عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 30-12-2024, 08:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,668
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4859 الى صـ 4869
الحلقة (500)





فقد وقع الاتفاق على انتقاء العصمة المختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم والإمام عن أزواجه وبناته وغيرهن من النساء، وإذا كان كذلك امتنع أن يكون التطهير المدعو به للأربعة، متضمنا للعصمة التي يختص بها النبي صلى الله عليه وسلم، والإمام عندهم. فلا يكون دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بهذا العصمة، لا لعلي ولا لغيره. فإنه دعا لأربعة مشتركين، لم يختص بعضهم بدعوة، وأيضا فالدعاء بالعصمة من الذنوب ممتنع على أصل القدرية. بل وبالتطهير أيضا; فإن الأفعال الاختيارية التي هي فعل الواجبات وترك المحرمات عندهم غير مقدورة للرب، ولا يمكنه أن يجعل العبد مطيعا ولا عاصيا، ولا متطهرا من الذنوب ولا غير متطهر. فامتنع على أصلهم أن يدعو لأحد بأن يجعله فاعلا للواجبات تاركا للمحرمات، وإنما المقدور عندهم قدرة تصلح للخير والشر. كالسيف الذي يصلح لقتل المسلم والكافر، والمال الذي يمكن إنفاقه في الطاعة والمعصية، ثم العبد يفعل باختياره، إما الخير أو الشر بتلك القدرة. وهذا الأصل يبطل حجتهم، والحديث حجة عليهم في إبطال هذا الأصل، حيث دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالتطهير.

فإن قالوا: المراد بذلك أنه يغفر لهم ولا يؤاخذهم، كان ذلك أدل على البطلان من دلالته على العصمة. فتبين أن الحديث لا حجة لهم فيه بحال على ثبوت العصمة. والعصمة [ ص: 4859 ] مطلقا التي هي فعل المأمور وترك المحظور، ليست مقدورة عندهم لله، ولا يمكنه أن يجعل أحدا فاعلا لطاعة، ولا تاركا لمعصية، لا لنبي ولا لغيره، ويمتنع عندهم أن من يعلم أنه إذا عاش يطيعه باختيار نفسه، لا بإعانة الله وهدايته، وهذا مما يبين تناقض قولهم في مسائل العصمة. كما تقدم. ولو قدر ثبوت العصمة، فقد قدمنا أنه لا يشترط في الإمام العصمة، والإجماع على انتقاء العصمة في غيرهم. وحينئذ تبطل حجتهم بكل طريق. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[34] واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا .

واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة أمر لهن بأن يذكرن ولا يغفلن ما يقرأ في بيوتهن من آيات كتابه تعالى، وسنة نبيه اللتين فيهما حياة الأنفس وسعادتها وقوام الآداب والأخلاق. وذكر ذلك مستوجب لتصور عظمته ومكانته وثمرة منفعته. وذلك يجر إلى العمل به. فمن تأول: "اذكرن" باعملن به، أراد ذلك تعبيرا عن المسبب باسم السبب. وجوز أن يكون المعنى: اذكرن هذه النعمة حيث جعلتن أهل بيت النبوة ومهبط الوحي، مما يوجب قوة الإيمان والحرص على الطاعة، حثا على الانتهاء والائتمار فيما كلفنه.

قال أبو السعود: والتعرض للتلاوة في البيوت دون النزول فيها، مع كونه مهبط الوحي لعمومها لجميع الآيات، ووقوعها في كل البيوت، وتكررها الموجب لتمكنهن من الذكر والتذكير، بخلاف النزول وعدم تعيين التالي لتعم تلاوة جبريل، وتلاوة النبي صلى الله عليه وسلم، وتلاوتهن، وتلاوة غيرهن، تعليما وتعلما: إن الله كان لطيفا خبيرا أي: يعلم ويدبر ما يصلح في الدين ولذلك أمر ونهي.
[ ص: 4860 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[35] إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما .

إن المسلمين والمسلمات أي: المنقادين في الظاهر لحكم الله من الذكور والإناث: والمؤمنين والمؤمنات أي: المصدقين بما يجب أن يصدق به في القلب: والقانتين والقانتات أي: بإدامة شغف الجوارح في الطاعات: والصادقين والصادقات في القول بمجانبة الكذب، والعمل بتجريد الإخلاص لوجهه تعالى فلا يكون في طاعتهم رياء: والصابرين والصابرات أي: على البأساء والضراء والنوائب، وعلى القيام بالعبادة والثبات عليها: والخاشعين والخاشعات أي: المتواضعين لله بقلوبهم وجوارحهم. و(الخشوع): السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع، والحامل عليه الخوف منه تعالى ومراقبته: والمتصدقين والمتصدقات أي: بالإحسان إلى الفقراء والبؤساء الذين لا كسب لهم ولا كاسب، فيعطون من فضول أموالهم طاعة لله وإحسانا إلى خلقه وإتماما للخشوع: والصائمين والصائمات أي: الآتين بما طلب منهم من الصيام المورث للتقوى والرحمة على من يتضور جوعا ويتصبر فقرا: والحافظين فروجهم والحافظات أي: عن إبدائها وإراءتها، حياء وكفا عن مثار الشهوة المحرمة، أو عن الحرام والفجور: والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أي: بقلوبهم وألسنتهم: أعد الله لهم مغفرة أي: بسبب ما عملوا من الحسنات المذكورة غفرانا لما اقترفوا من الصغائر; لأنها مكفرة بذلك: وأجرا عظيما أي: ثوابا وافرا في الجنة، وقوله تعالى:
[ ص: 4861 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[36] وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا .

وما كان لمؤمن ولا مؤمنة أي: ما صح لهما: إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم أي: قضى الله ورسوله في أنفسهم قضاء، أن يتخيروا من أمرهم غير الذي قضى فيهم، ويخالفوا أمر الله وأمر رسوله وقضاءهما ويعصوهما، لما في ذلك من المأثم، كما قال تعالى: ومن يعص الله ورسوله أي: فيما أمرا أو نهيا: فقد ضل ضلالا مبينا أي: جار عن قصد السبيل، وسلك غير الهدى والرشاد، وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش ، حين خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة ، فأبت لكونه مولى لا يماثلها في الشرف. فنزلت الآية فرضيت وتزوجها.

قال المهايمي: الظاهر أن الخطبة كانت بطريق الوجوب. ويحتمل أن تكون لا بطريق الوجوب، لكن اعتبار العار في مقابلة خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم معصية، لما فيه من ترجيح قول أهل العرف على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كونه قول الله بالحقيقة.

وقال بعضهم: إنما عد التنزيل إباءها عصيانا، وكأنه أرغمها على زواجه، لما أوقع الله من المصلحة لها وللمسلمين في ذلك. وهو هدم تحريم زوجة المتبنى، الفاشي في الجاهلية. كما سيأتي سياقه.

وذكر أيضا أنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط . وكانت أول من هاجر من النساء -بعد صلح الحديبية- فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، فزوجها زيدا- أي: بعد فراقه زينب - فسخطت، فنزلت الآية، فرضيت.

وروى الإمام أحمد عن أنس قال: [ ص: 4862 ] خطب النبي صلى الله عليه وسلم على جليبيب رضي الله عنه، امرأة من الأنصار إلى أبيها. فقال: حتى أستأمر أمها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « نعم إذا » . قال: فانطلق الرجل إلى امرأته، فذكر ذلك لها، فأبت أشد الإباء. فقالت الجارية: أتريدون أن تردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟ إن كان قد رضيه لكم، فأنكحوه. قال: فكأنها جلت عن أبويها وقالا: صدقت. فذهب أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت رضيته فقد رضيناه. قال صلى الله عليه وسلم: « فإني قد رضيته » . قال: فزوجها. ثم ذهب مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فقتل. ورئي حوله ناس من المشركين قد قتلهم. قال أنس : فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق بيت في المدينة. وفي رواية: (فما كان في الأنصار أيم أنفق منها).

وذكر الحافظ ابن عبد البر في (الاستيعاب) أن الجارية لما قالت في خدرها: أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، نزلت هذه الآية: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة

ولا يخفى شمول الآية لما ذكر ولغيره، إلا أن تأثر هذه الآية بقصة زيد وزوجته، الآتية، يؤيد أنها نزلت في زوجه زينب ، لتناسق نظام الآيات حينئذ، وظهور هذه الآية كالطليعة لهذه القصة الجليلة.

وقد قدمنا مرارا أن معنى قولهم: (نزلت الآية في كذا). أنها مما تشمله لعموم مساقها; ولذا سأل طاوس ابن عباس عن ركعتين بعد صلاة العصر فنهاه. وقرأ له هذه الآية.

قال ابن كثير : هذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته، ولا اختيار لأحد ها هنا، ولا رأي ولا قول، كما قال تبارك وتعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما وفي الحديث: « والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به » . ولهذا شدد في خلاف ذلك فقال: ومن يعص الله ورسوله [ ص: 4863 ] فقد ضل ضلالا مبينا كقوله تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم

لطائف:

الأولى- قالوا على الروايات السالفة: إن ذكر الله في الآية، مع أن الآمر لهم الرسول صلى الله عليه وسلم، للدلالة على أنه بمنزلة من الله، بحيث تعد أوامره أوامر الله تعالى، أو أنه لما كان ما يفعله بأمره، لأنه لا ينطق عن الهوى، ذكرت الجلالة وقدمت للدلالة على ذلك. انتهى.

وهذا وقوف مع ما روي، وإلا فظاهر الآية يعم ما إذا قضى الله من كتابه، ورسوله في سنته.

الثانية-: "الخيرة" هنا مصدر، وذكروا أنه لم يجئ من المصادر على وزنه غير: طيرة.

الثالثة - جمع الضمير الأول -وهو لهم- لعموم مؤمن ومؤمنة من حيث إنهما في سياق النفي. قال الشهاب: واعتبر عمومه، وإن كان سبب نزوله خاصا، دفعا لتوهم اختصاصه بسبب النزول، أو ليؤذن أنه كما لا يصح ما اختاروه مع الانفراد، لا يصح مع الجمع أيضا كيلا يتوهم أن للجمعية قوة تصححه. انتهى.

وجمع الثاني -وهو ضمير من أمرهم- مع أنه الرسول صلى الله عليه وسلم، أو له ولله تعالى، للتعظيم. هذا ما أشار له القاضي وغيره. مع أنه لا يظهر امتناع عوده على ما عاد عليه الأول، مع ترجيحه بعدم التفكيك فيه، على أن يكون المعنى: ناشئة من أمرهم. والمعنى دواعيهم السابقة إلى اختيار خلاف ما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو المعنى الاختيار في شيء من أمرهم، أي: دواعيهم. ورد هذا، بأنه قليل الجدوى، ضرورة أن الخيرة ناشئة من دواعيهم.. أو واقعة في أمورهم. وهو بين مستغن عن البيان. بخلاف ما إذا كان المعنى بدل [ ص: 4864 ] أمره الذي قضاه صلى الله عليه وسلم، أو متجاوزين عن آمره لتأكيده وتقريره للنفي. فهذا هو المانع من عوده إلى ما عاد عليه الأول.

قال الشهاب: وهو كلام حسن، ثم أشار تعالى إلى ما من به على المسلمين من هدم تحريم زوجة الدعي، والمتبنى الذي كان فاشيا في الجاهلية، بما جرى بين زيد متبنى النبي صلى الله عليه وسلم وزوجه من الفراق، ثم تزويجه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم إياها، رفعا للحرج فيه. فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[37 - 39] وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا .

وإذ تقول للذي أنعم الله عليه أي: بالإسلام ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو زيد بن حارثة : وأنعمت عليه أي: بالعتق والحرية والاصطفاء بالولاية والمحبة، وتزويجه بنت عمتك زينب بنت جحش .

[ ص: 4865 ] قال ابن كثير : كان سيدا كبير الشأن جليل القدر، حبيبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: (الحب). ويقال لابنه أسامة: (الحب ابن الحب). قالت عائشة رضي الله عنها: ما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية إلا أمره عليهم، ولو عاش بعده لاستخلفه. رواه الإمام أحمد أمسك عليك زوجك أي: لا تطلقها: واتق الله أي: اخشه في أمرها فإن الطلاق يشينها وقد يؤذي قلبها، وارع حق الله في نفسك أيضا، فربما لا تجد بعدها خيرا منها، وكانت تتعظم عليه بشرفها، وتؤذيه بلسانها، فرام تطليقها متعللا بتكبرها وأذاها، فوعظه صلى الله عليه وسلم وأرشده إلى الصبر والتقوى: وتخفي أي: تضمر: في نفسك ما الله مبديه أي: من الحكم الذي شرعه; أي: تقول ذلك، وأنت تعلم أن الطلاق لا بد منه، وأن لا منتدح عن امتثال أمر الله بنفسك، لتكون أسوة لمن معك ولمن يأتي بعدك، وإنما غلبك في ذلك الحياء، وخشية أن يقولوا تزوج محمد مطلقة متبناه، وهذا معنى قوله تعالى: وتخشى الناس أي: قالتهم وتعييرهم الجاهلي: والله أي: الذي ألهمك ذلك وأمرك به: أحق أن تخشاه أي: فكان عليك أن تمضي في الأمر من أول وهلة تعجيلا بتنفيذ كلمته وتقدير شرعه، ثم زاده بيانا بقوله: فلما قضى زيد منها وطرا أي: حاجة بالزواج: زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم أي: ضيق من العار في نكاح زوجات أدعيائهم: إذا قضوا منهن وطرا أي بموت أو طلاق أو فسخ نكاح وكان أمر الله مفعولا أي: قضاؤه واقعا، ومنه تزويجك زينب .

ما كان على النبي من حرج أي: مأثم وضيق: فيما فرض الله له أي: كتبه له من التزويج وأباحه له، وسن شريعة مثلى في وقوعه: سنة الله في الذين خلوا من قبل أي: الرسل عليهم السلام. وهو أن لا حرج عليهم في الإقدام على ما أباح لهم، ووسع عليهم في باب النكاح وغيره; فإنه كان لهم الحرائر، والسراري، وتناول المباحات، والطيبات، وبهداهم [ ص: 4866 ] القدوة: وكان أمر الله قدرا مقدورا أي: قضاء مقضيا; أي: لا حرج على أحد فيما أحل له، ثم وصف شأنهم بقوله: الذين يبلغون رسالات الله أي: أحكامه، وأوامره، ونواهيه، ويصدعون بها: ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله أي: لا يخافون قالة الناس، ولائمتهم، ولا يبالون بها في تشريعه، ولا ريب أن سيد الناس في هذا المقام، بل وفي كل مقام، حضرة نبينا صلى الله عليه وسلم، كما علم من قيامه بالتبليغ بالقوة، والفعل أبلغ قيام: وكفى بالله حسيبا أي: حافظا لأعمال خلقه. وكافيا للمخاوف.
القول في تأويل قوله تعالى:

[40] ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما .

ما كان محمد أبا أحد من رجالكم هذا دفع لتعيير من جهل، فقال: تزوج محمد زوج ابنه زيد. فدفعه تعالى بأنه إنما يتصور لو كان صلى الله عليه وسلم أبا لزيد على الحقيقة، لكنه ليس أبا لأحد من أصحابه، حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح، وزيد واحد منهم، الذين ليسوا بأولاده حقيقة، فكان حكمه حكمهم، والادعاء والتبني من باب الاختصاص والتقريب غير: ولكن رسول الله أي: ولكن كان رسول الله مبلغا رسالاته: وخاتم النبيين بفتح التاء وكسرها، قراءتان; أي: فهذا نعته وهذه صفته، فليس هو في حكم الأب الحقيقي، وإنما ختمت النبوة به; لأنه شرع له من الشرائع ما ينطبق على مصالح الناس في كل زمان، وكل مكان; لأن القرآن الكريم لم يدع أما من أمهات المصالح إلا جلاها، ولا مكرمة من أصول الفضائل إلا أحياها، فتمت الرسالات برسالته إلى الناس أجمعين، وظهر مصداق ذلك بخيبة كل من ادعى النبوة بعده، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين: وكان الله بكل شيء عليما أي: فلا يقضي إلا بما سبق به علمه، ونفذت فيه مشيئته، واقتضته حكمته.

[ ص: 4867 ] تنبيهان في لطائف هذه القصة، وفوائدها الباهرات:

الأول- لم تختلف الروايات أنه نزلت في قصة زيد بن حارثة ، وزوجه زينب بنت جحش . ورواه البخاري عن أنس في التفسير. ورواه عنه في التوحيد قال: جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « اتق الله وأمسك عليك زوجك » . وأخرجه أحمد بلفظ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم منزل زيد بن حارثة . فجاءه زيد يشكوها إليه. فقال له: « أمسك زوجك واتق الله » . فنزلت.

