شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الوقف)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (391)
صـــــ(1) إلى صــ(12)
شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [2]
من الأهمية بمكان أن يدرك المسلم ما يلحقه من العمل بعد موته، والوقف هو مما يلحق ثوابه العبد بعد موته، وللوقف أركان لابد من الإحاطة بها، وكل ركن من هذه الأركان له شروط يجب تحققها حتى تتوفر الصفة الشرعية للوقف.
صيغ الوقف
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإن للوقف أركانا لابد من وجودها حتى يتحقق الوقف، ومن هذه الأركان: الصيغة.
والوقف يستلزم وجود الواقف، وهو الشخص المالك للشيء الموقوف، وهو الذي يصدر منه الوقف، وسيأتي إن شاء الله بيان هذا الركن.
فالركن الأول: الواقف، والركن الثاني: الشيء الموقوف، والمراد بالشيء الموقوف: المحل الذي يراد وقفه، سواء كان من المساجد أو غيرها، وسيذكر المصنف رحمه الله ما يتعلق بهذا الركن من أحكام.
الركن الثالث: الصيغة، وهي التي تشتمل على العبارة الموجبة للحكم بالوقف، وفي حكمها الأفعال، وقد تقدم أنها تنزل منزلة الأقوال في الدلالة على الوقف.
الركن الرابع: الموقوف عليه، كأن يوقف على أشخاص معينين؛ كأولاده وذريته، أو يوقف على شخص معين، كصديق له، أو على جهة معينة، كقوله للفقراء، أو لطلاب العلم، أو نحو ذلك ممن سيأتي إن شاء الله بيانه عند الحديث عن جهة الوقف العامة والخاصة.
إذا: لابد من وجود الواقف -الشخص الذي يملك الوقف- وصيغة تدل على الوقفية، ومحل يراد ويقصد وقفه، وموقوف عليه يكون له منفعة ذلك الوقف.
تعتبر صيغ الوقف غير الصريحة بأمور
قال رحمه الله: [وتشترط النية مع الكناية] الكناية لا يحكم بالوقف بها إلا بأحد ثلاثة أمور: الأول: أن ينوي في قرارة قلبه، ونحن لا نستطيع أن نكشف عما في ضمائر الناس، ولا نستطيع أن نطلع على ما في قلوبهم، فذلك أمره إلى الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، ولذلك قال تعالى: {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور * وحصل ما في الصدور} [العاديات:9 - 10] ، وقال: {إنه عليم بذات الصدور} [الأنفال:43] ، فهو وحده سبحانه الذي يعلم ما في قرارة النفوس، وما انطوت عليه القلوب، لكن لنا حكم الظاهر، فإذا تلفظ بهذا اللفظ المحتمل، فإننا نتوقف؛ لأن اللفظ المتردد يوجب التوقف، فكل ما تردد بين شيئين لم يجز لك أن تصرفه إلى شيء دون آخر يحتمله إلا بدليل.
ولذلك يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} [الحجرات:6] ، فلما كان خبر الفاسق مترددا بين كونه صدقا وبين كونه كذبا أوجب التوقف، فكل شيء متردد يوجب التوقف ما لم يقم الدليل على رجحان ظن من الظنون على بقيتها.
فإذا كانت ألفاظ الكناية محتملة فإنا نتوقف ونقول: هذا لفظ لا يدل على الوقفية صراحة.
اختصم إليك ورثة، وقال أحدهم: سمعت أبي يقول: سبلت مزرعتي، فقال بعضهم: هذا وقف، وقال بعضهم: قصد التسبيل في ذلك العام، نقول: إنه ليس من ألفاظ الوقف الصريحة ما لم يكن الميت قد صرح لهذا الذي يزعم الوقفية أنه قصد الوقفية؛ لأنه أمر متعلق بالنية، فإذا لم يصرح له فإنا نسأل: هل هناك لفظ آخر غير قوله: سبلت بمزرعتي؟ قال: ما قال إلا تصدقت بمزرعتي.
فنقول: هي صدقة في ذلك العام قطعا من حيث الأصل؛ لكن لا يحكم بوقفيتها على الدوام ما لم يصرح بنيته أو يوجد دليل آخر من اقتران لفظ، أو وجود حكم من أحكام الوقف الخاصة به، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فإن خلا لفظ الكناية عن هذه الثلاث فلا نحكم بالوقفية بمجرده؛ لأنه ليس بصريح.
