عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 30-12-2024, 08:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 156,111
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4826 الى صـ 4836
الحلقة (497)



[ ص: 4826 ] فأما الابن من الرضاعة، فمنزل منزلة ابن الصلب شرعا، بقوله صلى الله عليه وسلم في (الصحيحين): « حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب » .

فأما دعوة الغير ابنا، على سبيل التكريم والتحبيب، فليس مما نهى عنه في هذه الآية، بدليل ما رواه الإمام أحمد وأهل السنن، إلا الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على جمرات لنا من (جمع) فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: « أبيني! ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس » .

قال أبو عبيدة وغيره: (أبيني)، تصغير (ابني). وهذا ظاهر الدلالة; فإن هذا في حجة الوداع سنة عشر.

وفي مسلم عن أنس قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا بني » . رواه أبو داود والترمذي . انتهى كلام ابن كثير .

وفي ذهابه إلى أن الأمر في الآية ناسخ نظر; لأن الناسخ لا بد أن يرفع خطابا متقدما، وأما ما لا خطاب فيه سابقا، بل ورد حكما مبتدأ رفع البراءة الأصلية، فلا يسمى نسخا اصطلاحا. فاحفظه; فإنه مهم ومفيد في عدة مواضع.

[ ص: 4827 ] ولما أمر تعالى برد أنساب الأدعياء إلى آبائهم، إن عرفوا، أشار إلى دعوتهم بالإخوة والمولوية إن لم يعرفوا، بقوله سبحانه: فإن لم تعلموا آباءهم أي: فتنسبوهم إليهم: فإخوانكم أي: فهم إخوانكم: في الدين ومواليكم أي: أولياؤكم فيه; أي: فقولوا: هذا أخي، وهذا مولاي، ويا أخي ويا مولاي: وليس عليكم جناح أي إثم: فيما أخطأتم به أي: فيما فعلتموه من نسبة بعضهم إلى غير أبيه في الحقيقة، مخطئين بالسهو أو النسيان، أو سبق اللسان; لأن الله تعالى قد وضع الحرج في الخطأ، ورفع إثمه: ولكن ما تعمدت قلوبكم أي: ففيه الجناح; لأن من تعمد الباطل كان آثما: وكان الله غفورا رحيما أي: لعفوه عن المخطئ.
القول في تأويل قوله تعالى:

[6] النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا

النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم أي: في كل شيء من أمور الدين والدنيا، فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها، وحقه آثر لديهم من حقوقها، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها، وأن يبذلوها دونه، ويجعلوها فداءه إذا أعضل خطب، ووقاءه إذا لقحت حرب، وأن لا يتبعوا ما تدعوهم إليه نفوسهم، ولا ما تصرفهم عنه، ويتبعوا كل ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرفهم عنه; لأن كل ما دعا إليه فهو إرشاد لهم إلى نيل النجاة، والظفر بسعادة الدارين، وما صرفهم عنه، فأخذ بحجزهم لئلا يتهافتوا فيما يرمي بهم إلى الشقاوة وعذاب النار. أفاده الزمخشري .

وهذا كما قال تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم [ ص: 4828 ] لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما وفي (الصحيح): « والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه، وماله، وولده، والناس أجمعين » : وأزواجه أمهاتهم أي: في وجوب تعظيمهن واحترامهن، وتحريم نكاحهن، وفيما عدا ذلك كالأجنبيات; ولذا قال ابن كثير : ولكن لا تجوز الخلوة بهن، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع، وإن سمى بعض العلماء بناتهن، أخوات المؤمنين، كما هو منصوص الشافعي رضي الله عنه في (المختصر) وهو من باب إطلاق العبارة، لا إثبات الحكم، وهل يقال لمعاوية وأمثاله، خال المؤمنين؟ فيه قولان: وعن الشافعي أنه يقال ذلك. وهل يقال له صلى الله عليه وسلم: أبو المؤمنين؟ فيه قولان: فصح عن عائشة المنع، وهو أصح الوجهين للشافعية لقوله تعالى: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم وروي عن أبي بن كعب وابن عباس رضي الله عنهما، أنهما قرآ: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم). وروي نحو هذا عن معاوية ومجاهد وعكرمة والحسن ، واستأنسوا عليه بالحديث الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنما أنا لكم بمنزلة الوالد، أعلمكم. فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها، ولا يستطيب بيمينه » . أفاده ابن كثير .

