شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: صِفة السّيْر في الدَّفعِ مِنْ عَرَفة
- السُّنّة أنْ يكون السّيرُ في دَفْع الحُجّاج مِنْ عَرَفة إلى مُزدلفة ومِنْ مزدلفة إلى مِنَى، بغير إسْراعٍ وجَلَبة
عَنْ عُروة قَالَ: سُئِلَ أُسَامَةُ وأَنَا شَاهِدٌ، أَوْ قَالَ سَأَلْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرْدَفَهُ مِنْ عَرَفَاتٍ، قُلْت:ُ كَيْفَ كَانَ يَسِيرُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - حِينَ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ؟ قَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ. رواه مسلم في الحج (2/936) باب: الإفاضة منْ عَرفات إلى المُزدلفة، واسْتحباب صلاتي المغرب والعشاء جميعاً بالمُزدلفة في هذه الليلة، وقد رواه الإمام البخاري في الحج (1666) وبوّب عليه: بَابُ السَّيْرِ إِذَا دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ.
في هذا الحَديثِ يَروي التَّابِعيُّ عُروةُ بنُ الزُّبَيرِ أنَّه كان جالساً مع الصَّحابيِّ أُسامةَ بنِ زَيدٍ -رَضيَ اللهُ عنهما-، فسُئِلَ أُسامةُ عن سَيرِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَداعِ، حين دَفَعَ - صلى الله عليه وسلم - وأفاضَ مِن عَرَفاتٍ إلى مُزدَلِفةَ، فأخبَرَهم أنَّه كان يَسيرُ العَنَقَ، أيْ: يَسيرُ سَيراً مُتوسِّطاً لا يُسرِعُ فيه، لِئلَّا يُضايِقَ النَّاسَ ويُؤذيَهم، ولِيَكونَ قُدوةً لِغيرِه في ذلك، فإذا وَجَدَ فَجْوةً بَينَ النَّاسِ وطَريقاً واسِعاً فَسيحاً نَصَّ، أيْ: أسرَعَ في سَيرِه في هذا المَكانِ الواسِعِ.
قال البخاري عقب روايته للحديث: قَالَ هِشَامٌ: والنَّصُّ فَوْقَ العَنَقِ. ثم قال البخاري: فَجْوَةٌ: مُتَّسَعٌ، والْجَمِيعُ فَجَوَاتٌ وفِجَاء. اهـ. وكذلك جاء في رواية مسلم أنه من تفسير هشام أيضا.
قال النووي: أَمَّا الْعَنَق فَبِفَتْحِ الْعَيْن وَالنُّون، وَالنَّصّ بِفَتْحِ النُّون وَتَشْدِيد الصَّاد الْمُهْمَلَة هُمَا نَوْعَانِ مِنْ إِسْرَاع السَّيْر، وَفِي الْعَنَق نَوْع مِنْ الرِّفْق. و«الْفَجْوَة» بِفَتْحِ الفَاء: المَكَان المُتَّسِع. اهـ.
قال ابن المنذر: وحديث أسامة يدلّ أنّ أمْره بالسّكينة، إنّما كان في الوقت الذي لمْ يَجد فَجْوة، وأنّه حين وَجَدَ فَجْوة، سَار سَيراً فوق ذلك، وإنّما أرادَ بالسّكينة في وقتِ الزّحام. نَقَله ابن بطّال.
فأسامة بن زيد - رضي الله عنه - كان رديفَ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حينما دَفَع -صلى الله عليه وسلم - مِنْ عَرَفة، والدّفع ليس خاصّاً بالخُروج منْ عَرفة، فقد جاء في الحديث: «دفع مِنَ المُزدلفة قبل أنْ تطلع الشّمس». رواه النسائي.
صفة حجته -صلى الله عليه وسلم -
وفي حديث جابر في صفة حجته - صلى الله عليه وسلم -: «وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ، ودَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ، حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى: أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ، كُلَّمَا أَتَى حَبْلا مِنْ الحِبَالِ، أَرْخَى لَهَا قَلِيلا حَتَّى تَصْعَدَ، حَتَّى أَتَى المُزْدَلِفَةَ». رواه مسلم.
و«الحِبَال» هُنَا بِالحَاءِ المُهْمَلَة المَكْسُورَة جَمْع حَبْل، وهُوَ التَّلّ اللَّطِيف مِنْ الرَّمْل الضَّخْم.
وفي حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: أَنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ عَرَفَةَ فَسَمِعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم - ورَاءَهُ زَجْراً شَدِيداً وَضَرْباً، وصَوْتاً لِلإِبِلِ، فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إِلَيْهم، وقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَإِنَّ البِرَّ لَيْسَ بِالإِيضَاعِ». رواه البخاري. وقال: أَوْضَعُوا: أَسْرَعُوا.
فوائد الحديث
- السُّنّة أنْ يكون السّيرُ في دَفْع الحُجّاج مِنْ عَرَفة إلى مُزدلفة، ومِنْ مزدلفة إلى مِنَى، بغير إسْراعٍ وجَلَبة.
- وسببُ عدم إسْراعه - صلى الله عليه وسلم -، ونَهْيه عن الإسْراع، هو مُنافاته للخُشُوع والسّكينة الواجِبة للعِبادة، قال عكرمة: سأل رجلٌ ابنَ عباس عن الإيجِاف. فقال: إنَّ حَل حَل، يُشغل عنْ ذِكْر الله، ويُوطِئ ويُؤذِي.
- وقال المهلب: إنّما نَهاهم عن الإيِضَاع والجَري، إبْقَاء عليهم، ولئلا يُجْحِفوا بأنفسِهم بالتسابق مِنْ أجْل بُعْدِ المَسَافة؛ لأنّها كانت تبهرهم فيَفْشلوا، وتذهبَ ريحهم، فقد نهى عن البلوغ إلى مثل هذه الحال. نقله ابن بطال.
- وفيه: شَفَقته -صلى الله عليه وسلم - بأمّته، وحِرْصه -صلى الله عليه وسلم - عليهم، فهو كما قال الله -عزَّوَجَلّ- في وصفِه -صلى الله عليه وسلم -: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة: 128).
- اسْتُثْنِي منْ ذلك: ما إذا مَرّ الحاجّ بِوادي مُحَسّر منْ مِنى.
- قال ابن المنذر: فكان في معنى قوله: «عليكم بالسّكينة» إلا في بَطْن وادي مُحَسِّر، فقد روى جابر - رضي الله عنه -: «أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم - أوْضعَ في وادي مُحَسِّرٍ». رواه النسائي. وكان ابنُ مسعود، وابنُ عباس، وابنُ عمر، وابن الزبير يُوضِعُون في وادي مُحسّر، وتَبعهم على ذلك كثير من العلماء. نقله ابن بطال.
- السّنَّة الرّفْق بالرُّفْقَة، ومُرَاعاة أحْوال الناس في السّير، وعدم تكلّف المشقَّة، قال النّووي: وفِيهِ، مِنْ الفِقْه: اِسْتِحْبَاب الرِّفْق فِي السَّيْر فِي حَال الزِّحَام.
إن الدين عند الله الإسلام
لما أهبط الله -عز وجل- آدم -عليه السلام- إلى الأرض أهبطه إليها مسلمًا موحدًا، ولما خاطب نوح -عليه السلام- قومه قال لهم: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (يونس: 72)، ويحكي القرآن عن إبراهيم -عليه السلام- وسرعة استجابته للإسلام فيقول: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (البقرة: 131)، ومرة أخرى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (آل عمران: 67)، والإسلام هو وصية كل نبي لقومه ولأولاده من بعده: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 132)، ويعقوب -عليه السلام- بدوره يختبر أبناءه ليطمئن أنهم لن يغيروا أو يبدلوا: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 133)، ووصية موسى -عليه السلام- لقومه: {يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} (يونس:84)، وهو ما علَّمه عيسى -عليه السلام-للحواريين ثم اختبرهم فيه: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 52)، وهكذا ما بُعِث نبي ولا أُرسِل رسول إلا بالإسلام. لذلك تجد القرآن الكريم يقرر في وضوح وجلاء قائلًا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران: 19)، ولا عجب إذًا أن يقولها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «.. والأنبياء إخوة لعَلَّات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد»، «ومعنى الحديث: أن أصل دينهم واحد وهو التوحيد، وإن اختلفت فروع الشرائع»، ولأن الدين عند الله -عزوجل- واحد؛ هو الإسلام لا سواه، فأنه لن يقبل من مخلوق يوم القيامة أي دين آخر سوى دين الإسلام: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85)؛ «يعني أن الدين المقبول عند الله هو دين الإسلام، وأن كل دين سواه غير مقبول عنده؛ لأن الدين الصحيح ما يأمر الله به ويرضى عن فاعله ويثيبه عليه، والسنة النبوية في هذا الصدد واضحة ظاهرة تقول في جلاء: «إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة»، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار».
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي