حكم من صلى بالناس إماما فغير نيته من فرض إلى فرض آخر دون علمهم
السؤال صلى أحد الشباب مرة بجماعة صلاة العصر، فلما كبر تكبيرة الإحرام كان يظن أنها صلاة الظهر وبعد تكبيرة الإحرام مباشرة تذكر أنها صلاة العصر فخرج مباشرة من صلاته بتسليم، ثم كبر مرة ثانية تكبيرة إحرام جديدة بنية لصلاة العصر، كل ذلك فعله والمأمومون خلفه لم يعلموا بتسليمه من الأولى وخروجه منها حيث لم يخبرهم بذلك ولم يشعروا بذلك، وصلوا خلفه بتكبيرته الأولى، فما حكم صلاة المأمومين خلفه في هذه الحالة؟
الجواب هذه المسألة فيها مسائل: المسألة الأولى: من كبر ظانا أنه قد صلى الظهر ثم تبين أنه لم يصلها، فإنه لا يصح أن ينتقل من فرض إلى فرض؛ لأن نيته للظهر بطلت حيث أن ذمته قد برئت من صلاة الظهر، ولا تصلى الصلاة مرتين على أنها صلاة واحدة كما في حديث أم المؤمنين حفصة: (نهى أن تعاد الصلاة مرتين) يعني: أن يعتقد كليهما فرضا؛ لأن الله فرض عليك فرضا واحدا، إذا ثبت هذا لا يمكن أن تكون ظهرا، فبطلت نيته عند تكبيرة الإحرام للظهر، وبطلت نيته للعصر؛ لأن العصر لا تصح نيته إلا مقارنة لتكبيرة الإحرام أو سابقة لتكبيرة الإحرام، ولا تصح نية الفريضة بعد تكبيرة الإحرام؛ لأنها تكون مع تكبيرة الإحرام ويجوز سبقها بتكبيرة الإحرام، بالزمن اليسير.
إذا ثبت هذا فنحن نتكلم الآن عن الإمام، كان المنبغي من فقه الإمامة أن يبقى على نية النافلة؛ لأنها امتنعت ظهرا فريضة فتنتقل نافلة خلافا لبعض الحنابلة الذين يقولون: إنها لا تصح فرضا ولا نفلا، فيقلبها نافلة وتصبح له نافلة، يصلي بهم متنفلا وهم مفترضون، ويصح أن يصلي المفترض وراء المتنفل، فقدر الله وما شاء فعل، فلو أنه استمر بنية النافلة لصحت الصلاة له ولهم؛ صحت له نافلة، وصحت لهم اقتداء فريضة ومجزئة وتبرأ ذمتهم، لكن عندما سلم وخرج عن الصلاة الأولى حينئذ لا يجوز أن يسبق المأموم إمامه في تكبيرة الإحرام، وما يمكن أن يقع اقتداء للمأموم بإمام قد سبقه المأموم بتكبيرة الإحرام، ولذلك قالوا: من أحرم منفردا لا ينتقل مأموما، فأصبحوا منفردين، ولو استخلف صحت، على قول من يرى الاستخلاف في هذه الحالة، فالاستخلاف لوجود العذر يصح، فصار عذرا شرعيا كالعذر الذي يتعلق بالطهارة ونحوها.
لكن كونه قد سبقت تكبيرتهم؛ لأنه الآن في صلاة ثانية بالنسبة له، أحرم الإمام بصلاة غير الصلاة التي أحرم وراءه فيها المؤتمون، فلا يصح أن يكون إمامهم؛ لأن المأموم يسبق الإمام بتكبيرة الإحرام في صور مستثناة منها: إذا كبر وهو إمام مستخلف، يعني: تأخر الإمام فقدمنا شخصا، فحضر الإمام أثناء تقدم الشخص يجوز أن يدخل الإمام ويكبر تكبيرة الإحرام ويؤخر الشخص أو يجعله عن يمينه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم تأخر في الصلح بين حيين من بني عوف، فلما حضر النبي صلى الله عليه وسلم ائتم به أبو بكر، فهذه سبق فيها تكبير المأموم لتكبير إمامه، ومن أمثلتها أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في مرضه مرض الوفاة بين العباس وعلي رضي الله عنهما يهادى بينهما رآه أبو بكر فذهب يتأخر، فأشار إليه أن مكانك، وجاء وصلى عليه الصلاة والسلام عن يسار أبي بكر، هو الإمام وأبو بكر يصلي بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبي بكر.
هنا تقدم تكبير المأموم وهم الصحابة على تكبير إمامهم وهو النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا للعذر، وهذه المسألة مستثناة من الأصل؛ لأن الأصل وقوع تكبيرة المأموم وراء تكبيرة الإمام لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) فاستثنيت بالنص، واستثنيت بحق الإمامة، ولذلك يقول العلماء: هذا لشرف العلم؛ لأن الإمام لا يتقدم على الناس إلا وهو أعلمهم وأعرفهم بكتاب الله، فإذا حضر كان من حقه أن يتقدم، وفيه دليل على الاعتراف بفضل ذي الفضل؛ لأن الإمام صاحب حق، وعندما تأخر تأخر لعذر، فإذا حضر لا يصلي وراء غيره بل يرجع إلى مكانه؛ لأن الشريعة تبقي له الحق، وتعترف بفضله حينما صار إماما راتبا في غالب أحوال الناس في ائتمامهم به.
الشاهد من هذا: ما عندنا مسألة نستثني فيها تقدم تكبير المأموم على الإمام إلا هذه المسألة، ومسألتنا ليست منها.
يبقى السؤال: ما حكم صلاة المأمومين؟ صلاة المأمومين عند فقهاء الحنابلة وطائفة من أهل العلم باطلة، لأنهم نووا وأحرموا ودخلوا بصلاتهم قبل أن يكبر الإمام بهم، وبناء على ذلك سبقت تكبيرة الإحرام من المأمومين تكبيرة الإمام، فإذا نظرت إلى كونهم ائتموا به في هذه الصلاة وهم معتقدون أنه إمام فإن هذه النية باطلة؛ لأنها ليست مترتبة على الصلاة الحقيقية التي هم نووها، ولذلك يحكم ببطلان صلاتهم لوجود المفارقة بينهم وبين الإمام، ولا يحرم الإمام عنهم في مثل هذه الصلاة؛ لأنه أحرم بصلاة جديدة عقب إحرامهم، فيحكم بإعادتهم لهذه الصلاة على هذا الوجه، وعليه فالأحوط لهم أن يعيدوا هذه الصلاة، والله تعالى أعلم.
مداخلة: الإمام صلاته باطلة أو صحيحة؟ الجواب: بالنسبة للإمام تعتبر صلاته صحيحة، وأما بالنسبة للمأمومين فالأفضل لهم والأكمل والأحوط أن يعيدون هذه الصلاة.
حكم تداخل الطواف بالبيت دون الفصل بركعتي الطواف
السؤال هل يجوز وصل الطواف سبعة أشواط بسبعة أخرى من غير فصل بركعتي الطواف؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فللعلماء في هذه المسألة وجهان: من أهل العلم من يرى أن كل أسبوع ينبغي أن يصلي بعده الركعتين ولا يصل أسبوعا بأسبوع، وبناء على هذا القول لو وصل أسبوعا بأسبوع فصلى فإنه يكون في حكم من طاف مرة واحدة، أي: أسبوعا واحدا، ولا يقولون بالانفصال، وإنما يحكمون بالتداخل.
وقال بعض العلماء كما هو قول طائفة من السلف: يجوز، ويؤثر عن إبراهيم النخعي رحمه الله من أئمة التابعين أنه رخص أن يطوف ثلاثة أسابيع سبعا سبعا سبعا وأسبوعين ثم يصلي بعد ذلك ركعتين ركعتين لكل أسبوع، فيرى بأنه يمكن أن يؤخر الصلوات وأن يبدأ بالطواف.