وقد أخرج ابن أبي حاتم هذه القصة من طريق السدي . فساقها سياقا حسنا واضحا، ولفظه: بلغنا أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش ، وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يزوجها زيد بن حارثة مولاه فكرهت ذلك، ثم إنها رضيت بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوجها إياه، ثم أعلم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بعد، أنها من أزواجه، فكان يستحي أن يأمره بطلاقها، وكان لا يزال يكون بين زيد وزينب ما يكون من الناس، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمسك عليه زوجه، وأن يتقي الله، وكان يخشى الناس أن يعيبوا عليه ويقولوا تزوج امرأة ابنه; وكان قد تبنى زيدا.

وعنده، ومن طريق علي بن زيد بن جدعان عن علي بن الحسين بن علي ، قال: أعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد يشكوها إليه، وقال له: « اتق الله وأمسك عليك زوجك » . قال الله تعالى: (قد أخبرتك أني مزوجكها)، وتخفي في نفسك ما الله مبديه

[ ص: 4868 ] قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) بعد نقل ما تقدم: ووردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم والطبري ، ونقلها كثير من المفسرين، لا ينبغي التشاغل بها، والذي أوردته منها هو المعتمد. انتهى.

وقال الحافظ ابن كثير : ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير ههنا آثارا، أحببنا أن نضرب عنها صفحا; لعدم صحتها، فلا نوردها. انتهى.

الثاني- قال القاضي عياض رحمه الله في (الشفا) في بحث أقواله صلى الله عليه وسلم الدنيوية: ولا يجوز عليه صلى الله عليه وسلم أن يأمر أحدا بشيء أو ينهى أحدا عن شيء، وهو يبطن خلافه، وقد قال عليه السلام: « ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين، فكيف أن تكون له خائنة قلب؟ » . فإن قلت: فما معنى قوله في قصة زيد: وإذ تقول للذي أنعم الله عليه الآية. فاعلم أكرمك الله ولا تسترب في تنزيه النبي عليه السلام عن هذا الظاهر، وأن يأمر زيدا بإمساكها، وهو يحب تطليقه إياها، ذكر عن جماعة من المفسرين، وأصح ما في هذا ما حكاه أهل التفسير عن علي بن حسين أن الله تعالى كان أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه، فلما شكاها إليه زيد، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: « أمسك عليك زوجك واتق الله » وأخفى منه في نفسه ما أعلمه الله به أنه سيتزوجها مما الله مبديه ومظهره بتمام التزويج وطلاق زيد لها.

وروى نحوه عمرو بن فائد عن الزهري قال: نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه أن الله يزوجه زينب بنت جحش . فذلك الذي أخفى في نفسه، ويصحح هذا قول المفسرين في قوله بعد هذا: وكان أمر الله مفعولا أي: لا بد لك أن تتزوجها، ويوضح هذا أن الله تعالى لم يبد من أمره معها غير زواجه لها، فدل أنه الذي أخفاه عليه السلام، مما كان [ ص: 4869 ] أعلمه به تعالى، وقوله تعالى في القصة: ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له دل على أنه لم يكن عليه حرج في الأمر، ولو كان على ما قيل من وقوعها في قلبه، ومحبة طلاق زيد لها، لكان فيه أعظم الحرج. وكيف يقال: رآها فأعجبته وهي بنت عمته، ولم يزل يراها منذ ولدت، ولا كان النساء يحتجبن منه عليه السلام، وهو زوجها لزيد ، وإنما جعل الله طلاق زيد لها، وتزويج النبي صلى الله عليه وسلم إياها، لإزالة حرمة التبني وإبطال سببه. كما قال: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم وقال: لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم قال ابن فورك: وليس معنى الخشية هنا الخوف، وإنما معناه الاستحياء; أي: يستحي منهم أن يقولوا تزوج زوجة ابنه، وأن خشيته عليه السلام من الناس كانت من إرجاف المنافقين واليهود، وتشغيبهم على المسلمين بقولهم: تزوج زوجة ابنه بعد نهيه عن نكاح حلائل الأبناء، كما كان. فعتبه الله تعالى على هذا، أو نزهه عن الالتفات إليهم فيما أحله له، كما عتبه على مراعاة رضا أزواجه في سورة التحريم بقوله: لم تحرم ما أحل الله لك الآية. كذلك قوله ههنا. انتهى ملخصا.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 50.32 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 49.70 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.25%)]