قال رحمه الله: [أو اقتران أحد الألفاظ الخمسة] (أو اقتران أحد الألفاظ الخمسة) هذا الأمر الثاني، وهو أن يقترن بقوله: (داري صدقة موقوفة) ، فإنه لما قال (داري صدقة) لم يدل على الوقفية صراحة؛ إنما يدل دلالة محتملة، فلما قال (موقوفة) دل هذا على أنها وقف، وأن لفظ (صدقة) لما وصف بكونه وقفا أوجب الحكم بالوقفية.
وكذلك إذا قال: (داري صدقة مسبلة) ، (داري صدقة محبوسة) ، (داري صدقة مؤبدة) ، (صدقة محرمة) ، فهذه هي بقية الألفاظ الخمسة، وحينئذ فإننا نحكم بالوقفية.
فهذا هو الأمر الثاني، فإما أن توجد النية، وهذا يفتقر إلى أن يخبرك الشخص المتلفظ، أو يخبر العدلين حتى يحكم بذلك إذا لم يكن موجودا كالميت ونحوه.
أو يقترن بهذا اللفظ الذي هو من ألفاظ الكناية الثلاثة (تصدقت حرمت وأبدت) لفظ من ألفاظ الأوقاف سواء كان لفظا صريحا أو لفظ كناية؛ لأن الكناية مع الكناية عززت من المقصود وارتقت من الاحتمال إلى كونها أشبه بالصريح، فغلبت الظن بأنه قصد الوقفية، وحينئذ يحكم بكونه وقفا إذا اقترن بأحد الألفاظ الخمسة.
والمراد بذلك أنك إذا اخترت لفظا من ألفاظ الكناية بقيت خمسة ألفاظ، ثلاثة صريحة، واثنان منها كناية، فإذا قال: تصدقت، أو قال: حرمت، أو قال: أبدت؛ فإنه لابد أن يضيف إليها لفظا من هذه الألفاظ الخمسة الباقية.
قال رحمه الله: [أو حكم الوقف] هذا هو الأمر الثالث الذي نحكم بسببه بالوقفية إذا اقترن بالكناية، كأن يقول: (داري صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث) ، فالذي لا يباع ولا يوهب ولا يورث إنما هو الوقف، فإذا صرح بذلك فقد دل على أنه قصد بها صدقة الأوقاف، وأنه أراد تحبيسها وإيقافها، فيحكم بوقفها.
فلا يحكم بالوقف بلفظ الكناية إلا مع أحد ثلاثة أمور: أولها: النية، وهذا يفتقر إلى كلام الشخص نفسه، وإخباره أنه قصد الوقفية.
والأمر الثاني: اقتران لفظ من الألفاظ الخمسة الباقية.
والأمر الثالث: أن يقرن بلفظ الكناية حكما من أحكام الوقف، فيقول: (مزرعتي صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث) ؛ فإن هذا من اختصاص الوقف، ومن أحكام الوقف، فيكون ذكر هذا الحكم دالا على إرادته للوقفية فيحكم بكون الوقف ظاهرا، وحينئذ يكون لفظ الكناية بمثابة الصريح الموجب للوقفية.
صيغ الوقف غير الصريحة
ثم قال رحمه الله: [وكنايته: تصدقت وحرمت وأبدت] ابتدأ بالصريح لأنه أقوى وهذا من باب التدرج من الأعلى إلى الأدنى.
وقوله: (وكنايته) : من كن الشيء إذا استتر، ومنه الكن، وهو الشيء الذي يتقى به المطر، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما استسقى ونزل الغيث وفر الناس إلى الكن ضحك عليه الصلاة والسلام حتى بدت نواجذه وقال: أشهد أني رسول الله) ، صلوات الله وسلامه عليه.
فالكن أصله الاستتار، والكنايات ألفاظ تحتمل معنيين فأكثر، فإذا تلفظ بهذه الألفاظ احتمل أن يكون قصده الوقفية، واحتمل أن يكون قصده شيئا آخر مما يحتمله اللفظ.
وبناء على ذلك لا نحكم بالوقفية بمجرد تلفظه بهذه الألفاظ المحتملة؛ لأن الله جعل لكل شيء حقه وقدره، فما كان صريحا نعامله معاملة الصريح، وما كان محتملا سألناه عن نيته، أو يذكر لفظا أو حكما يوجب الدلالة على الوقفية.
قوله رحمه الله: (وكنايته) يعني: كناية الوقف.