من صور هذه المسألة: قد يكون الإنسان في بعض الأحيان محتاجا إلى ذلك كما لو طاف بعد صلاة الفجر، فالوقت فيه خلاف هل يصلي ركعتي الطواف أو لا يصلي؟ فإذا قيل بالحديث: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة من ليل أو نهار) إذا قيل به أنه أصل وأنه يصلي في كل وقت، حينئذ يكون الأمر فيه سعة، لكن إذا نظر إلى أنه يقوله: (لا تمنعوا أحدا طاف) المراد به عدم التعرض للطائف، وأما بالنسبة للصلاة نفسها فإنه قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بعد صلاة الصبح) فهذان حديثان متعارضان أحدهما قصد منه رفع يد المكلفين عن منع الطائف وعن التعرض لمن يصلي ومن دخل في هذا المسجد؛ لأن بني عبد مناف كانوا هم المسئولون عن سدانة البيت، ولذلك نهوا عن التعرض، فأمروا أن لا يتعرضوا لمن طاف بالبيت، فيكون المقصود من الحديث: عدم التعرض فيكون أعم من موضع النزاع.
فتقول: الأصل عندي أنه لا صلاة بعد صلاة الصبح، وأعتبر هذا الحديث عاما دخله التخصيص بدليل أنه لو دخل والصلاة مقامة هل يصلي ركعتي الطواف؟ لا يصلي ركعتي الطواف، فإذا معنى ذلك أن عمومه دخله التخصيص وخصصته بدليل وحدث؛ لأنك ترى أن هذا نص في الأمر الذي جاء من أجله وهو الصلاة المفروضة، ويقول لك القائل الذي يستثني: إن هذا نص في الوقت أنه لا يصلي، فإذا قيل: إنه لا يصلي ركعتي الطواف بعد الفجر كما كان فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو الخليفة الراشد، كان إذا طاف بعد صلاة الصبح لم يصل الركعتين حتى تطلع الشمس، ومأثور أيضا عن بعض أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أنهن كن إذا طفن بالبيت خاصة طواف الوداع، يؤخرن ركعتي الطواف حتى تطلع الشمس.
فإذا احتاج الإنسان إلى تأخير ركعتي الطواف كأن يطوف أسبوعا ثم أسبوعا ثم أسبوعا بعد صلاة الصبح ويريد أن يستكثر من الخير، ثم يجمع هذه الأسابيع بركعتي الطواف من كل أسبوع بعد الفراغ منها، فهذا نوع من الاحتياج، لكن من حيث الترجيح بين القولين، والذي تطمئن إليه النفس الاقتصار على السنة والوارد ما أمكن، وهو أنه لا يجمع بين أسبوعين فيصلي ركعتين من كل أسبوع، بل عليه أن يفصل وخاصة في الطوافات الواجبة واللازمة، وإذا ثبت هذا فعلى الإنسان أن يحتاط، لكن لو احتاج إلى ذلك وفعله من باب الزيادة في الخير أو الحرص على الطواف بالبيت فله وجه إذا ترجح عنده قول من يقول بجواز التداخل، والله تعالى أعلم.
إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة الكبير
السؤال وردت أحاديث تدل على احترام الرجل المسلم كبير السن، والسؤال: متى نستثني هذا الأصل، ويشكل علي قضية وجود كبار السن في المجالس، فهل أبدأ بالسلام أو سقي الشراب ونحوه من الجهة اليمنى أو بكبار السن، بارك الله فيكم؟
الجواب تقدير الكبير واحترامه وإجلاله سنة من سنن المرسلين، ومن هدي الأخيار والصالحين، لا يعرف الفضل إلا أهله، ولا يحسن إلى كبار السن إلا من قذف الله الرحمة في قلوبهم، فكبير السن محتاج إلى من يرحمه ويكرمه ويجله، والشريعة تأمر بأشياء لأسباب ومقتضيات، فمما يعينك على ذلك أو يكشف لك جلية الأمر أنك إذا نظرت إلى كبير السن وقد وهن عظمه وخارت قواه وتولى أصحابه، كان بالأمس يخرج إلى أصحابه وأحبابه فإذا به اليوم يخرج إما لعيادة مريض منهم أو تشييع ميتهم أو يخرج لعلاج؛ لأنه قطعت به الدنيا فأصبح أحوج ما يكون إلى كلمة طيبة وإلى تقدير وإجلال، وإلى من يشعره أن له مكانا بين المسلمين، ومن هنا قال رسول الرحمة صلوات الله وسلامه عليه الذي بعثه الله رحمة للعالمين وقال: (أنا رحمة مهداة) يقول عليه الصلاة والسلام: (إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة الكبير) .
