عرض مشاركة واحدة
  #487  
قديم 30-12-2024, 05:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,487
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْقَصَصِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4716 الى صـ 4726
الحلقة (487)





تنبيه:

روى البخاري في (صحيحه) في تفسير هذه الآية عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة . فقال: أي: عم! قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، [ ص: 4716 ] ويعيدانه بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب. وأبى أن يقول لا إله إلا الله.

قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والله! لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» . فأنزل الله: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين وأنزل الله في أبي طالب، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء


قال ابن كثير : وهكذا رواه مسلم في صحيحه والترمذي أيضا من حديث يزيد بن كيسان عن أبي حازم، عن أبي هريرة . والإمام أحمد من حديثه أيضا، وهكذا قال ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة : إنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه الإسلام. انتهى.

وقال ابن حجر في (فتح الباري): لم تختلف النقلة في أنها نزلت في أبي طالب. انتهى. وقدمنا مرارا معنى قولهم نزلت الآية في كذا. فانظر المقدمة، وغير موضع بعدها.

ثم ذكر تعالى من تعنتهم، شبهة استروح بها الحارث بن عامر بن نوفل، فيما رواه النسائي ، قوله سبحانه: وقالوا إن نتبع الهدى معك أي: ونخالف العرب: نتخطف من أرضنا أي: مكة. فرد عليهم تعالى بقوله: أولم نمكن لهم حرما آمنا أي: ألم نعصمهم من عدوهم ونجعل مكانهم حرما ذا أمن، لحرمة البيت الحرام، الذي تتناجز العرب حوله وهم آمنون: يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون أي: جهلة لا يتفكرون. ولو علموا أن ذلك رزق من عند الله، لعلموا أن الخوف والأمن من عنده، ولما خافوا التخطف إذ آمنوا به وخلعوا أنداده وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها أي: كفرت بها فلم تحفظ حق الله فيها فدمرت: فتلك مساكنهم [ ص: 4717 ] لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين أي: منهم. إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم. وموصوف (قليلا) المستثنى، إما (زمان) أي: إلا زمانا قليلا، إذ لا يسكنها إلا المارة يوما أو بعض يوم. وإما (مكان) أي: إلا مكانا قليلا يصح لسكنى البعض، واندثر الباقي. أو (مصدر) أي: سكنا قليلا من شؤم معاصيهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[59 - 62] وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون

وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا أي: الناطقة بالحق. ويدعوهم إليه بالترغيب والترهيب. وذلك لإلزام الحجة وقطع المعذرة: وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون أي: بالكفر بالآيات وتكذيب الرسل سعيا بالفساد، وإباء عن سبيل الصلاح والرشاد: وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها أي: فهو مما يتمتع ويتزين به أياما قلائل. وهي مدة الحياة المقتضية: وما عند الله خير أي: متاعا وزينة في نفسه، لخلوه عن شوائب الألم: وأبقى لأنه أبدي لا يزول: أفلا تعقلون أفمن وعدناه وعدا حسنا أي: بإيمانه وعمله الصالح: فهو لاقيه كمن متعناه متاع [ ص: 4718 ] الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين أي: من الذين أحضروا للحساب أو للنار أو العذاب.

قال الشهاب: وقد غلب لفظ (المحضر) في القرآن في المعذب. وإليه أشار الزمخشري ، وصرح به في البحر: ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون
القول في تأويل قوله تعالى:

[63 - 68] قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون

قال الذين حق عليهم القول أي: وجب وثبت مقتضاه. وهو لحوق الوعيد بهم. والمراد بهم، رؤساء الضلال، وقادة الكفر والفساد: ربنا هؤلاء الذين أغوينا أي: أضللناهم. قال أبو السعود: ومرادهم بالإشارة، بيان أنهم يقولون ما يقولون بمحضر منهم. وأنهم غير قادرين على إنكاره ورده: أغويناهم كما غوينا أي: أضللناهم بالوسوسة والتسويل، كما ضللنا باختيارنا، وإيثار ما يفنى على ما يبقى: تبرأنا إليك أي: من الكفر والشرك والمعاصي. أو منهم ومما اختاروه: ما كانوا إيانا يعبدون أي: بل كانوا يعبدون [ ص: 4719 ] أهواءهم وشهواتهم: وقيل ادعوا شركاءكم ليشفعوا لكم: فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون أي: تمنوا ذلك لينقذوا من العذاب العظيم: ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين أي: الداعين إلى الهداية وإصلاح الأعمال والأخلاق: فعميت عليهم الأنباء يومئذ أي: فصارت الأنباء كالعمي عليهم لا تهتدي إليهم. وأصله فعموا عن الأنباء لكنه عكس مبالغة. قال الشهاب: ففيه استعارة تصريحية تبعية. استعير العمى لعدم الاهتداء فهم لا يهتدون للأنباء. ثم قلب للمبالغة. فجعل الأنباء لا تهتدي إليهم. وضمن معنى الخفاء. فعدي بـ(على). ففيه أنواع من البلاغة. الاستعارة والقلب والتضمين. والمراد بالأنباء ما أجابوا به الرسل. أو ما يعمها وغيرها منكل ما يمكن الجواب به: فهم لا يتساءلون أي: لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب، لفرط الدهشة. أو لعلمه بأنه مثله في العجز عن الجواب. أو لعجزهم عن النطق وكونهم مختوما على أفواههم. ثم إن هذا الوعيد لاحق للمصر : فأما من تاب أي: من الشرك: وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين أي: أن يفلح عند الله. و(عسى) من الكرام تحقيق. ويجوز أن يراد ترجي التائب وطمعه. كأنه قال: فليطمع أن يفلح. قاله الزمخشري : وربك يخلق ما يشاء ويختار أي: بمقتضى مشيئته وعنايته، ما يريد: ما كان لهم الخيرة أي: في ذلك. بل الخيرة له في أفعاله وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها، ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه.

قال الزمخشري : الخيرة من التخير، كالطيرة من التطير، تستعمل بمعنى المصدر وهو التخير، وبمعنى المتخير. كقولهم: محمد خيرة الله من خلقه. والقصد تقرير انفراده بالألوهية وحده. ولذا قال: سبحان الله وتعالى عما يشركون من الأصنام والأنداد التي لا تخلق شيئا ولا تختار.

تنبيه:

للإمام ابن القيم في مقدمة (زاد المعاد) مقالة في هذه الآية الكريمة، جديرة بأن تؤثر [ ص: 4720 ] عنه. قال رحمه الله: وبعد. فإن الله سبحانه وتعالى هو المتفرد بالخلق والاختيار من المخلوقات. قال تعالى: وربك يخلق ما يشاء ويختار وليس المراد هاهنا بالاختيار، الإرادة التي يشير إليها المتكلمون بأنه الفاعل المختار، وهو سبحانه كذلك. وليس المراد بالاختيار هنا هذا المعنى. وهذا الاختيار داخل في قوله: "يخلق ما يشاء" فإنه لا يخلق إلا باختياره. وداخل في قوله تعالى: "ما يشاء" فإن المشيئة هي الاختيار. وإنما المراد بالاختيار هنا الاجتباء والاصطفاء. فهو اختيار بعد الخلق. والاختيار العام اختيار قبل الخلق. فهو أعم وأسبق. وهذا أخص وهو متأخر. فهو اختيار من الخلق والأول اختيار للخلق. وأصح القولين أن الوقف التام على قوله: ويختار ويكون: ما كان لهم الخيرة نفيا. أي: ليس هذا الاختيار إليهم، بل هو إلى الخالق وحده. فكما أنه هو المتفرد بالخلق، فهو المتفرد بالاختيار منه. فليس لأحد أن يخلق ولا يختار سواه. فإنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره ومحال رضاه، وما يصلح للاختيار مما لا يصلح له. وغيره لا يشاركه في ذلك بوجه. وذهب بعض من لا تحقيق عنده ولا تحصيل، إلى أن (ما) في قوله تعالى: ما كان لهم الخيرة موصولة وهي مفعول (يختار) أي: ويختار الذي لهم الخيرة. وهذا باطل من وجوه:

أحدها: أن الصلة حينئذ تخلو من العائد. لأن الخيرة مرفوع بأنه اسم (كان) و(لهم) خبره. فيصير المعنى: ويختار الذي كان الخيرة لهم. وهذا التركيب محال من القول. فإن قيل: يمكن تصحيحه بأن يكون العائد محذوفا، ويكون التقدير: ويختار الذي كان لهم الخيرة فيه. أي: ويختار الأمر الذي كان لهم الخيرة في اختياره. قيل: هذا يفسد من وجه آخر. وهو أن هذا ليس من المواضع التي يجوز فيها حذف العائد. فإنه إنما يحذف مجرورا إذا جر بحرف جر الموصول بمثله، مع اتحاد المعنى نحوه قوله تعالى: يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ونظائره. ولا يجوز أن يقال جاءني الذي مررت، ورأيت الذي رغبت، ونحوه.

الثاني: أنه لو أريد هذا المعنى لنصب (الخيرة) وشغل فعل الصلة بضمير يعود على الموصول. فكأنه يقول: ويختار ما كان لهم [ ص: 4721 ] الخيرة. أي: الذي كان هو عين الخيرة لهم. وهذا لم يقرأ به أحد البتة. مع أنه كان وجه الكلام على هذا التقدير.

الثالث: أن الله سبحانه يحكي عن الكفار اقتراحهم في الاختيار وإرادتهم أن يكون الخيرة لهم. ثم ينفي هذا سبحانه عنهم، ويبين تفرده بالاختيار، كما قال تعالى: وقالوا لولا نـزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون فأنكر عليهم سبحانه تخيرهم عليه. وأخبر أن ذلك ليس إليهم. بل إلى الذي قسم بينهم معايشهم المتضمنة لأرزاقهم ومدد آجالهم. وكذلك هو الذي يقسم فضله بين أهل الفضل، على حسب علمه بمواقع الاختيار، ومن يصلح له ممن لا يصلح. وهو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات. وقسم بينهم معايشهم ودرجات التفضيل. فهو القاسم ذلك وحده لا غيره. وهكذا هذه الآية. بين فيها انفراده بالخلق والاختيار. فالله سبحانه أعلم بمواقع اختياره كما قال: وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته أي: الله أعلم بالمحل الذي يصلح لاصطفائه وكرامته وتخصيصه بالرسالة والنبوة، دون غيره.

الرابع: أنه نزه نفسه سبحانه عما اقتضاه شركهم من اقتراحهم واختيارهم فقال: ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون ولم يكن شركهم مقتضيا لإثبات خالق سواه، حتى نزه نفسه عنه. فتأمله فإنه في غاية اللطف.

الخامس: إن هذا نظير قوله في الحج: إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ثم قال: الله يصطفي من [ ص: 4722 ] الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور وهذا نظير قوله في القصص: وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ونظير قوله في الأنعام: الله أعلم حيث يجعل رسالته فأخبر في ذلك كله عن علمه المتضمن لتخصيصه محال اختياره، بما خصصها به بعلمه، بأنه يصلح له دون غيره فتقدير السياق في هذه الآيات تجده متضمنا لهذا المعنى دائرا عليه. والله أعلم.

السادس: إن هذه الآية مذكورة عقيب قوله: ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين وربك يخلق ما يشاء ويختار فكما خلقهم وحده سبحانه، اختار منهم من تاب وآمن وعمل صالحا، فكانوا صفوته من عباده، وخيرته من خلقه، وكان هذا الاختيار راجعا إلى حكمته وعلمه سبحانه، لمن هو أهل له. لا إلى اختيار هؤلاء المشركين واقتراحهم. فسبحان الله وتعالى عما يشركون.

ثم قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (فصل) فإذا تأملت أحوال هذا الخلق رأيت هذا الاختيار والتخصيص فيه، دالا على ربوبيته تعالى ووحدانيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته. وأنه الله الذي لا إله إلا هو، فلا شريك له يخلق كخلقه، ويختار كاختياره، ويدبر كتدبيره. فهذا الاختيار والتدبير والتخصيص، المشهور أثره في هذا العالم، من أعظم آيات ربوبيته، وأكبر شواهد وحدانيته، وصفات كماله وصدق رسوله. فنشير منه إلى شيء يسير يكون منبها على ما وراءه، دالا على ما سواه. فخلق الله السماوات سبعا. فاختار العليا منها فجعلها مستقر المقربين من ملائكته واختصها بالقرب من كرسيه ومن عرشه. وأسكنها من شاء من خلقه. فلها مزية وفضل على سائر السماوات. ولو لم يكن إلا قربها منه تبارك وتعالى. وهذا التفضيل والتخصيص، مع تساوي [ ص: 4723 ] مادة السماوات، من أبين الأدلة على كمال قدرته وحكمته، وأنه يخلق ما يشاء ويختار. ومن هذا تفضيله سبحانه جنة الفردوس على سائر الجنان، وتخصيصها بأن جعل عرشه سقفها. وفي بعض الآثار: إن الله سبحانه غرسها بيده واختارها لخيرته من خلقه. ومن هذا اختياره من الملائكة، المصطفين منهم على سائرهم. كجبريل وميكائيل وإسرافيل. وكذلك اختياره سبحانه للأنبياء من ولد آدم. واختيار الرسل منهم واختياره أولي العزم منهم. واختياره منهم الخليلين إبراهيم ومحمدا صلى الله عليهم وسلم. ومن هذا اختياره سبحانه ولد إسماعيل من أجناس أنواع بني آدم. ثم اختار منهم بني كنانة بن خزيمة. ثم اختار من ولد كنانة قريشا. ثم اختار من قريش بني هاشم. ثم اختار من بني هاشم، سيد ولد آدم محمدا صلى الله عليه وسلم. وكذلك اختار أصحابه من جملة العالمين. واختار منهم السابقين الأولين. واختار منهم أهل بدر وأهل بيعة الرضوان. واختار لهم من الدين أكمله، ومن الشرائع أفضلها، ومن الأخلاق أزكاها وأطيبها وأطهرها. واختار أمته صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم. ومن هذا اختياره سبحانه وتعالى من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها. وهي البلد الحرام. فإنه سبحانه اختاره لنبيه، وجعله مناسك لعباده. وأوجب عليهم الإتيان إليه من القرب والبعد من كل فج عميق. فلا يدخلونه إلا متواضعين متخشعين متذللين، كاشفي رؤوسهم، متجردين عن لباس أهل الدنيا. وجعله حرما آمنا لا يسفك فيه دم، ولا تعضد به شجرة، ولا ينفر له صيد ولا يختلى خلاه، ولا يلتقط لقطته للتملك. بل للتعريف ليس إلا. ومن هذا تفضيله بعض الأيام والشهور على بعض. فخير الأيام عند الله يوم النحر. وهو يوم الحج الأكبر كما في (السنن). وأفضل الشهور شهر رمضان. وعشره الأخير أفضل الليالي. وليلة القدر أفضل من ألف شهر. ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع. ويوم عرفة ويوم النحر أفضل أيام العام. انتهى ملخصا.

وقد أوسع المقال وجود الاستدلال. فرحمه الله ورضي عنه وأرضاه. وقوله تعالى: سبحان الله أي: تنزيها لله الذي لا يزاحم اختياره اختيار: وتعالى عما يشركون
[ ص: 4724 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[69 - 71] وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون

وربك يعلم ما تكن أي: تخفي: صدورهم أي: من الكيد والمكر: وما يعلنون أي: من الأقوال والأفعال: وهو الله لا إله إلا هو أي: وهو المستحق للألوهية والعبادة وحده: له الحمد في الأولى والآخرة أي: لأنه المولى للنعم كلها في الدارين: وله الحكم أي: القضاء النافذ في كل شيء. يقهر كل شيء على مقتضى مشيئته. ويحكم عليه بموجب إرادته: وإليه ترجعون أي: بالبعث للجزاء: قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون أي: هذا الكلام الحق، سماع تدبر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[72 - 76] قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون [ ص: 4725 ] ونـزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين

قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون أي: هذه المنفعة فتقوموا بشكرها: ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه أي: في الليل: ولتبتغوا من فضله أي: في النهار: ولعلكم تشكرون أي: نعمه الظاهرة والباطنة، والجسمانية والروحانية، باستعمالها فيما وجب من طاعته. وذلك فيما خلقت له.

ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ونـزعنا أي: وأخرجنا: من كل أمة شهيدا أي: نبيا يشهد عليهم بما كانوا عليه. كقوله تعالى: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد فقلنا أي: لكل أمة من تلك الأمم: هاتوا برهانكم أي: على ما أنتم عليه. أحق هو أم لا؟ فعجزوا عن آخرهم. وظهر برهان النبي، كما قال تعالى: فعلموا أن الحق لله أي: في الألوهية، لا يشاركه فيها أحد: وضل عنهم أي: غاب عنهم غيبة الضائع: ما كانوا يفترون أي: من الباطل والمذاهب المختلفة، والطرق المتشعبة المتفرقة.

إن قارون كان من قوم موسى أي: من شاكلتهم في الكفر والطغيان. وقوم موسى، جماعته الذين أرسل إليهم، وهم القبط وطاغيتهم فرعون: فبغى عليهم أي: بالكبر والاستطالة عليهم لما غلب عليه الحرص ومحبة الدنيا، لغروره وتعززه برؤية زينة نفسه:وآتيناه من الكنوز أي: من الأموال [ ص: 4726 ] المدخرة: ما إن مفاتحه أي: مفاتيح صناديقه. على حذف مضاف. أو الإضافة لأدنى ملابسة. وقيل خزائنه: لتنوء أي: تثقل: بالعصبة أي: الجماعة الكثيرة من الرجال أو البغال: أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح أي: بزخارف الدنيا فرحا يشغلك عن الشكر فيها والقيام بحقها: إن الله لا يحب الفرحين أي: هذا الفرح، لما فيه من إيثارها عن الآخرة، والرضا بها عنها، والإخلاد إليها. وذلك أصل كل شر ومبعث كل فساد.
القول في تأويل قوله تعالى:

[77 - 78] وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون .

وابتغ فيما آتاك الله أي: اطلب من الغني الذي تفضل الله به عليك، بعد الفاقة: الدار الآخرة أي: بأن تفعل فيه أفعال الخير من أصناف الواجب والمندوب. وتجعله زادك إلى الآخرة: ولا تنس نصيبك من الدنيا وهو أن تأخذ منه ما يصلحك ويرفهك: وأحسن أي: إلى الناس. أو افعل الإحسان من وجوهه المعروفة: كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض أي: بهذا المال الذي جعله سبب صلاحها: إن الله لا يحب المفسدين قال إنما أوتيته على علم عندي أي: بطرق التجارة أو المكاسب: أولم يعلم أي: مما سمع بالتواتر: أن الله قد أهلك من قبله من القرون أي: الكثيرة، بحيث صارت سنة له: من هو أشد منه قوة أي: بالأموال والأتباع: وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم [ ص: 4727 ] المجرمون أي: لا يتوقف إهلاكه إياهم على سؤال، ليعتذروا عنها. بل متى حق عليها القول بفسقهم، أهلكهم بغتة بلا معاتبة وطلب عذر. ثم أشار تعالى إلى أن قارون لم يعتبر بذلك، ولا بنصيحة قومه، بقوله سبحانه:
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 46.40 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 45.78 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.35%)]