وقوله: (تصدقت) : إذا قال: تصدقت بمزرعتي، فيحتمل أمرين، يحتمل أنه تصدق بثمرة هذه السنة للفقراء، ولا يقصد الصدقة الأبدية؛ لأن الوقف صدقته أبدية، ويحتمل أن يكون مراده الوقفية، فقوله: تصدقت بمزرعتي، يحتمل أنه يقصد الوقفية إلى الأبد.
فاللفظ محتمل ومتردد بين هذين المعنيين، فيسأل عن نيته، هل نويت حينما قلت: تصدقت بمزرعتي؛ الوقفية؟ إن قال: نعم.
حكمنا بالوقفية، وإذا قال: لم أنو الوقفية، لم نحكم بها، هذا بالنسبة لما بينه وبين الله عز وجل من نيته، لكن لو قال: تصدقت بمزرعتي وقفا لله عز وجل فحينئذ لا إشكال؛ لأنه إذا قرن بها واحدا من الألفاظ الخمسة فقد أكد إرادته للوقفية كما سيأتي.
وقوله: (وحرمت) التحريم يحتمل منع الإنسان نفسه من ذلك الشيء، كأن يقول: حرام علي أن آكل من مالي، حرام علي أن آكل من بستاني، حرام علي أن آكل طعامي، فهذا منهي عنه شرعا، لا يجوز للمسلم أن يحرم ما أحل الله له، ويجعله حراما؛ لأن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله.
وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تحلوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها) .
ولذلك قال تعالى لنبيه: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} [التحريم:1] ، وهذا كله يدل على أنه لا يجوز للمسلم أن يحرم ما أحل الله له؛ لكنه لو تلفظ بهذا اللفظ فقال: حرمت بستاني، احتمل أنه محرم لبستانه على نفسه، واحتمل أنه محرم لبستانه على أهله وولده وذريته وقرابته، واحتمل أن يكون محرما بستانه أن يباع، أو نحو ذلك من الاحتمالات.
واحتمل أن يكون مقصوده الوقفية، فيقول حرمت بمعنى أنه جعله محرما عليه كأنه خرج عن ملكيته؛ لأن الشيء إذا خرج من ملكيتك صار ممنوعا عليك، لا تستطيع أن تتصرف فيه كمال الأجنبي، فمن أوقف أرضا، أو أوقف عقارا أو منقولا، فقد أخرجه عن ملكيته فصار بالوقفية كالمحرم عليه.
فهو لفظ محتمل ويعتبر من ألفاظ الكناية، ولذلك لا يحكم بالوقفية بمجرد صدوره من المكلف.
قوله: (وأبدت) الأبد: مدى الدهر، ولا يتقيد بزمان، والوقف مبني على التأبيد، ومن شرطه التأبيد، فلا يصح أن يكون مؤقتا، وليس لأحد أن يقول: أوقفت داري شهرا، ولا يصح أن يقول: أوقفت مزرعتي سنة، فإذا كان الوقف من صفاته التأبيد، وقال: أبدت مزرعتي، احتمل أن يقصد الوقفية، واحتمل أن يقصد غير الوقفية من الأمور التي يحتملها هذا اللفظ، وقد تكون هناك احتمالات عرفية، وقد تكون هناك احتمالات لفظية.
فإذا قال: أبدت، فإنه لفظ متردد، ولا يدل على الوقفية صراحة، ومن هنا اعتبره العلماء من ألفاظ الكنايات، فلا نحكم بكونه وقفا حتى يضيف لفظا آخر مؤكدا لوقفيته، أو تكون هناك نية دالة على الوقفية، أو يقرن به حكما من أحكام الوقف فينصرف اللفظ إلى الوقفية.
صيغ الوقف الصريحة
شرع المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان الصيغة.
والصيغة القولية تنقسم إلى قسمين: فمن وقف وكان وقفه باللفظ فلا يخلو من أن يكون لفظه صريحا: وذلك يكون بعبارة لا تحتمل إلا معنى الوقف، أو كناية: أي بعبارة محتملة للوقف وغيره، فللصريح حكم، وللكناية حكم.
فقال رحمه الله: [وصريحه] الضمير عائد إلى الوقف والصريح هو الذي لا يحتمل معنى غير الوقف.
قوله: [وقفت] والأصل في الوقفية هذا اللفظ، يقول: وقفت بيتي، وقفت عمارتي، وقفت مزرعتي، فهذا صريح في الوقفية.
