عرض مشاركة واحدة
  #454  
قديم 21-01-2025, 08:47 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,312
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



تفسير قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران: 33 - 37].


قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾.

قوله ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ ﴾: «إنَّ»: حرف توكيد ونصب، ﴿ اصْطَفَى ﴾:
الاصطفاء الاختيار والاجتباء، وصفوة الشيء خياره وأفضله، واصطفى الشيء أخذ صفوته.

أي: إن الله اجتبى آدم عليه السلام واختارة نبيًّا وفضَّلهُ، فخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وعلمه أسماء كل شيء، وأسجَد له ملائكته، وأسكَنه الجنة، ثم أهبَطه منها ليعود إليها أفضل مما كان عليه قبل ذلك، وأوحى إليه بشرع تَعَبَّد الله تعالى به، وبقي الناس عليه مدة لم يحصل بينهم اختلاف، فلما اختلفوا بعث الله النبيين؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [البقرة: 113]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [يونس: 19].

﴿ ونوحًا ﴾؛أي: واصطفى نوحًا عليه السلام، واختاره نبيًّا رسولًا؛ كما قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ﴾ [النساء: 63]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [نوح: 1].

وجعله أول رسول إلى أهل الأرض بعد أن أشرك الناس وعبدوا مع الله غيره؛ كما جاء في حديث الشفاعة أن آدم عندما يعتذر عن الشفاعة يقول: «ائتوا نوحًا، فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض»[1].

ونجَّاه ومن اتَّبعه في السفينة، وأغرق من عصاه، وجعل النبيين بعده من ذريته؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 26].

وذكر الله - عز وجل - نوحًا بعد آدم؛ لأنه النبي الثاني، والأب الثاني للبشرية بعد آدم؛ لأن البشر كلهم بعده يرجعون إلى أبنائه الثلاثة: (سام، وحام، ويافث)؛ كما قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ﴾ [الصافات: 77].

﴿ وَآلَ إِبْرَاهِيمَ ﴾؛ أي: واصطفى (آل إبراهيم) واختارهم واجتباهم وفضَّلهم، (وآل إبراهيم) هم: ذريته وعشيرته وقرابته، فاختار إبراهيم نبيًّا رسولًا، واتخذه خليلًا؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾ [النساء: 125].

وجعل النبوة بعده في عقبه وذريته، ونصَّ على آله - والله أعلم - مع أنه يدخل فيهم من باب الأولى لكثرة الرسل فيهم، ولأن فيهم أفضل الرسل وسيدهم وخاتمهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [العنكبوت: 27]، وقال تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 84 - 86].

﴿ وَآلَ عِمْرَانَ ﴾؛ أي: واصطفى (آل عمران) واختارهم، و(عمران): هو والد مريم أم عيسى عليهما السلام؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ [التحريم: 12]، ويدل على هذا قوله بعده: ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [آل عمران:35].

و(آل عمران): هم أهل بيته امرأته التي أثنى الله تعالى عليها بقوله: ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [آل عمران:35].

و«مريم» ابنتها؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 42].

وعيسى ابن مريم؛ كما قال تعالى: ﴿ آتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ [البقرة: 253].

فهم مصطفى من مصطفى، من مصطفى من مصطفى.

فاصطفى الله آدم، واصطفى من ذريته نوحًا، واصطفى من ذرية نوح آل إبراهيم، واصطفى من آل إبراهيم آل عمران.

﴿ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾: «العالمين» جمع «عالَم» بفتح اللام، وهو كل من سوى الله تعالى.

والمعنى: اصطفينا هؤلاء المذكورين، واخترناهم، وفضَّلنا كلًّا منهم على عالم زمانه، ومنهم من اصطُفِيَ وفُضِّلَ على جميع الخلق، فالرسلُ والأنبياء أفضل الخلق كلهم، وأفضلهم أولوا العزم من الرسل، وأفضل أُولي العزم محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم نوح وعيسى على اختلاف بين أهل العلم أيهما أفضل.

