شرح كتاب الحج من صحيح مسلم
– باب: في الإفَاضَةِ منْ عَرَفة والصّلاة بالمُزْدَلفة
- في الحديث مَشروعيَّةُ المَبيت بالمُزدلِفةِ لَيلةَ النَّحرِ وفيه: مُبادَرةُ الحاجِّ بصَلاتي المغرِبِ والعِشاءِ جمعاً أوَّلَ قُدومِه المُزدلِفةَ
- الحجُّ هو الرُّكنُ الخامسُ مِن أركانِ الإسلامِ وقد بيَّنَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَناسِكه بأقوالِه وأفعالِه ونَقَلها لنا الصَّحابةُ الكرامُ رضي الله عنهم أجمعينَ
عن كُرَيْبٍ: أَنَّهُ سَأَلَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ -رضي الله عنهما-: كَيْفَ صَنَعْتُمْ حِينَ رَدِفْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - عَشِيَّةَ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ: جِئْنَا الشِّعْبَ الَّذِي يُنِيخُ النَّاسُ فِيهِ لِلْمَغْرِبِ، فَأَنَاخَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - نَاقَتَهُ وبَالَ، ومَا قَالَ: أَهَرَاقَ الْمَاءَ، ثُمَّ دَعَا بِالوَضُوءِ فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا لَيْسَ بِالبَالِغ،ِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ: «الصَّلَاةُ أَمَامَكَ»، فَرَكِبَ حَتَّى جِئْنَا الْمُزْدَلِفَةَ، فَأَقَامَ المَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ النَّاسُ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَلَمْ يَحُلُّوا حَتَّى أَقَامَ الْعِشَاءَ الْآخِرَة،َ فَصَلَّى ثُمَّ حَلُّوا. قُلْتُ: فَكَيْفَ فَعَلْتُمْ حِينَ أَصْبَحْتُمْ؟ قَالَ: رَدِفَهُ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ، وانْطَلَقْتُ أَنَا فِي سُبَّاقِ قُرَيْشٍ عَلَى رِجْلَيَّ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/931) باب: اسْتِحباب إدامة الحَاج التّلبية حتى يَشرع في رمي جمرة العقبة يوم النحر.
كريب هو ابن أبي مسلم، الإمام، الحجة، أبو رشدين، الهاشمي العباسي، الحجازي، والد رشدين ومحمد، أدرك عثمان، روى له الستة، قال موسى بن عقبة: وضع عندنا كريب حمل بعير أو عدل بعير من كتب ابن عباس، فكان علي بن عبدالله بن عباس إذا أراد الكتاب كتب إليه: ابعث إلي بصحيفة كذا وكذا، فينسخها، ويبعث إليه إحداهما.
يَروي عن أُسامةُ بنُ زَيْدٍ -رضي الله عنهما- أنَّه رَكِبَ خَلْفَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وهو يَنفِرُ مِن عَرَفاتٍ في حَجَّةِ الوداعِ، وكانت في السَّنةِ العاشرةِ مِن الهِجرةِ، فلمَّا بَلَغَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - الشِّعْبَ الأيسرَ الَّذي هو قَريبٌ مِن المِزْدَلِفةِ أناخَ راحلتَه، أي: جَعَلَها تَقعُدُ على الأرضِ، ونَزَلَ مِن فَوقِها فبالَ، والشِّعبُ: الطَّريقُ بَينَ الجبلَين.
استعمال صرائح الألْفاظ
قوله: «فَأَنَاخَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - نَاقَتَهُ وبَالَ، وما قَالَ: أَهَرَاقَ المَاءَ» وفيه: استعمال صرائح الألْفاظ، التي قد تُسْتبشع ولا يُكنى عنها، إذا دَعَت الحاجة إلى التصريح، بأنْ خِيف لبس المعنى، أو اشْتباه الألفاظ، أو غير ذلك.
ثمَّ جاءه أُسامةُ بنُ زَيدٍ -رضي الله عنهما- بالماءِ فصَبَّ عليه، فتَوضَّأَ - صلى الله عليه وسلم - وُضوءًا خَفيفًا، قال: «فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا لَيْسَ بِالْبَالِغ» وفي رِوايةِ الصَّحيحَينِ: «ولم يُسبِغِ الوُضوءَ»، والمقصودُ به أنَّه يَستوعِبُ العضوَ بالماءِ، ولا يُكثِرُ الدَّلْكَ، ولا يَزيدُ على مَرَّةٍ مَرَّةٍ، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّ الأصْلَ في فِعلِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم - الإسباغُ، وهو إعطاءُ كُلِّ عُضوٍ حقَّه مِن الماءِ، وغسْلُه ثلاثًا ثلاثًا، كما هو متواترٌ في السُّنَّةِ.
