عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 30-12-2024, 06:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الرُّومِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4771 الى صـ 4781
الحلقة (492)





القول في تأويل قوله تعالى:

[19 - 21] يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون

يخرج الحي من الميت أي: كالإنسان من النطفة، والطائر من البيضة: ويخرج الميت من الحي كالنطفة والبيضة من الحيوان: ويحيي الأرض أي: بالنبات: بعد موتها أي: يبسها: وكذلك أي: ومثل ذلك الإخراج: تخرجون أي: من قبوركم.

وقال المهايمي: أي: بالصلاة عن موت القلب إلى حياته، ومن حياة النفس إلى موتها. ويحيي أرضها بنبات الهيئات الفاضلة، بعد موتها بالهيئات الرديئة. وبالعكس بتركها. وآثر هذا المعنى، على بعده، مراعاة لسياق الآية، ومن طريق الإشارة: ومن آياته أي: [ ص: 4772 ] الباهرة الدالة على قدرته على البعث: أن خلقكم من تراب أي: يعني: أصلكم آدم عليه السلام، أو النطفة والمادة، أو على تقدير مضاف; أي: ولا مناسبة بين التراب وبين ما أنتم عليه في ذاتكم، وصفاتكم: ثم إذا أنتم بشر تنتشرون أي: في الأرض انتشارا ملأ البسيطة وشمل الكرة، فأخذتم في بناء المدائن والحصون، والسفر في أقطار الأقاليم، وركوب متن البحار، والدوران حول كرة الأرض، وكسب الأموال وجمعها، مع فكرة ودهاء، ومكر وعلم، واتساع في أمور الدنيا والآخرة، كل بحسبه.

فسبحان من خلقهم وسيرهم، وصرفهم في فنون المعايش وفاوت بينهم في العلوم والمعارف، والحسن والقبح، والغنى والفقر، والسعادة والشقاوة.

ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أي: جنسكم: أزواجا لتسكنوا إليها أي: تأنسوا بها. فإن المجانسة من دواعي التضام والتعارف: وجعل بينكم مودة ورحمة أي: توادا وتراحما بعصمة الزواج، بعد أن لم يكن لقاء ولا سبب يوجب التعاطف من قرابة أو رحم: إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون أي: في بدائع هذه الأفاعيل المتينة المبنية على الحكم البالغة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[22 - 25] ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينـزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون [ ص: 4773 ] ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون

ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين أي: أولي العلم كما قال: وما يعقلها إلا العالمون ومن آياته منامكم بالليل والنهار أي: لاستراحة القوى، ورد ما فقدته: وابتغاؤكم من فضله أي: بالسعي في الأسباب، والأخذ في فضل الاكتساب، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون أي: سماع تفهم واستبصار: ومن آياته يريكم البرق خوفا أي: من الصاعقة: وطمعا أي: في الغيث والرحمة، أو لتخافوا من قهر سلطانه وتطمعوا في عظيم إحسانه: وينـزل من السماء ماء فيحيي به الأرض أي: بالنبات: بعد موتها أي: يبسها: إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره أي: إرادته لقيامهما. قال أبو السعود: والتعبير عنها بالأمر، للدلالة على كمال القدرة، والغنى عن المبادئ والأسباب، وليس المراد بإقامتهما إنشاءهما; لأنه قد بين حاله بقوله تعالى: ومن آياته خلق السماوات والأرض ولا إقامتهما بغير مقيم محسوس، كما قيل; فإن ذلك من تتمات إنشائهما، وإن لم يصرح به، تعويلا على ما ذكر في غير موضع من قوله تعالى: خلق السماوات بغير عمد ترونها الآية، بل قيامهما واستمرارهما على ما هما عليه، إلى أجلهما الذي نطق به قوله تعالى فيما قبل: ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وحيث كانت هذه الآية متأخرة عن سائر الآيات المعدودة، متصلة بالبعث في الوجود، أخرت عنهن وجعلت متصلة به في الذكر أيضا، فقيل: ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون فإنه كلام مسوق للإخبار بوقوع البعث ووجوده، بعد انقضاء أجل قيامهما، [ ص: 4774 ] مترتب على تعداد آياته الدالة عليه، غير منتظم في سلكها كما قيل. كأنه قيل: ومن آياته قيام السماوات والأرض على هيآتهما بأمره تعالى، إلى أجل مسمى قدره الله تعالى لقيامهما، ثم إذا دعاكم; أي: بعد انقضاء الأجل من الأرض، وأنتم في قبوركم، دعوة واحدة، بأن قال: أيها الموتى! اخرجوا، فاجأتم الخروج منها، وذلك قوله تعالى: يومئذ يتبعون الداعي انتهى.

لطائف:

الأولى- الدعاء: إما على حقيقته، أو الكلام تمثيل، شبه سرعة ترقب حصول ذلك، على تعلق إرادته بلا توقف، واحتياج إلى تجشم عمل، بسرعة ترقب إجابة الداعي المطاع على دعائه، أو هو مكنية وتخييلية، بتشبيه الموتى بقوم يريدون الذهاب إلى محل ملك عظيم يتهيؤون لذلك، وإثبات الدعوة لهم قرينتها.

الثانية- قوله تعالى: من الأرض متعلق بـ: (دعا) كقوله: دعوته من أسفل الوادي فطلع إلي، لا بـ: "تخرجون"; لأن ما بعد (إذا) لا يعمل فيما قبله.

الثالثة- قال الكرخي: قال هنا: إذا أنتم تخرجون وقال في خلق الإنسان: ثم إذا أنتم بشر تنتشرون لأنه هناك يكون خلق وتقدير وتدريج، حتى يصير التراب قابلا للحياة، فنفخ فيه الروح، فإذا هو بشر، وأما في الإعادة فلا يكون تدريج بل يكون بدء وخروج، فلم يقل هنا: ثم. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[26 - 27] وله من في السماوات والأرض كل له قانتون وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم .

[ ص: 4775 ] وله من في السماوات والأرض أي: خلقا وملكا وتصرفا: كل له قانتون أي: منقادون لتصرفه، لا يتأبون عليه: وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده أي: بعد موتهم. قال أبو السعود: وتكريره لزيادة التقرير، والتمهيد لما بعده من قوله تعالى: وهو أهون عليه أي: من البدء; أي: بالقياس إلى من يقتضيه معقول المخاطبين; لأن من أعاد منهم صنعة شيء، كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها، وإلا فهما عليه سبحانه سواء في السهولة.

لطائف:

الأولى- تذكير الضمير، مع رجوعه إلى الإعادة، لما أنها مؤولة بـ "أن يعيد".

الثانية- قال الزمخشري : فإن قلت: لم أخرت الصلة في قوله: وهو أهون عليه وقدمت في قوله: هو علي هين قلت: هناك قصد الاختصاص، وهو محزه. فقيل: "هو علي هين"، وإن كان مستصعبا عندكم أن يولد بين هم وعاقر، وأما ههنا، فلا معنى للاختصاص كيف؟ والأمر مبني على ما يعقلون، من أن الإعادة أسهل من الابتداء. فلو قدمت الصلة، لتغير المعنى.

قال الناصر: كلام نفيس يستحق أن يكتب بذوب التبر، لا بالحبر، وإنما يلقى الاختصاص من تقديم ما حقه أن يؤخر.

الثالثة- قال الزمخشري : فإن قلت ما بال الإعادة استعظمت في قوله: ثم إذا دعاكم حتى كأنها فضلت على قيام السماوات والأرض بأمره، ثم هونت بعد ذلك؟ قلت: الإعادة في نفسها عظيمة، لكنها هونت بالقياس إلى الإنشاء. انتهى.

قال الناصر: إنما يلقي في السؤال تعظيم الإعادة من عطفها بـ (ثم) إيذانا بتغاير مرتبتها وعلو شأنها. وقوله _(في الجواب)-: إنها هونت بالنسبة إلى الإنشاء، لا يخلص. فإن الإعادة ذكرت ههنا عقيب قيام السماوات والأرض بأمره، وقيامهما ابتداء وإنشاء أعظم من الإعادة، فيلزم [ ص: 4776 ] تعظيم الإعادة بالنسبة إلى ما عطف عليه من الإنشاء، ويعود الإشكال، والمخلص، والله أعلم، جعل: "ثم" على بابها لتراخي الزمان لا لتراخي المراتب، وإن سلم أنها لتراخي المراتب، فعلى أن تكون مرتبة المعطوف عليه العليا، ومرتبة المعطوف هي الدنيا، وذلك نادر في مجيئها لتراخي المراتب، فإن المعطوف حينئذ في أكثر المواضع، أرفع درجة من المعطوف عليه، والله أعلم. انتهى.

وفي حواشي القاضي: إن: (ثم)، إما لتراخي زمان المعطوف فتكون على حقيقتها، أو لعظم ما في المعطوف من إحياء الموتى، فتكون للتفاوت في الرتبة لا للتراخي الزماني، والمراد عظمه في نفسه، وبالنسبة إلى المعطوف عليه، فلا ينافي قوله: وهو أهون عليه وكونه أعظم من قيام السماء والأرض; لأنه المقصود من الإيجاد والإنشاء، وبه استقرار السعداء والأشقياء في الدرجات والدركات، وهو المقصود من خلق الأرض والسماوات. فاندفع اعتراض الناصر بأنه، على تسليمه، مرتبة المعطوف عليه هنا هي العليا، مع أن كون المعطوف في مثله أرفع درجة، أكثري لا كلي، كما صرح به الطيبي هنا. فلا امتناع فيما منعه، وهي فائدة نفيسة، ويجوز حمله على مطلق البعد الشامل للزماني والرتبي كما في (شرح الكشاف).

وقوله تعالى: وله المثل الأعلى في السماوات والأرض أي: الوصف الأعلى الذي ليس لغيره ما يدانيه فيهما، كالقدرة العامة والحكمة التامة، وذلك لأنه لما جعل ما ذكر أهون عليه على طريق التمثيل، عقبه بهذا، فكأنه قيل هذا، لتفهم العقول القاصرة أن صفاته عجيبة وقدرته عامة وحكمته تامة، فكل شيء بدءا وإعادة وإيجادا وإعداما، عنده على حد سواء، ولا مثل له ولا ند.

وقال الزجاج : المراد بالمثل قوله: وهو أهون عليه فاللام فيه للعهد، فحمل المثل على ظاهره، وعلى ما ذكر أولا، وهو مجاز عن الوصف العجيب، فيشمل القول وغيره مما هو جار على ألسنة الدلائل ولسان كل قائل وهو العزيز أي: الغالب على أمره، الذي لا يعجزه بدء ممكن وإعادته: الحكيم الذي يجري أفعاله على سنن الحكمة والمصلحة.
[ ص: 4777 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[28 - 29] ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين

ضرب لكم مثلا أي: يتبين به بطلان الشرك: من أنفسكم أي: منتزعا من أحوالها، وهي أقرب الأمور إليكم وأظهر كشفا: هل لكم من ما ملكت أيمانكم أي: من العبيد والإماء: من شركاء في ما رزقناكم أي: من الأموال وغيرها: فأنتم فيه سواء أي: متساوون في التصرف فيما ذكر من غير مزية: تخافونهم أي: تهابون أن تستبدوا بالتصرف فيه بدون رأيهم، وهو خبر آخر لـ: "أنتم": كخيفتكم أنفسكم أي: كما يخاف بعضكم بعضا من الأحرار المساهمين لكم فيما ذكر، والمعنى نفي مضمون ما فصل من الجملة الاستفهامية; أي: لا ترضون بأن يشارككم فيما هو معار لكم، مماليككم، وهم أمثالكم في البشرية، غير مخلوقين لكم، بل لله تعالى، فكيف تشركون به سبحانه في المعبودية، التي هي من خصائصه الذاتية، مخلوقه بل مصنوع مخلوقه، حيث تصنعونه بأيديكم ثم تعبدونه؟ أفاده أبو السعود: كذلك نفصل الآيات أي: مثل ذلك التفصيل الواضح، توضح الآيات: لقوم يعقلون بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم أي: يقين وبرهان: فمن يهدي من أضل الله أي: سبب صرف اختياره إلى كسبه; أي: لا يقدر على هدايته أحد: وما لهم من ناصرين أي: ينصرونهم من الله، إذا أراد بهم عذابا.
[ ص: 4778 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[30 - 32] فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون

فأقم وجهك للدين أي: فقومه له، واجعله مستقيما متوجها له. وفي النظم الكريم استعارة تمثيلية، بتشبيه المأمور بالتمسك بالدين، ورعاية حقوقه، وعدم مجاوزة حدوده والاهتمام بأموره، بمن أمر بالنظر إلى أمر، وعقد طرفه به، وتسديد نظره وتوجيه وجهه له، لمراعاته والاهتمام بحفظه: حنيفا أي: مائلا عن كل ما سواه إليه. قال المهايمي: ولا يعسر الرجوع إليه لكونه: فطرت الله التي فطر الناس عليها أي: لأن عقل كل واحد يدل على أنه حادث يفتقر إلى محدث، ولا دلالة على الافتقار إلى متعدد أبدا. فالقول بتعدده تغيير للفطرة، لكن: لا تبديل لخلق الله أي: لا تغيير لأمر العقل الذي خلقه الله للاستدلال: ذلك أي: الدين المأمور بإقامة الوجه له، أو الفطرة: الدين القيم أي: المستقيم الذي لا عوج فيه. قال المهايمي: وإن لم يقم عند المبدلين دليل على استحالة التعدد، فهذا هو مقتضى الفطرة: ولكن أكثر الناس لا يعلمون أي: أنه مقتضى الفطرة، وهي أقطع قاطع وأحسم حاسم لشغب المشاغب; لأنها من الأمور التي لا تدخل تحت الكسب والاختيار.

وقوله تعالى: منيبين إليه أي: راجعين إليه بالتوبة والإنابة: ومن يغفر الذنوب إلا الله وهو حال من فاعل (الزموا)، المقدر ناصبا لـ: "فطرة" أو من فاعل: "أقم" على المعنى; إذ لم يرد به واحد بعينه، أو لأن الخطاب له صلى الله عليه وسلم، ولأمته، أو على أنه على حذف المعطوف عليه; أي: أقم أنت وأمتك، والحال من الجميع: [ ص: 4779 ] واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم أي: جعلوه أديانا مختلفة، لاختلاف أهوائهم: وكانوا شيعا أي: فرقا: كل حزب بما لديهم فرحون أي: كل حزب منهم فرح بمذهبه، مسرور، يحسب باطله حقا.

قال القاشاني: يعني المفارقين الدين الحقيقي، المتفرقين شيعا مختلفة، كل حزب عند تكدر الفطرة، وتكاثف الحجاب، يفرح بما يقتضيه استعداده من الحجاب، لكونه مقتضى طبيعة حجابه، فيناسب حاله من الاستعداد العارضي، وإن لم يلائم الحقيقة بحسب الاستعداد، ولهذا يجب به التعذيب عند زوال العارض.

ثم احتج عليهم برجوعهم إليه عند الشدائد، مما يحمل أن يرجع إليه بعبادته دائما، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[33 - 36] وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون أم أنـزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون

وإذا مس الناس ضر أي: شدة: دعوا ربهم منيبين إليه أي: راجعين إليه وحده دون شركائهم: ثم إذا أذاقهم منه رحمة أي: خلاصا من تلك الشدة: إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم أي: بالسبب الذي آتيناهم الرحمة من أجله، وهو الإنابة، واللام للعاقبة. وقيل: للأمر التهديدي، كقوله تعالى: فتمتعوا فسوف [ ص: 4780 ] تعلمون أي: عاقبة تمتعكم ووباله.

أم أنـزلنا عليهم سلطانا أي: حجة واضحة قاهرة: فهو يتكلم أي: تكلم دلالة، كما في قوله تعالى: هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق بما كانوا به يشركون أي: بإشراكهم، وهذا استفهام إنكار، أي: لم يكن شيء من ذلك: وإذا أذقنا الناس رحمة أي: نعمة من صحة وسعة: فرحوا بها أي: بطرا وفخرا، لا حمدا وشكرا: وإن تصبهم سيئة أي: شدة: بما قدمت أيديهم أي: من المعاصي والآثام: إذا هم يقنطون أي: ييأسون من روح الله قال: هذا إنكار على الإنسان من حيث هو، إلا من عصمه الله تعالى ووفقه، فإن الإنسان إذا أصابته نعمة بطر، وقال: ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور أي: يفرح في نفسه، يفخر على غيره، وإذا أصابته شدة قنط، وأيس أن يحصل بعد ذلك خير بالكلية قال الله تعالى: إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أي: صبروا في الضراء وعملوا الصالحات في الرخاء، كما ثبت في (الصحيح): « عجبا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له » .
القول في تأويل قوله تعالى:

[37] أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون

أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون قال الزمخشري : أنكر عليهم بأنهم قد عملوا أنه هو الباسط القابض، فما لهم [ ص: 4781 ] يقنطون من رحمته، وما لهم لا يرجعون إليه تائبين من المعاصي التي عوقبوا بالشدة من أجلها، حتى يعيد إليهم رحمته؟

ولما بين تعالى أن السيئة أصابتهم بما قدمت أيديهم، أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل، وما يجب أن يترك، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[38 - 39] فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون

فآت ذا القربى حقه أي: من البر والصلة، واستدل به أبو حنيفة رحمه الله على وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب; لأن (آت): أمر للوجوب. والظاهر من: (الحق)، بقرينة ما قبله أنه ما لي، وهو استدلال متين: والمسكين وهو الذي لا شيء له ينفق عليه، أو له شيء لا يقوم بكفايته: وابن السبيل أي: السائل فيه، والذي انقطع به، وحقهما هو نصيبهما من الصدقة والمواساة: ذلك خير للذين يريدون وجه الله أي: النظر إليه يوم القيامة، وهو الغاية القصوى، أو يريدون ذاته بمعروفهم لا رياء ولا سمعة، ولا مكافأة يد، كما قال تعالى: الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى وأولئك هم المفلحون أي: في الدنيا والآخرة.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 52.77 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 52.14 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.19%)]