ويدخل في اصطفاء وتفضيل المذكورين من تبعهم من المؤمنين والصالحين؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما «قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ، قال: «هم المؤمنون من آل إبراهيم، وآل عمران، وآل ياسين، وآل محمد؛ يقول الله عز وجل: ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 68]، وهم المؤمنون»[2].

قوله تعالى: ﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران:34].

قوله: ﴿ ذُرِّيَّةً ﴾: منصوب بدلًا من ﴿ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ، أو حال من آل إبراهيم وآل عمران.

و﴿ ذُرِّيَّةً ﴾: مأخوذ من (ذرأ) بمعنى: خلق؛ كما قال تعالى: ﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، أي: يخلقكم فيه، والمعنى على هذا أن هؤلاء الأصناف الأربعة (ذرية)؛ أي نسلًا.

﴿ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ﴾: فكلهم أولاد آدم، ومتوالد بعضهم من بعض، وبعضهم من بعض في جنس الخلقة، وفي الدين، والأخلاق والآداب، وفي التسلسل في الاصطفاء، وعلى هذا تكون الذرية شاملة للأصول والفروع.

ويُحتمل أن ﴿ ذرية ﴾ مأخوذ من (وذر) بمعنى: ترك، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «إنك إن تذر ورثتك أغنياءَ خيرًا من أن تذرهم عالة يتكففون الناس»[3].

وعلى هذا يكون المراد بالذرية: الفروع، أي: الأولاد الذين خلفهم وتركهم الإنسان بعده.

﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ ﴾؛ أي: ذو سمعٍ واسع يسع جميع الأصوات والأقوال ويجيب الدعوات.

﴿ عَلِيمٌ ﴾؛ أي: ذو علمٍ واسع يسع كلَّ شيء، يَصطفي ويُفضِّل مَنْ هو أهل لذلك بعلمه وحكمته؛ كما قال تعالى: ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124] وقال تعالى ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ * وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء:90، 91].

فاصطفاؤه لمن اصطفاه من عباده عن سمعٍ منه - عز وجل - لأقوالهم، وعِلم منه بضمائرهم وأفعالهم، وأحوالهم.

قوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾.

تقرير لاصطفاء الله - عز وجل - آل عمران، وبيان له.

وقد فصَّل عز وجل في هذه الآية وما بعدها قصة أم عمران وزكريا ومريم وعيسى؛ لأن أول هذه السورة نزل في وفد نجران، وهم من النصارى الذين جاؤوا لمحاجة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليعلموا أنه صلى الله عليه وسلم أعلم منهم بما جرى لأسلافهم.

قوله ﴿ إِذْ قَالَتِ ﴾«إذ»: طرف متعلق بمحذوف تقديره: اذكر.

﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ ﴾: أي: حين قالت امرأة عمران - وقد مات زوجها عمران وهي حبلى، وهي أم مريم، أي: جدة عيسى ابن مريم عليهما السلام.

﴿ رَبِّ ﴾؛ أي: (يا رب) حُذِفت منه ياء النداء اختصارًا؛ لكثرة الاستعمال، وحُذِفَ منه ضمير المتكلم الياء؛ تخفيفيًا، وأصله: (يا ربي).

﴿ إِنِّي نَذَرْتُ ﴾ (النذر): أن يُلزِم المرء نفسه بشيءٍ لله لم يكن واجبًا عليه في الأصل.

﴿ مَا فِي بَطْنِي ﴾ «ما»: موصولة، أي: الذي في بطني من الحمل، ذكرًا كان أو أنثى، واحدًا أو أكثر.

﴿ مُحَرَّرًا ﴾؛ أي: مخلصًا لعبادتك، وخدمة بيتك المقدس.

والمعنى: إني التزمت أن يكون الذي في بطني محررًا من خدمتي، مخلصًا لعبادتك، وخدمة بيتك المقدس، وكان من عادتهم أن يفعلوا ذلك تعظيمًا لبيت المقدس.

﴿ فَتَقَبَّلْ مِنِّي ﴾: (التقبُّل): أخذ الشيء على وجه الرضا؛ أي: فتقبل مني هذا النذر وهذا العمل بجعله خالصًا لوجهك وفق شرعك، وأثِبْنِي عليه.

﴿ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾: هذه الجملة استئنافية للتعليل؛ أي: لأنك أنت السميع العليم.

و﴿ السَّمِيعُ ﴾: اسم من أسماء الله تعالى، يدل على أنه ذو السمع الذي وسع جميع الأصوات والأقوال، يسمع الدعاء سمع إدراك، وسمع إجابة، كما في قول المصلي: «سمع الله لمن حمده»، أي: استجاب.

﴿ الْعَلِيمُ ﴾: اسم من أسماء الله تعالى، يدل على أنه ذو العلم الواسع الذي وسع كل شيء، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [طه: 98].

والمعنى: لأنك أنت السميع للدعاء، المستجيب له، العليم بنيتي وبالحال وبالأصلح وبكل شيء، وقد أكدت هذا بــ «إنَّ» وبضمير الفصل «أنت».

قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾.

قوله: ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا ﴾؛ أي: فلما ولدتها، وأنَّث الضمير مراعاة لمعنى «ما» في قولها: ﴿ ما في بطني ﴾؛ لأنها وضعت أنثى.

﴿ قالت ربِّ ﴾؛ أي: يا رب.

﴿ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى ﴾ «أنثى» حال؛ أي: إني ولدتها حال كونها أنثى، وقيل: بدل من «ها» بدل كل من كل؛ أي: إني وضعت أنثى.

وكأنها بهذا تعتذر أو تتحسر؛ لأنها كانت ترجو أن يكون ما في بطنها ذكرًا، وإنما قالت هذا؛ لأنها جهلت قدر هذه المولودة، وما سيكون لها من شأن عظيم.

﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ﴾: الجملة اعتراضية بين قولها: ﴿ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى ﴾ وقوله: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾.

قرأ ابن عامر ويعقوب وأبو بكر عن عاصم: «وضعْتُ» بإسكان العين وضم التاء، فيكون هذا من كلام امرأة عمران، احتراسًا منها؛ أي: ولست أُخبِر الله بما وضعت، فهو أعلم بذلك.

وقرأ الباقون: ﴿ وَضَعَتْ ﴾ بفتح العين وإسكان الياء، فيكون هذا من كلام الله تعالى.

وفي هذا الاعتراض مع بيان علمه - عز وجل - بما وضعت فائدتان:
الأولى: دفع ما قد يتوهم من أنها قصدت إعلام الله تعالى بقولها: ﴿ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى، وهي لم تقصد ذلك قطعًا؛ لعلمها أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

والثانية: الإشارة إلى أنه سيكون لها شأن عظيم، مما لم تعلمه أمها ولا غيرها.

وقوله ﴿ أَعْلَمُ ﴾: اسم تفضيل؛ أي: إنه - عز وجل - أعلم منها ومن كل أحد بما وضعت.

﴿ بِمَا وَضَعَتْ ﴾ «ما»: موصولة، والعائد ضمير في محل نصب مفعول به؛ أي: بالذي وضعته في كونه أنثى، وفيما سيكون لهذه الأنثى من شأنٍ عظيم، خير من مطلق الذكر.

﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾: هذا وما بعده من تتمة كلام امرأة عمران.

وقيل: يُحتمل أن قوله: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾ من كلام الله – قُصد به التماس العذر لها في التحسُّر والتحزُّن ببيان فضل الذكر على الأنثى؛ ولهذا جُبِلت النفوس على الرغبة فيه.

والظاهر أن قوله: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾ كالذي بعده من كلام امرأة عمران على القراءتين معًا، وهو أظهر على قراءة من قرأ: (والله أعلم بما وضَعْتُ) بضم التاء، ويدل عليه قوله: ﴿ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾.

كما يدل عليه السياق السابق.

والمعنى: فإن امرأة عمران كانت تأمل أن يكون ما في بطنها ذكرًا فتجعله مخلصًا لعبادة لله تعالى وخدمة بيت المقدس، فلما كان أنثى قالت هذه المقالة: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾ اعتذارًا منها وتحسُّرًا وانكسارًا؛ أي: وليس الذكر في الخدمة لبيت المقدس والعبادة فيه كالأنثى، بل هو أقوى وأقدر، وخدمته أتم وأكمل وأدوم، بخلاف الأنثى؛ فهي أضعف، وخدمتها أقل لخروجها من المسجد اضطرارًا حال الحيض والنفاس.

وحقًّا، فالذكر ليس كالأنثى، والأنثى ليست كالذكر، فلا مساواة بينهما، فلكل منهما ميزاته وخصائصه وقدراته العقلية والبدنية وغير ذلك، فالذكر من حيث العموم أكمل عقلًا، وأقوى بدنًا، وأقدر على تحمُّل المشاق، كما أن الرجل من حيث العموم أفضل من المرأة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 228].

وهذا لا يمنع أن يكون من النساء من هي خير من كثير من الرجال في كمال عقلها، وقوة بدنها، وتحمُّلها، ويكفي النساء فخرًا أن منهن فاطمة سيدة نساء العالمين، ومنهن أمهات المؤمنين - رضي الله عنهن - خديجة، وعائشة، وحفصة، وبقية أمهات المؤمنين، ومنهن مريم ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون.. وغيرهن كثيرٌ.

وقدَّم «الذكر» في قوله: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾؛ لأنه هو المأمول، فهو أسبق إلى لفظ المتكلم، ولم يقُل: (وليس الأنثى كالذكر)؛ لدفع ما يشعر بنقص الأنثى مع أن المؤدى واحد، كما في قوله تعالى: ﴿ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ﴾ [النساء: 11]، دون أن يقول: «للأنثى نصف ميراث الرجل»؛ لئلا يشعر ذلك بنقص ميراث الأنثى مع أن المؤدى واحد؛ وفي هذا ما لا يخفى من مراعاة الشعور وحسن التعبير.

و( أل ) في الذكر والأنثى للجنس، وقيل: للعهد؛ أي: ليس الذكر الذي طلَبَتْ، كالأنثى التي وُهِبَتْ لها.

قال السعدي[4] في كلامه على قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْوَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾: «كأن في هذا الكلام نوع تضرُّع منها، وانكسار نفس؛ حيث كان نذرها بناء على أنه يكون ذكرًا، يحصل منه من القوة والخدمة والقيام بذلك ما يحصل من أهل القوة، والأنثى بخلاف ذلك، فجبر الله قلبها، وتقبَّل نذرها وصارت هذه الأنثى أكمل وأتم من كثير من الذكور، بل من أكثرهم، وحصل بها من المقاصد أعظم مما يحصل بالذكر».

﴿ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ ﴾: هذا وما بعده من تتمة كلام امرأة عمران؛ أي: وإني اخترت لها اسم (مريم)، والاسم مأخوذ من السمو، وهو العلو؛ لأن صاحبه يسمو ويرتفع به، ومن السمة، وهي العلامة؛ لأن الاسم علامة على صاحبه يتميز بها.

﴿ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾؛ أي: وإني أُجيرها بك يا رب.

﴿ وَذُرِّيَّتَهَا ﴾؛ أي: وأُجير ذريتها بك، ولم يكن لمريم ذرية إلا ابنها عيسى عليه السلام.

﴿ مِنَ الشَّيْطَانِ ﴾؛ أي: من إبليس وذريته وجنوده وأعوانه من شياطين الجن والإنس.. وغيرهم.

و﴿ الشَّيْطَانِ ﴾ مشتق من «شطن» بمعنى «بعد»؛ لأنه بَعُدَ عن رحمة الله تعالى، وعن الجنة، وعن كل خير.

وهو في الشرع: كل متمرد، عاتٍ، خارج عن طاعة الله تعالى من الإنس والجن والحيوان، كما قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ [الأنعام: 112]، وفي الحديث: «الكلب الأسود شيطان»[5].

وقد استجاب الله دعاء امرأة عمران، فأعاذ مريم وذريتها من الشيطان الرجيم، فلم يجعل له عليهما سبيلًا؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان حين يولَد، فيستهل صارخًا من مسه إيَّاه إلا مريم وابنها»، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم ﴿ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ[6].

﴿ الرَّجِيمِ ﴾؛ أي: المرجوم فهو «فعيل» بمعنى: «مفعول» أي: مرجوم حسًّا، ومعنىً بإهباطه من الجنة، ورميه بالشُّهُب، وطرده عن رحمة الله وعن كل خير.

قوله تعالى: ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران:37].

قوله ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا ﴾: الفاء: للتعقيب والتفريع؛ وهذا مُؤذِن بسرعة إجابة دعائها، وضمير «الهاء» يعود إلى مريم؛ أي: تقبل تحريرها لخدمة بيت المقدس وعبادة الله - عز وجل - فيه.

قال ابن كثير[7]: «تقبلها من أمها نذيرة».

و(تقبَّل) أبلغ من (قبل)؛ لأن زيادة المبنى تدل غالبًا على زيادة المعنى.

وفي إضافة اسم الرب إلى ضميرها تكريم وتشريف لها بربوبية الله - عز وجل - لها ربوبية خاصة.

﴿ بِقَبُولٍ حَسَنٍ ﴾ الباء: للتأكيد، و(قبول): اسم مصدر؛ أي: قبولًا حسنًا، فقبِل من أمها نذرها إيَّاها وآجرها فيها، ويسَّرها لليُسرى، وسهَّل أمرها.

﴿ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ﴾؛ أي: أنشأها إنشاءً صالحًا، جسديًا وعقليًا وروحيًا فَنَمَّى جسمها، وأتم عقلها، وأكمل خُلُقها وأخلاقها دينًا وعفة وأدبًا وقنوتًا وطاعة لله تعالى؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ [التحريم: 12]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 91].

وفي الحديث: «كملَ من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»[8].

﴿ وَكَفَّلَهَا ﴾: قرأ حمزة والكسائي وعاصم: ﴿ وَكَفَّلَهَا ﴾ بتشديد الفاء، فيكون «زكريا» على هذا مفعولًا ثانيًا لــ«كفل» ومفعولها الأول (الهاء)؛ أي: كفَّل الله مريم زكريا؛ أي: جعل الله زكريا كافلًا لها.

وقرأ الباقون «فكفلها» بالتخفيف، فيكون «زكريا» على هذا فاعل؛ أي: صار زكريا كافلًا لها، أي: تولى كفالتها، وزكريا زوج خالتها، ويُقال: زوج أُختها.

كما قرأ حمزة والكسائي وحفص وخلف ﴿ زكريَّا ﴾ بالقصر من غير همز في جميع القرآن، وقرأ الباقون بالمد والهمز «زكرياء»، وهما لغتان.

كفلها زكريا بعد أن تنازع في كفالتها جماعة من أحبار بني إسرائيل، واقترعوا في ذلك أيهم يكفلها؛ كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [آل عمران: 44]، فصارت من نصيب زكريا زوج خالتها فكفلها، وكان كل واحد منهم حريصًا على كفالتها لمكانة أبيها عمران.

﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ ﴾: «كلما» تفيد التكرار، وهي مركبة من «كل» التي تفيد العموم، و«ما» الظرفية، والتقدير: كل وقت يدخل عليها زكريا المحراب يجد عندها رزقًا، وهذا كما في قوله تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 25].

﴿ المحراب ﴾: مكان العبادة والصلاة، وفي هذا دلالة على ملازمتها الصلاة والعبادة.

وفي قصة داود عليه السلام: ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ﴾ [ص: 21]؛ أي: مكان تعبُّده.

وقيل: سُمِّيَ مكان العبادة بــ«المحراب»؛ لأن المتعبد كأنه يحارب الشيطان فيه.

ويُحتمل أن المراد بـ(المحراب) هنا محراب بيت المقدس بعد أن دخلت فيه لنذر أمِّها، أو محراب خاص بها في منزلها.

﴿ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ﴾: عطاء من الله تعالى لها بلا كد ولا تعب، تأكل منه، ويقوم به بدنها ويحفظ حياتها.

قال جمع من المفسرين: وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف[9]، كرامة من الله تعالى أكرمها بها، كما أكرمها بقوله: ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ [مريم: 25].

ومثل هذا ما وُجِدَ عند خبيب بن عدي الأنصاري - رضي الله عنه - الذي استشهد بمكة على أيدي المشركين حيث وُجِدَ عنده قطف عنب[10].

﴿ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا ﴾؛ أي: من أين لكِ هذا الرزق؟

﴿ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾؛ أي: أن الله هو الذي رزقها إياه، وساقه إليها، وأعطاها إياه.

وهذا يذكرني بقصة عمي عبد الرحمن العبد الله مع محمد المطوع - رحمهما الله - وكان محمد رجلًا كفيفًا مقعدًا بسبب المرض، فكان عمي - رحمه الله - يأتي إلى منزل هذا الرجل ويملأ الثلاجة بالفواكه والخضروات، وكان هذا الرجل لا يعلم من الذي يفعل ذلك، وتمر الأيام ويموت عمي - رحمه الله - وتبدو الثلاجة فارغة لا شيء فيها، فيتفطن ذلك الرجل المقعد ويقول: والله ما علمت أن الذي يفعل ذلك هو عبد الرحمن العبدالله حتى فرغت الثلاجة بعد وفاته، فعلمت أنه الذي كان يفعل ذلك، رحم الله الرجلين معًا، وأسكنهما فسيح جناته، ولا أزكي على الله أحدًا.

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾: الجملة اسئنافية تعليلية، و«من»: موصولة؛ أي: لأن الله يعطي الذي يشاء من خلقه عطاءً دنيويًّا؛ وهذا لا يختص بطائفة دون أخرى، وعطاءً دنيويًّا وأُخرويًّا، وهذا للمؤمنين خاصة.

﴿ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾؛ أي: بلا حصر ولا حدَّ لما يعطيه، وبغير استحقاق، بل تفضلًا منه.

[1] أخرجه البخاري في «الأنبياء»، قول الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [نوح: 1]، (3340)، ومسلم في «الإيمان» أول أهل الجنة منزلة فيها (19)، وابن ماجه في «الزهد» (4312)، من حديث أنس رضي الله عنه.

[2] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (5/ 328)، وابن حبان في «تفسيره» (2/ 635).

[3] أخرجه البخاري في الجنائز (1296)، ومسلم في الوصية (1628)، وأبو داود في الوصايا (2864)، والنسائي (3626)، والترمذي في الوصايا (2116)، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

[4] في «تيسير الرحمن الكريم» (1/ 376).

[5] أخرجه مسلم في الصلاة (510)، وأبو داود في الصلاة (702)، والنسائي في القبلة (750)، والترمذي في الصلاة (338)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

[6] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3431)، ومسلم في الفضائل (2366).

[7] في «تفسيره» (2/ 28).

[8] أخرجه البخاري في «أحاديث الأنبياء» (3411)، ومسلم في «فضائل الصحابة» (2431)، والترمذي في الأطعمة (1834)، وابن ماجه في الأطعمة (3280)، من حديث أبي موسى رضي الله عنه.

[9] انظر: «جامع البيان» (3535).

[10] أخرجه البخاري في الجهاد هل يستأسر الرجل (3045)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 47.91 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 47.28 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.31%)]