سلسلة الأعمال الخيرية- القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية 20- التقديرات بابها التوقيف
نكمل في هذا العدد ما بدأناه من ضوابط وقواعد للعمل الخيري والوقفي ليسهل على من جند نفسه لخدمة هذه الأعمال والمشاريع؛ الأخذ بها، والالتزام بأحكامها التي استقيتها من الكتب الفقهية والتصانيف الوقفية والخيرية.
التقديرات بابها التوقيف(1)؛ وهذه القاعدة في مقادير العبادات كالزكاة والكفارات ونحوها؛ فما دام قد وُجِد لها تقدير شرعي فلا يجوز تغيير هذا التقدير، وقد يعبَّر عن القاعدة بلفظ: (الشيء) إذا ثبت مقدَّراً في الشرع؛ فلا يُعد أي تقدير آخر.
وقد يسوغ الزيادة أحياناً إذا زيدت بِعدها نفلاً.
ومن التطبيقات الخيرية المتعلقة بهذه القاعدة:
التقديرات في حساب كالزكاة، وتحديد الأنصبة في الزكاة توقيفي ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز لأحد مهما كان حاكماً أو محكوماً أن يغيره بزيادة أو نقص.
وكذلك الصاع في زكاة الفطر(2)، لا مجال للاجتهاد في تحديده، فهو ثابت شرعاً، ومعروف عرفاً.
تعيين الفقير، والفصل بين الغني والفقير، ليس بمقدر نصاً، ويرجع فيه إلى العادة والعرف، فمن عده الناس غنيا في العادة فهو غني، أو فقيراً في عرف مجتمعه فهو فقير؛ لأن التقديرات بابها التوقيف، ولا توقيف في هذا.
مقدار ما يعطى للفقير فيما لم يحدد الشرع مقداره، فذلك التقدير غير واجب، ويرجع فيه إلى اجتهاد أهل الشأن والاختصاص من النظار والمتولين لأمر توزيع الصدقة في الزيادة والنقصان.
مقدار الإطعام في الكفارة تقريبي، وليس حدّاً معروفاً، ولهذا قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: ما دام الشرع لم يقدر لنا، فإن ما يسمى إطعاماً يكون مجزئاً، حتى الغداء أو العشاء.
قال العلامة العثيمين في الشرح الممتع على زاد المستقنع والإطعام له كيفيتان:
الأولى: أن يصنع طعاماً يكفي عشرة مساكين غداء أو عشاءً ثم يدعوهم؛ وذلك لأن الله -تعالى -
أطلق فقال: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}(المائدة: 89)، فإذا صنع طعاماً وتغدّوا، أو تعشوا فقد أطعمهم(3).
الثانية: التقدير، وقد قدَّرناه بنحو كيلو من الأرز لكل واحد، فيكون عشرة كيلوات للجميع، ويحسن في هذه الحال أن يجعل معه ما يؤدِّمه من لحم أو نحوه، ليتم الإطعام؛ لأن الله تعالى يقول: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}.
الهوامش:
1- المغني: (1/580)، وانظر القواعد الفقهية في المغني: ص651.
2- مقدارها: صاع عن كل مسلم،والصاع المقصود هو صاع أهل المدينة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ضابط ما يكال، بمكيال أهل المدينة كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المكيال على مكيال أهل المدينة والوزن، على وزن أهل مكة» أخرجه أبو داود والنسائي بسند صحيح. والصاع من المكيال، فوجب أن يكون بصاع أهل المدينة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم .
3- الواجب إذا أخرجها طعاما، أن تكون من وسط طعامه، فلا يلزمه أن يخرجها من أفضل ما يأكل، ولا يجوز له أن يخرجها من الأقل بل من الوسط.
الـــوقــــف... أدوار وظـيفـيــة
يمتاز الوقف الإسلامي بأنه زاخر بحقائق مدادها نظام رباني، وتطبيق نبوي، وسنة متبعة في العهود الإسلامية؛ كثر خيرها، وتوافرت دررها منذ القرن الأول، وإلى يومنا الحاضر.
وقد شُرع الوقف لتحقيق غايات ومقاصد من شأنها حفظ ضرورات الحياة بما يُصلح الدين والدنيا، وبما يوفر الحياة الكريمة ومتطلباتها وضروراتها، وأخرج بمؤسساته ومشاريعه وتطبيقاته على مر العهود الإسلامية نماذج وروائع يقف أمامها القارئ وقفة تقدير وإعجاب.
حقائق الوقف الإسلامي حقائق مضيئة وإشراقات منيرة، ننتقيها لنحيي بها سنة الوقف التي سنها رسولنا صلى الله عليه وسلم ، وندفع بها الهمم والنفوس للبذل والعطاء، لاستئناف مسيرة الوقف الإسلامي من جديد، جمعناها وغايتنا نشر ثقافة الوقف، وإحياء سنتة، وترغيب المسلمين للإسهام في كل مجالاته ومساراته.
حقائق شهد بها أهل العلم والاختصاص، ووثقها الرحالة والمؤرخون من المسلمين وغيرهم، لتحفظ لنا الذاكرة والتاريخ، لتبقى مفعمة بالخير والعطاء، وتثير الفخر في النفوس لاستمرار المشاريع الوقفية.
في هذه الحلقات نظمنا بعضاّ منها في عقد درّته (الوقف الإسلامي ودوره الحضاري)، لحفظ كنوز الوقف وروائعه وإشراقاته وإبداعاته، ليبقى الوقف الإسلامي بتشريعاته وأحكامه وخصائصه ومخرجاته لبنة أساس في نهضة المجتمعات والأمم. وهذه الحلقة سنخصصها للحديث عن الوقف وأدواره الوظيفية:
1- الوقف الإسلامي نظام تقتضيه المصلحة؛ لما فيه من المنفعة للواقف باستمرار وصول الثواب إليه، ومن المنفعة للموقوف عليه بانتفاعه بالوقف، مع حفظه وعدم تمكينه من استهلاكه، أو امتلاكه لتنتفع منه الأجيال القادمة.
2- الوقف الإسلامي؛ لا تقتصر منفعته على الفقراء وحدهم، وإنما يمتد نفعه ليشمل كثيرًا من فئات المجتمع، وتتعدد مجالاته التي تخدم البشرية، لتحقيق التكافل والتعاضد بين الأمة، وليتوازن المجتمع ليهنأ الجميع بحياة هنيئة تحفظ كرامتهم، وترعى مصالحهم.
3- الوقف الإسلامي يوسع الآفاق في التفكير بحاجات الناس، وتوفير ما يساعد في تخفيف الأعباء، وتسهيل الحياة، وأوجد أركانًا جديدة تقدم حاجات أساسية للمجتمع في زمنهم.
4- الوقف الإسلامي بات يشكو من إهمال وجمود، وتعطيل كثير من خيراته ومنافعه، فكثرة المعتدين على أصوله، وضعف القوانين الكفيلة بحماية الوقف، ومؤسساته، وصرف إيراداته، وتسجيل مؤسساته وترميم عقاراته أدت إلى ضعفه.
5- الوقف الإسلامي في أمس الحاجة لتنشيط إعلامه، ورفع درجة الوعي المجتمعية بأهمية الوقف، ومؤسساته بما يتناسب مع المتطلبات المجتمعية الحديثة، وتنقية مفهوم الوقف من الشبهات، والمعوقات التي أدت إلى العزوف عنه.
6- الوقف الإسلامي تشريع إسلامي، بمؤسساته أتاح للجميع في المجتمع للمشاركة فيه، وفي تحديثه، والعمل على استمراره، ولا تكفي الدعوة إلى البذل والعطاء للمشاريع الوقفية إذا لم توفر للأموال الموقوفة الإطار المؤسسي المناسب الذي يعمل بإخلاص وإتقان على تنميتها وتوجيهها الوجهة الصحيحة.
7- الوقف الإسلامي قوة للمجتمع، يوفر الحاجات الأساسية إن عجزت الدولة عنها، ويرعى مجالات تصعب رعايتها من قبل أي قطاع آخر في الدولة، فهو يرفع من مكانة الفقير، ويقوي الضعيف، ويرعى الصغير، ويدرب ويؤهل اليتيم، ويعالج المريض، ويكفل الأرملة، ويحفظ المطلقة، ويخفف على الضرير، ويريح الشيخ الكبير، ويرعى ذوي العاهات.
8- الوقف الإسلامي يقدم فرصًا سانحة – كقطاع مستقل - للخصوصية التي تولد الإبداع والابتكار، وتطلق العقول وتنمي المشاريع التي تخدم المجتمع من مستشفيات غير ربحية وجامعات ومراكز أبحاث غير ربحية، واستثمارات ومجمعات ربحية يصرف من ريعها لقضاء حاجات تتطلبها المرحلة التي نعيش.
9- الوقف الإسلامي- بمؤسساته الفاعلة - قادر على ترشيد الصحوة الدينية والسياسية وتوجيههما، فمؤسساته ترى حاجات الناس، وتقدم العلاجات للناس، والدراسات لأصحاب القرار، وتقارير تكشف حالات الفساد في مؤسساتنا الحكومية، والتجارية.
10- الوقف الإسلامي وعى الاستعمار دوره فحاربه، وأضعفه في دولنا، وسن التشريعات، والقوانين لرعايته وتنميته في دولهم، حتى أضحى قطاعًا رئيسًا من قطاعات الدولة المعاصرة وفق المفهوم الإداري الحديث.
اعداد: عيسى القدومي