وأولو الأرحام أي: ذوو القرابات: بعضهم أولى ببعض في كتاب الله أي: فيما فرضه، أو فيما أوحاه إلى نبيه عليه السلام: من المؤمنين والمهاجرين بيان لأولي الأرحام، أو صلة لـ: "أولي": إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم أي: إخوانكم المؤمنين والمهاجرين غير الرحم: معروفا أي: من صدقة ومواساة وهدية ووصية; فإن بسط اليد في المعروف مما حث الله عباده عليه، ويشارك فيه مع ذوي القربى وغيرهم.

[ ص: 4829 ] تنبيه:

قال في (الإكليل): استدل بقوله تعالى: وأولو الأرحام الآية، من ورث ذوي الأرحام. انتهى.

وهو استدلال متين، وليس مع المخالف ما يقاومه، بل فهم كثيرون أن المعني بها، أن القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار، وأنها ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة، التي كانت بينهم، ذهابا إلى ما روي عن الزبير وابن عباس : أن المهاجري كان يرث الأنصاري، دون قراباته وذوي رحمه، للأخوة التي آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أنزل الله الآية. فرجعنا إلى مواريثنا.

إلا أن الاستدلال بذلك هو من عموم الأولوية، لا أنها خاصة بالمدعي فيها، كما أسلفنا بيانه مرارا: كان ذلك في الكتاب مسطورا أي: في القرآن، أو في قضائه وحكمه، وما كتبه وفرضه، مقررا لا يعتريه تبديل ولا تغيير.
القول في تأويل قوله تعالى:

[7] وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا

وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم أي أخذنا عهودهم بتبليغ الرسالة، والدعاء إلى الحق، والتعاون والتناصر والاتفاق، وإقامة الدين، وعدم التفرق فيه، كما قال تعالى: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين قال أبو السعود: وتخصيصهم بالذكر، يعني قوله: ومنك إلخ مع اندراجهم [ ص: 4830 ] في النبيين، للإيذان بمزيد مزيتهم وفضلهم، وكونهم من مشاهير أرباب الشرائع، وأساطين أولي العزم، وتقديم نبينا عليهم، عليهم الصلاة والسلام، لإبانة خطره الجليل. انتهى.

وقال في (الانتصاف): وليس التقديم في الذكر بمقتض لذلك، ألا ترى إلى قوله:


بهاليل منهم جعفر وابن أمه علي ومنهم أحمد المتخير


فأخر ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ليختم به تشريفا له. وإذا ثبت أن التفضيل ليس من لوازمه التقديم، فيظهر، والله أعلم في سر تقديمه عليه الصلاة والسلام، على نوح ومن بعده في الذكر، أنه هو المخاطب من بينهم، والمنزل عليه هذا المتلو، فكان تقديمه لذلك.

ثم لما قدم ذكره عليه الصلاة والسلام، جرى ذكر الأنبياء، صلوات الله عليهم بعده على ترتيب أزمنة وجودهم. والله أعلم. انتهى.

وقد صرح بأولي العزم هنا، وفي آية: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه قال ابن كثير : فهذه هي الوصية التي أخذ عليهم الميثاق بها وأخذنا منهم ميثاقا غليظا أي: عهدا عظيم الشأن، وكيف لا؟ وقد يعترضه من الماكرين والمحادين والمشاقين، ما تزول منه الجبال، لولا الاعتصام بالصبر عليه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[8 - 9] ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا

ليسأل الصادقين عن صدقهم أي: فعل الله ذلك ليسأل يوم القيامة الأنبياء. ووضع [ ص: 4831 ] الصادقين موضع ضميرهم، لإيذان من أول الأمر، بأنهم صادقون فيما سئلوا عنه، وإنما السؤال لحكمة تقتضيه، أي: ليسأل الأنبياء الذين صدقوا عهودهم عما قالوه لقومهم، أو عن تصديقهم إياها تبكيتا لهم. كما في قوله تعالى: يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم أو المصدقين لهم عن تصديقهم. أفاده أبو السعود وأعد للكافرين عذابا أليما أي: لمن كفر من أممهم عذابا موجعا. ونحن -كما قال ابن كثير - نشهد أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم، ونصحوا الأمم، وأفصحوا لهم عن الحق المبين الواضح الجلي، الذي لا لبس فيه ولا شك ولا امتراء، وإن كذبهم من كذبهم من الجهلة، والمعاندين، والمارقين، والقاسطين، فما جاءت به الرسل هو الحق، ومن خالفهم فهو على الضلال. انتهى.

يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم أي: ما أنعم به عليكم يوم الأحزاب، وهو يوم الخندق: إذ جاءتكم جنود وهم الأحزاب: فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وهم الملائكة، أو ما أتى من الريح من طيور الجو وجراثيمه، المشوشة للقار المقلقلة للهادئ: وكان الله بما تعملون بصيرا
القول في تأويل قوله تعالى:

[10 - 13] إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا [ ص: 4832 ] ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا

إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم أي: من أعلى الوادي وأسفله، بقصد التحزب على أن يكونوا جملة واحدة على استئصال النبي صلى الله عليه وسلم، وصحبه: وإذ زاغت الأبصار أي: مالت عن سننها ومستوى نظرها، حيرة وشخوصا: وبلغت القلوب الحناجر أي: منتهى الحلقوم; لأن بالفزع تنتفخ الرئة فترتفع، وبارتفاعها ترتفع القلوب، وذلك من شدة الغم. أو هو مثل في اضطراب القلوب وتظنون بالله الظنونا أي: أنواع الظنون المختلفة: هنالك ابتلي المؤمنون أي: اختبروا ليتميز الثابت من المتزلزل، والمؤمن من المنافق: وزلزلوا زلزالا شديدا أي: أزعجوا أشد الإزعاج من شدة الخوف والفزع، أو من كثرة الأعداء.

فائدة:

قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر : "الظنونا" بإثبات ألف بعد النون، وبعد لام الرسول، في قوله: وأطعنا الرسولا ولام السبيل، في قوله: فأضلونا السبيلا وصلا ووقفا، موافقة للرسم; لأن هذه الثلاثة رسمت في المصحف، كذلك، وأيضا فإن هذه الألف تشبه هاء السكت لبيان الحركة. وهاء السكت تثبت وقفا للحاجة إليها، وقد ثبتت وصلا إجراء للوصل مجرى الوقف. فكذلك هذه الألف.

وقرأ أبو عمرو وحمزة بحذفها في الحالتين; لأنها لا أصل لها، وقولهم: (أجريت الفواصل مجرى القوافي). غير معتد به; لأن القوافي يلزم الوقف عليها غالبا، والفواصل لا يلزم ذلك فيها، فلا تشبه بها، والباقون بإثباتها وقفا، وحذفها وصلا، إجراء للفواصل مجرى القوافي، في ثبوت ألف الإطلاق، ولأنها كهاء السكت، وهي تثبت وقفا، وتحذف وصلا. أفاده السمين.

ثم أشار تعالى إلى ما ظهر من المنافقين في تلك الشدة، بقوله سبحانه: وإذ يقول [ ص: 4833 ] المنافقون والذين في قلوبهم مرض أي: شبهة، تنفسا بما يجدونه من الوسواس في نفوسهم، وفرصة لانطلاق ألسنتهم، بما تكن صدورهم; لضعف إيمانهم وشدة ما هم فيه من ضيق الحال، وحصر العدو لهم: ما وعدنا الله ورسوله أي: من النصر: إلا غرورا أي: باطلا: وإذ قالت طائفة منهم أي: المنافقين: يا أهل يثرب وهي أرض المدينة: لا مقام لكم بضم الميم وفتحها، قراءتان; أي: لا إقامة لكم بعد اليوم بالمدينة، أو نواحيها لغلبة الأعداء: فارجعوا أي: إلى منازلكم من المدينة هاربين، أو فارجعوا عن الإسلام كفارا ليمكنكم المقام.

فائدة:

(يثرب) من أسماء المدينة. كما في (الصحيح): « أريت في المنام دار هجرتكم، أرض بين حرتين، فذهب وهلي أنها هجر، فإذا هي يثرب » وفي لفظ: « المدينة » .

قال ابن كثير : فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من سمى المدينة (يثرب) فليستغفر الله تعالى، إنما هي طابة هي طابة » . تفرد به الإمام أحمد ، وفي إسناده ضعف. انتهى ويستأذن فريق منهم النبي أي: في الرجوع: يقولون إن بيوتنا عورة أي: غير حصينة يخشى عليها: وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا
القول في تأويل قوله تعالى:

[14 - 16] ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا [ ص: 4834 ] ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا

ولو دخلت أي: يثرب: عليهم من أقطارها أي: بأن دخل عليهم العدو من سائر جوانبها، وأخذ في النهب والسلب: ثم سئلوا الفتنة أي: الرجعة إلى الكفر: لآتوها أي: لفعلوها: وما تلبثوا بها إلا يسيرا أي: وما توقفوا بإعطائها إلا ريثما يكون السؤال والجواب; أي: فهم لا يحافظون على الإيمان ولا يستمسكون به، مع أدنى خوف وفزع. وهذا منتهى الذم لهم، ثم ذكرهم تعالى بما كانوا عاهدوه من قبل بقوله: ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل أي: من قبل هذا الخوف: لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا أي: عن الوفاء به: قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل أي: لأنه لا يؤخر آجالهم، ولا يطول أعمارهم. بل ربما كان ذلك سببا في تعجيل أخذهم غرة انتقاما منهم، ولهذا قال: وإذا أي: فررتم: لا تمتعون إلا قليلا أي: في الدنيا بعد فراركم، أو لأنهم فقدوا بذلك حظهم الأخروي، فمهما متعوا في الدنيا، فإنه قليل بجانب نعيم الآخرة للصابرين.
القول في تأويل قوله تعالى:

[17 - 19] قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا [ ص: 4835 ] أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا

قل من ذا الذي يعصمكم أي: يجيركم: من الله إن أراد بكم سوءا أي: هلاكا أو هزيمة: أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا أي: مجيرا ولا مغيثا يدفع عنهم الضر: قد يعلم الله المعوقين منكم أي: المثبطين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم المنافقون. قال الشهاب: و (قد): للتحقيق، أو لتقليله باعتبار متعلقه، وبالنسبة لغير معلوماته. انتهى والقائلين لإخوانهم أي: من ساكني المدينة: هلم إلينا أي: أقبلوا إلى ما نحن فيه من الضلال والثمار: ولا يأتون البأس أي: القتال: إلا قليلا أي: إلا إتيانا قليلا; لأنهم يتثبطون ما أمكن لهم: أشحة عليكم أي: بخلاء بالمعونة والنفقة والمودة عليكم، أو أضناء بكم ظاهرا، إن لم يحضر خوف: فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم أي: في أحداقهم: كالذي يغشى عليه من الموت } أي: كنظره أو كدورانه: فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أي: بالغوا فيكم بالكلام طعنا وذما، فأحرقوكم وآذوكم، وأصل (السلق): بسط العضو ومده للقهر، كان يدا أو لسانا، ويجوز أن يشبه اللسان بالسيف على طريق الاستعارة المكنية، ويثبت له السلق وهو الضرب تخييلا: أشحة على الخير أي: على فعله: أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا
[ ص: 4836 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[20 - 21] يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا

يحسبون الأحزاب لم يذهبوا أي: لم ينهزموا بما أرسل عليهم من الريح والجنود، وأن لهم عودة إليهم لخورهم واضطرابهم: وإن يأت الأحزاب أي: مرة أخرى: يودوا لو أنهم بادون في الأعراب أي: فلا يذهبون إلى قتالهم، ولا يستقرون في المدينة، بل يتمنون أنهم خارجون إلى البدو بين الأعراب، وإن لحقهم عار جبنهم: يسألون أي: القادمين: عن أنبائكم أي: عما جرى لكم، ثم أشار تعالى إلى أنه لا يضر خروجهم عن المدينة، لو أتى الأحزاب، بقوله: ولو كانوا فيكم أي: في حدوث واقعة ثانية: ما قاتلوا إلا قليلا أي: رياء وخوفا من التعيير.

لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة أي: في أخلاقه وأفعاله قدوة حسنة; إذ كان منها ثباته في الشدائد وهو مطلوب، وصبره على البأساء والضراء وهو مكروب ومحروب، ونفسه في اختلاف الأحوال ساكنة، لا يخور في شديدة ولا يستكين لعظيمة أو كبيرة، وقد لقي بمكة من قريش ما يشيب النواصي، ويهد الصياصي، وهو مع الضعف يصابر صبر المستعلي، ويثبت ثبات المستولي، ومن صبر على هذه الشدائد في الدعاء إلى الله تعالى، وهو الرفيع الشأن، كان غيره أجدر إن كان ممن يتبع بإحسان: لمن كان يرجو الله واليوم الآخر أي: رضوان الله، ورحمته، وثواب اليوم الآخر، ونجاته; فإنه يؤثرهما على الحياة الدنيا، فلا يجبن; إذ لا يصح الجبن لمن صح اقتداؤه برسول الله صلى الله عليه وسلم، لغاية قبحه: وذكر الله كثيرا أي: وقرن بالرجاء ذكره تعالى بكثرة; أي: ذكر أمره [ ص: 4837 ] ونهيه ووعده ووعيده، فأدرك مواطن السعادة ومهاوي الشقاوة، وعلم أن في الثبات على قتل العدو، تطهير الأرض من الفساد، وتزيينها بالحق والصلاح والسداد، مما جزاؤه سعادة الدارين، والفوز بالحسنيين.

ثم بين تعالى ما كان من المؤمنين المخلصين في تلك الشدة، بعد بيان ما كان من غيرهم، بقوله سبحانه:


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 50.18 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 49.55 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.25%)]