فإذا تفكرت في هذه المشاعر، وتفكرت لو كنت مكانه فإذا بأصحابك كلهم قد ولوا وانقضوا أو أصبح كل واحد منهم طريح الفراش: اثنان لو بكت الدماء عليهما عيناك حتى يؤذنا بذهاب لم يبلغ المعشار من حقيهما فقد الشباب وفرقة الأحباب فإذا أحببت أقواما وإخوانا لك في الله، أو أقرباء أعزة عليك، فأصبحت لا ترى منهم أحدا، أو لا تسمع لهم خبرا، فإن القلب يتفطر من هذه الأشجان والأحزان، فيحتاج كبير السن إلى من يقدر له هذه العواطف، فهو في داخل نفسه يعيش كثيرا من الآلام، ولا شك أن الله يرفع بها درجته، ويعظم بها أجره، ويجبر بها كسره؛ لأن في الله سلوة عن كل شيء، ولذلك جعلت الشريعة كبير السن له الحق حتى في الإمامة في الصلاة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لـ مالك بن حويرث ومن معه: (إذا حضرت الصلاة فأذنا وليؤمكما أكبركما) رحم صلوات الله وسلامه عليه الصغير والكبير، ومن رحمته بالكبير أنه قال: (ليس منا من لم يوقر كبيرنا) وطبق ذلك فلما أتاه أبو قحافة رضي الله عنه والد أبي بكر يوم الفتح وقد أصبح أبيض شعر الرأس نظر إليه عليه الصلاة والسلام وقال: (أثقلتم على الشيخ هلا تركتموه حتى نأتيه في منزله) صلوات ربي وسلامه عليه، وكأنه يشعر الأمة ويشعر الناس أنه إن جاءني أبو قحافة أمام الناس فله حق لكبره، وله حق لسنه.
فالكبير يقدر ويكرم ولا يهان، ويعز ولا يذل، ويرفع ولا يوضع، إذا جاء في المجالس فليكن له أطيب المجالس وأكرمها وأرفعها؛ لأن (من إجلال الله إجلال ذي الشيبة الكبير) وإذا تكلم ننصت إليه ونستمع، وإذا أشار برأي أخذنا برأيه، فهم أهل التجربة والمعرفة، ويقولون: إن كبار السن أعقل الناس؛ لأنهم مرت عليهم التجارب، والشباب فيه طيش واستعجال وتهور، ولا يمكن أن يكبح جماح هذا التهور إلا حكمة الكبار والمشايخ العقلاء؛ لأن هذا الكبير لما مرت عليه ويلات الدهر جعلته يحتاط في الأمور ولا يستعجل بها، فإذا اصطدمت مع الوالد أو مع العم أو مع كبير السن في قضية فوجدته يتشدد أو يضيق فيها فاعلم أن ذلك ليس من فراغ، وإنما من طول تجربة.
فمن إجلال الكبير توقيره في المجلس، فيعطى أفضل المجالس، وإياك أن يراك الله في مجلس أرفع من كبير السن إلا إذا كان مجلس علم يؤمر برفعك؛ لأن عمر بن الخطاب كان يرفع مجلس ابن عباس رضي الله عنهما لمكان العلم، وهذا أمر مستثنى، أما أن تجلس وكبير السن دونك في المجلس فيأبى الله ويأبى رسوله عليه الصلاة والسلام، بل ينبغي علينا أن نكبرهم ونكرمهم، وإذا دخلت في حفلة أو في مكان أو في ضيافة سواء كانت لك أو لقريبك ووجدت كبير السن في مجلس فخذ بيده وأجلسه في المكان الذي يليق به.
ومن سنن المرسلين أن يوقر الكبار في مجالسهم، وأن تكون صدور المجالس لكبار السن، وأن يكون الحديث أول ما يكون لكبار السن، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حدثت قضية قتل عبد الله بن سهل في خيبر فجاء محيصة يتكلم وكان أصغر القوم فغضب عليه الصلاة والسلام وقال: (كبر كبر) يعني: اترك أخاك الذي هو أكبر منك يتكلم أولا.
حتى في الصلاة والوقوف بين يدي الله عز وجل قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سنا، فإن كانوا في السن سواء فأقدمهم سلما) .
فالسن له حق وقدر، والشريعة جاءت بإعطاء أهل الحقوق حقوقهم، ولا يعرف الفضل إلا أهله، ونشتكي إلى الله عز وجل حينما يدخل الإنسان إلى المناسبات والمجالس فيجد كبار السن في أطراف المجالس، وتجد كبير السن يحضر المناسبات فقل أن يجد من يقدر خطواته التي يمشيها من بيته، لو كنا نعيش أشجان كبار السن وأحزانهم، كان بمجرد ما تراه يأتيك في مناسبة تقبل رأسه وتجله وتكرمه؛ لأنك تحسب أن الخطوة منه بآلاف الخطوات من غيره، وأن مجيئه إليك في شفاعة أو في حاجة أنه شيء كبير عندك، فلنتق الله عز وجل ونقدر كبار السن، ولنعلم الناس توقير الكبير وإجلاله، إننا إن فعلنا ذلك كان أتقى لربنا وأهدى في اتباع سنة نبينا.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يكرمنا بمحاسن الأخلاق، وأن يصرف عنا شرها وسيئها لا يصرف عنا شرها وسيئها إلا هو.
طالب العلم وأهمية معرفة الأصول والمستثنيات
السؤال متى نقول عن مسألة في الحديث إنها تعتبر أصلا ونستثني بعض الصور كالمزرعتين اللتين لهما بئر واحدة، ومتى نبقى على الأصل فنمنع القياس والاجتهاد؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: أما ما سألت عنه أخي في الله! من قضية الأصل، هذه المسألة تعتبر من أهم المسائل لطالب العلم، والعالم وطالب العلم الذي يعرف الأصول ويعرف القواعد العامة والمستثنيات يمكنه أن يفهم الشريعة، فلا يمكننا أن نفهم حكم الله عز وجل إلا إذا عرفنا ما هو الأصل وما هو المستثنى من الأصل، فلا نجعل الأصل فرعا، ولا نجعل الفرع أصلا، بل نعطي كل شيء حقه وقدره كما قال تعالى: {قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق:3] .
فهناك أشياء تسمى الأصول، وخذها قاعدة: أن أي شيء في العبادة أو في المعاملة إذا كان أصلا فابق عليه ولا تخرج عنه إلا بدليل، من عرف هذا سلم من الإشكال في ذهنه وفكره، وسلم من الخطأ في تصرفه، فأنت مثلا في العبادة تقول: الأصل في العبادة التوقيف، فلا أتعبد ولا أتقرب لله عز وجل إلا بدليل، ومعنى توقيفي: أي هذا شيء موقوف على النص من الكتاب والسنة، لو جاء شخص وقال: إذا صليت المغرب فقم في الركعة الثانية قل في التشهد ادع بالعلم ويفتح الله عز وجل عليك العلم، ويقول لك: سؤال العلم مشروع، والدعاء في الصلاة مشروع، تقول له: يا أخي! الأصل أنه لا يجوز أن يحدث الإنسان أمرا وتشريعا للناس يحصرهم فيه في وقت معين أو زمان معين لذكر معين ودعاء معين إلا بدليل؛ لأن طلب العلم وسؤال الله العلم إعانة، وما قال الله عز وجل ولا قال رسوله عليه الصلاة والسلام أننا ندعوه ونسأل العلم في السجود -مثلا- أو نسأل العلم في حال التشهد، فهذه كلها ضوابط وثوابت ينبغي أن يقف عندها المسلم: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [البقرة:169] فمن عرف الأصل لا يمكنه أن يقول على الله ما لا يعلم، بل يقول ما علمه ربه أن يقول، فيلتزم الأصل ولا يخرج عنه.
فنحن إذا علمنا أن الأصل في هذه العبادة توقيفي نقف، ومن هنا يختلف العلماء، فإذا جئت مثلا لبعض المسائل تجد بعض العلماء يقول: أغلب هذا الأصل، وبعضهم يقول: أنا أفهم من هذا النص أنه أصل.