فسَأَلَ أُسامةُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم - وظَنَّ مِن نُزولِه ووُضوئِه أنَّه سيُؤدِّي صلاةَ المَغربِ، فأخْبَرَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الصَّلاةَ ستكون أمامَك، أي: عندَ الوُصولِ للمُزدلِفةِ، فرَكِبَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - حتَّى أتى المُزْدَلِفةَ، فصلَّى المَغرِبَ والعِشاءَ جمْعَ تَأخيرٍ. والمُزدلِفةُ: اسمٌ للمكانِ الذي يَنزِلُ فيه الحجيجُ بعْدَ الإفاضةِ مِن عَرَفاتٍ، ويَبيتونَ فيه لَيلةَ العاشرِ مِن ذي الحِجَّةِ، وفيه المَشعَرُ الحرامُ، وتُسمَّى جَمْعًا، لأنَّها يُجمَعُ فيها بيْن الصَّلاتينِ المغربِ والعِشاءِ، وقيل: وُصِفَت بفِعلِ أهْلِها، لأنَّهم يَجتمِعون بها ويَزدَلِفون إلى اللهِ، أي: يَتقرَّبون إليه بالوقوفِ فيها. وتَبعُدُ عن عَرَفةَ حوالي (12 كم)، وهي بجِوارِ مَشعَرِ مِنًى.
وفي رِوايةِ الصَّحيحَينِ: «فرَكِبَ، فلمَّا جاء المزدلِفةَ نزَلَ فتَوضَّأَ، فأسْبَغَ الوُضوءَ، ثمَّ أُقِيمَت الصَّلاةُ، فصَلَّى المغرِبَ، ثمَّ أناخ كلُّ إنسانٍ بَعيرَه في مَنزلِه، ثمَّ أُقِيمَت العِشاءُ فصلَّى، ولم يُصلِّ بيْنهما»، قيل: تَخفيفُه في الوضوءِ الأوَّلِ هناك وإسباغُه هنا، لأنَّ الأوَّلَ لم يُرِدْ به الصَّلاةَ، وإنَّما أراد به دَوامَ الطَّهارةِ، ليَكونَ مُستصحِبًا للطَّهارةِ في طَريقِه، ولا سيَّما في تلك الحالةِ، لكَثرةِ الاحتياجِ إلى ذِكرِ اللهِ حينئذٍ، أو خفَّفَ الوُضوءَ لقِلَّةِ الماءِ حينئذٍ، ولكنْ لمَّا نَزَلَ وأراد الصَّلاةَ أسْبَغَه وأتَمَّه.
وقوله: «حتّى أقامَ العِشَاء الآخِرة» فيه دليلٌ لصحّة إطْلاق العشاء الآخرة، وأمّا إنكار الأصْمعي وغيره ذلك، وقولهم: إنّه منْ لَحن العوام؟ ومحال كلامهم، وأنّ صوابه العشاء فقط، ولا يجوز وصفها بالآخرة؟ فغلط منْهم، بل الصواب جوازه، وهذا الحديث صريحٌ فيه، وقد تظاهرت به أحاديث كثيرة، وقد سبق بيانه في مواضع من كتاب الصلاة.
لم يَزَلْ - صلى الله عليه وسلم - يُلبِّي حتَّى بَلَغَ الجَمرةَ الكُبرَى
ثمَّ أخْبَرَ أُسامةُ - رضي الله عنه - أنَّ الفضْلَ بنَ العبَّاسِ -رضي الله عنهما- رَكِبَ خلْفَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم - صَبيحةَ لَيلةِ المَبيتِ بالمُزدلِفةِ، وهي صَبيحةُ يَومِ النَّحرِ اليومِ العاشرِ مِن ذي الحِجَّةِ؛ حيث يَتوجَّهُ الحَجيجُ لرَمْيِ الجَمرةِ الكُبرى، وأخْبَر الفضلُ بنُ العَبَّاسِ -رضي الله عنهما-، أنَّ رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - لم يَزَلْ يُلبِّي حتَّى بَلَغَ الجَمرةَ الَّتي بالعَقَبةِ -وهي الجَمرةُ الكُبرَى غَرْبَي مِنًى ممَّا يَلي مكَّةَ- صَبيحةَ يومِ النَّحرِ، وهو اليومُ العاشِرُ مِن ذي الحِجَّةِ، فقَطَعَ التَّلبيةَ حينَ بُلوغِها، وصِيغةُ التَّلبيةِ هي: «لَبَّيكَ اللَّهمَّ لَبَّيك، لَبَّيك لا شَريكَ لك لَبَّيك، إنَّ الحمْدَ والنِّعمةَ لكَ والمُلْك، لا شَريكَ لك»، ويَبدَأُ وقْتُ التَّلبيةِ عندَ الإحرامِ بالحجِّ.
فوائد الحديث
- في الحديث مَشروعيَّةُ المَبيت بالمُزدلِفةِ لَيلةَ النَّحرِ.
- وفيه: مُبادَرةُ الحاجِّ بصَلاتي المغرِبِ والعِشاءِ جمعاً، أوَّلَ قُدومِه المُزدلِفةَ.
- وفيه: تَواضُعُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
- وفيه: مَشروعيَّةُ رُكوبُ اثنَينِ على الدَّابَّةِ إذا كانتْ مُطيقةً لذلك.
- الحجُّ هو الرُّكنُ الخامسُ مِن أركانِ الإسلامِ، وقد بيَّنَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - للصحابة المَناسِكَ بأقوالِه وأفعالِه، ونَقَلها لنا الصَّحابةُ الكرامُ -رضي الله عنهم- أجمعينَ.
- اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي