فانظروا كيف كان [ ص: 4683 ] عاقبة المجرمين بإنكاره. وهي دمارهم وهلاكهم بالاستئصال: ولا تحزن عليهم أي: على قولهم وتكذيبهم. فإنه سيكون لك من المصدقين من لا يبالي معهم بهؤلاء كقوله تعالى: فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ولا تكن في ضيق مما يمكرون أي: في حرج من مكرهم وكيدهم لك. ولا تبال بذلك، فإن الله يعصمك من الناس.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 49.28 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 48.65 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.27%)]