فمثلا: الذكر بين السجدتين، نجد العلماء رحمهم الله يقولون: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رب اغفر لي! رب اغفر لي!) وثبت عنه صلى الله عليه وسلم بين السجدتين أنه قال: (اللهم اهدني وارحمني وعافني وارفعني واجبرني) إلى آخر الدعاء المأثور، هذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والجمهور يقولون: ما بين السجدتين موضع للدعاء، لكن يشرع للإنسان أن يدعو، والأفضل والأكمل أن يدعو بالوارد.
فإذا قال قائل: لا يجوز الدعاء في هذا الموضع! ونبه على ذلك شراح الحديث، فقالوا: هذا الدعاء أصل في أن هذا الموضع للدعاء، إذا لو جئت تقول: لا يجوز أن يقول إلا: (رب اغفر لي رب اغفر لي) ويقول: (اللهم اهدني وارحمني) كما ورد، ولا يجوز في السجود أن يدعو إلا بما ورد، ولا يجوز أن يدعو بعد التشهد إلا بما ورد، نقول: إنه ليس بملزم بدعاء معين كما يقول الجمهور، وفرق بين (ملزم) وبين (الأفضل) ، فيقال: ليس بملزم بهذا الدعاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم به الصحابة، بدليل أنه لما جاءت هذه السنة جاءت من صحابي واحد سمعه يقول: (رب اغفر لي) بين السجدتين إذا لو كان لا يجوز لأحد أن يدعو بغير هذا الدعاء لقال: أيها الناس! إذا كنتم بين السجدتين فقولوا: كذا وكذا ولا تزيدوا، فلما صار الموضع موضع دعاء دعا فيه النبي صلى الله عليه وسلم صار أصلا، ومسلك الجمهور في ذلك أنهم يقولون: نعتبره أصلا في مشروعية الدعاء.
هناك بعض العلماء كأصحاب الحديث رحمهم الله وبعض المتأخرين يرى أنه يتقيد بالوارد ويستند إلى الأصل، والصلاة -في الحقيقة- من حيث الأصل العام أذكارها توقيفية، لكن هناك أصل عام وأصل طارئ، فورود الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء يعتبره العلماء رحمهم الله أصلا طارئا، فمسألة الأصل مهمة في فهم كلام العلماء وعباراتهم.
وبالمناسبة: لا أعرف أحدا من أهل العلم يقول: إن قول: (رب اغفر لي ولوالدي) بين السجدتين بدعة، لأني سمعت بعض طلاب العلم يقول: لا يجوز أن تقول بين السجدتين (رب اغفر لي ولوالدي) سبحان الله العظيم! إن كان النبي صلى الله عليه وسلم امتنع لسبب أتمتنع الأمة التي أمرت أن يترحم الإنسان على والديه وأن يدعو لهما؛ لأن هذا صار بدعة؟! وبالمناسبة لا ينبغي لأحد أن يقبل قولا مني أو من متأخر ما لم يعلم كلام العلماء والسلف، أئمة السلف كتبهم موجودة وكلامهم موجود في شرح الأحاديث ودلالاتها، الأصول عندهم واضحة، والثوابت واضحة، فليس تقرير الأصل منا نحن المتأخرين، تقرير الأصول في كلام المتقدمين ومن ضوابطهم، وليس هذا تعصبا بل إحقاقا للحق، لأنهم أهل العلم الذين ينبغي أن يرجع إليهم، وأهل العلم الذين ينبغي أن يقتدى بهم، وينبغي أن يعلم العلم عن طريقهم، فنحن لنا سلفنا كم الأئمة ولا نعرف أحدا منهم يقول: إن هذا بدعة، نعم لو قال: رب اغفر لي بين السجدتين (ثلاثا) فهذا بدعة، هذا هو الذي كان بعض العلماء المتأخرين رحمة الله عليهم يشدد فيه، أن تخصيص الثلاث لا أصل له، وأنه أقرب إلى البدعة من السنة، أما نفس الدعاء للوالدين والترحم على الوالدين فليس ببدعة.
ولذلك فإن طالب العلم الذي لا يفرق بين الأصول وبين المعاني المستنبطة من الأصول يقع في كثير من الأخطاء، فلابد أن نعلم أن الأصول يجب الوقوف عندها وعدم التقدم والتأخر عنها.
ومن أمثلة مسألة الأصل في العبادات: إذا رفع رأسه من الركوع، هل الأصل فيه الإرسال أو القبض؟ إذا نظرت إلى الأصل العام أنه لا يجوز أن يحرك العبد يده قابضا ولا أن يضع يده على وضع معين إلا بدليل، فهذا أصل عام يقتضي الوقوف على الإرسال حتى يدل الدليل على القبض كما دل صراحة عليه قبل الركوع، إذا قلت: يقبض يديه، نقول: الأصل الخاص في الصلاة أنه لما كبر ودخل في الصلاة وقرأ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه وضعها على صدره قبل الركوع، فقالوا: نستصحب ما قبل الركوع إلى ما بعد الركوع.
فهل قوله: (حتى رجع كل فقار إلى موضعه) يدل على أن المراد به القيام الخاص الذي قبل الركوع؟ هذا وجه؛ لأنه يرى أن الأصل في القيام القبض، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام وضع اليمنى على اليسرى، فلما رفع رأسه من الركوع قال الراوي: اعتدل قائما، هل اعتدل قائما كاعتداله الأول؟ لأن اعتداله قائما راجع إلى اعتدال معروف مألوف، فقالوا: يقبض.
والذين قالوا: (اعتدل قائما) قالوا: نتمسك بالأصل أن الاعتدال في ذاته يستلزم أن يرسل يديه لا أن يقبضهما، فالذي يقبض لا حرج عليه، والذي يرسل لا حرج عليه، فعندما تعرف الأصل، وتعرف أنه حتى الأصل الذي تستدل به له أصل آخر يعارضه وله وجهه يستطيع الإنسان أن يفهم قوله وأن يفهم قول من خالفه.
ولذلك وجدنا الأئمة والسلف رحمة الله عليهم يتناظرون ويختلفون وتؤلف الكتب، والله يا إخوان! إن من الواجب علينا أن نقرأ كتب العلماء المتقدمين ليس للعلم فقط بل لأدب العلم، تجد الرجل متمسكا بقول يعتقد أن الدليل قد دل عليه، وأن من يتبعه من الأئمة قد سار على حق وهدى فيقول: لا يجوز كذا وكذا لقوله تعالى كذا وكذا ووجه الدلالة كذا وقال الشافعي رحمه الله: يجوز، لا يقول: وخالف هذه السنة الشافعي، ولا يقيم الدنيا على الإمام الشافعي أو الإمام أبي حنيفة أو الإمام أحمد أو الإمام مالك أبدا، كانوا يعرفون قدرهم؛ لأن العالم يعرف قدر العالم، ومن عرف العلم يعرف أهله، ولا يعرف الفضل إلا أهله، ومن عرف مسالك العلماء عذر من خالفه، وعرف كيف أن من خالفه له حجة.
وثق ثقة تامة أنك لن تجد عالما يشنع على عالم عن ورود نص لقول ثان يستدل به من خالفه إلا وجدته يقع في نفس الأسلوب، ومن أمثلة ذلك مسألتنا: مسألة الاستثناء من الأصول، فتجد الشخص يتمسك بعموم ويشنع على من استثنى من العموم، ثم يأتي يرجح في مسألة ثانية ويستثني من هذا الأصل وتأتي لتفرق الاستثناءين فلا تجد فرقا، كما قال الإمام الشافعي: أبى الله أن يتم إلا كتابه: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء:82] .
فالبشر بشر، فلا يستطيع الإنسان أن يعرف العلم إلا إذا عرف الأصل، ومن فائدة معرفة الأصل: أنك إذا تمسكت بالأصل في مسألة ما، وجاءك شخص يريد أن يناظرك أو يناقشك ويعترض عليك تقول له: ما هو الأصل بيني وبينك، هل الأصل جواز هذا الأمر أو تحريمه؟ فإذا قال: الأصل جوازه، تقول: أعطني دليلا على حرمته، فنحن متفقون أو كل منا متفق مع الآخر على الحل فأعطني الدليل على التحريم، وقس على هذا سواء في العبادات أو المعاملات، لابد من معرفة الأصول، يبقى السؤال: كيف نعرف الأصول؟ هناك شيء يسمى: باب، وهناك شيء يسمى: مسألة، فهناك أصول للأبواب، وهناك أصول للمسائل، فأصول الأبواب مثلا تقول: البيع باب من أبواب المعاملات، النكاح باب من أبواب المعاملات، نفس البيع ينقسم إلى مسائل، وقد تجعل المسألة في البيع بمثابة الباب، يعني: تجعلها أصلا في البيع، لكن من حيث الأصل العام الباب الذي هو باب البيع تنظر إليه هل الشريعة أقرت هذا الباب على جهة العموم أو على جهة الخصوص؟ إذا أقرته على جهة العموم فهو أصل، وإذا أقرته على جهة الخصوص فهو مستثنى، فالبيع قال الله عز وجل فيه: {وأحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة:275] فأين العموم وأين الخصوص؟ نقول: العموم البيع والخصوص الربا، فالأصل حل البيع حتى يدل الدليل على تحريمه، ثم باب الربا نفسه باب خاص،
توضيح قول المصنف (وإن قال المشتري: بعني أو صالحني)
السؤال نرجو منكم توضيح قول المصنف: [وإن قال للمشتري: يعني أو صالحني] ؟
الجواب هناك عبارات في المتن لا نشرحها ولا نتوسع في شرحها؛ لأنها تقدمت معنا، فنحن قلنا: إذا قال: بعني أو صالحني، أنا ما نسيت العبارة ولا تركتها، لكن طالب العلم ينبغي أن يكون على درجة من الفهم والذكاء والضبط، ونحن دائما نقول: الضابط في هذه المسألة أن يأتي بشيء يدل ضمنا على الرضا، فإذا قال له: صالحني.
فمعناه أنك ما تصالح شخصا إلا وله حق، فلا يمكن أن تصالحه وهو لا حق له عندك، فإذا جاء وقال له: صالحني، معناه أنه اعترف أنه يملك هذا النصيب، فسواء قال له: بعني أو قال له: صالحني.
ومعنى (صالحني) ما أعطيك القيمة كاملة، فالصلح يقتضي أن يتفاوضا على ما دون القيمة، فمثلا: هو اشترى بمائة ألف يقول له: ما رأيك لو اصطلحنا على تسعين ألفا، أو على ثمانين ألفا؟ فهذا خلاف الأصل، وهذه فائدة قولنا: إن الشفعة ثبتت على خلاف الأصل، لماذا قال العلماء: إن الشفعة خارجة عن القياس؟ لأجل إذا جاءوا يدخلون مسائل غريبة نقول: إنها خلاف الشفعة الشرعية فتبطل، ومن المناقضات أن تجد الشخص يقول لك: الشفعة أصل، ثم إذا جاء إلى هذه المسألة يقول: لا يجوز وإذا قال: بعني أو صالحني سقطت الشفعة.
لماذا أسقطتها ما دام أنها هي أصل؟ لا تسقط إلا إذا قلت إنها مستثناة من الأصل، فلا تصح إلا بالصورة الواردة، والصورة الواردة أن يدفع تمام القيمة وأن يقول: أنا شافع ولا يقول: أنا مصالح ولا يقول: أنا مشتر، فإن قال: صالحني أو قال: بعني فقد اعترف ضمنا بسقوط حقه بالشفعة، وعلى هذا فإن هذه العبارة في المصالحة أو البيع أو قوله: أعطني إياها هبة أو تصدق علي، كل هذه تدل على سقوط الشفعة، فالأمر لا يختص بالبيع أو المصالحة، ونحن دائما نقول في المتون: ينبغي أن يعلم أن العلماء رحمهم الله إذا ذكروا القواعد ذكروا الأمثلة كضوابط يمكن لطالب العلم أن يلحق بها غيرها، وأن يعرف أصلها الذي بنيت عليه أو تفرعت منه، والله تعالى أعلم.