اللفظ الثاني [حبست] يقول: حبست مزرعتي صدقة للمساكين، حبست مزرعتي على ذريتي.
اللفظ الثالث: [سبلت] ، كقوله: سبلت كتبي لطلبة العلم، فقوله: وقفت أو حبست أو سبلت، هذه ثلاثة ألفاظ أجمع العلماء رحمهم الله على أنها صريحة في الوقفية.
ودليل كون هذه الألفاظ صريحة في الوقف السنة والإجماع، أما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمر بن الخطاب: (إن شئت حبست الأصل وسبلت الثمر) ، فاستخدم التحبيس وعبارة التسبيل، وبذلك نجد العلماء يطلقون على الأوقاف: الحبس، فيقال: ولا يجوز هذا إلا في الأحباس، أي الأوقاف.
فالتحبيس والتسبيل وردت بهما السنة، والوقف هو الأصل، ولذلك يدل على الوقفية لغة وعرفا، فإذا قال شخص: وقفت منزلي، وقفت داري؛ فإنه إذا ثبت بشاهدة العدلين عند القاضي أنه قال هذه الكلمة حكم بالوقفية، فلو قال: قصدت غير الوقفية لم يقبل قوله؛ لأنها صريحة في الدلالة على الوقفية، ففائدة اعتباره صريحا أنك تحكم بالوقفية دون أن تتوقف على لفظ آخر، أو على نية، أو على شيء يقرن به ذلك اللفظ حتى يحكم بالوقفية.
إذا صريح الوقف هذه الثلاثة الألفاظ، فمن قال: وقفت أو حبست أو سبلت، حكمنا بالوقفية، حتى قال بعض العلماء: إنها لا تفتقر إلى لفظ آخر حتى نحكم له بالوقفية، فصريح الوقف كصريح الطلاق، فإذا قال: طلقت زوجتي؛ حكمنا بالطلاق ولو قصد شيئا آخر، ما لم تقم بينة أو تقم قرينة دالة على أنه لا يريد الطلاق كما تقدم معنا في كتاب النكاح.
إذا هذه ثلاثة ألفاظ، دل على كونها صريحة دليل السنة والإجماع، وفائدة اعتبارها صريحة: أننا نحكم بالوقفية بمجرد صدورها عن المكلف دون افتقار إلى لفظ أو إلى حكم أو إلى نية.
وبعض العلماء يقول: إنه لو قال: وقفت، ولم يقصد الوقفية، ولم ينو الوقفية، وإنما قصد معنى آخر فإنه في الظاهر يحكم بالوقفية، لكن في الباطن لا تثبت الوقفية، كما لو قال: طلقت زوجتي، فإنها تطلق قضاء ولا تطلق ديانة كما تقدم معنا في كتاب النكاح.
فقال رحمه الله: [وصريحه: وقفت وحبست وسبلت] .
ما يشترط في الوقف
قال رحمه الله: [ويشترط فيه المنفعة دائما] شرع رحمه الله ببيان الشروط المتعلقة بالأوقاف، وشروط الأوقاف تنقسم إلى أقسام على حسب الأركان، فهناك شروط تتعلق بالشخص الواقف، وهناك شروط تتعلق بالشيء الذي يراد وقفه، وهناك شروط تتعلق بالجهة، أو بمن يوقف عليه.
أن يكون الوقف على جهة قربة
قال رحمه الله: [وأن يكون على بر، كالمساجد والقناطر والمساكين، والأقارب من مسلم وذمي، غير حربي وكنيسة ونسخ التوراة والإنجيل وكتب زندقة] في المثالين السابقين (كعقار وحيوان) العقار لا يزال إلى زماننا موجودا، والحيوان لا يزال إلى زماننا موجودا؛ ويدخل في حكم الحيوانات السيارات في زماننا، فلو أن شخصا أراد الخير، وأراد مرضاة الله عز وجل، فعلم أن هناك طلاب علم يفتقرون إلى وسيلة تنقلهم إلى مدارسهم، فأوقف سيارة لنقل طلاب العلم، أو طلبة التحفيظ، من أجل أن يحفظوا كتاب الله عز وجل في مسجد بعيد، فأوقف هذه السيارة من أجل نقلهم، أو أوقف سيارة لنقل المصابين والمرضى، كما في سيارات الإسعافات ونحوها، إن احتسب الأجر عند الله في مكان يفتقر إلى وجودها، فاشترى سيارة وقال هذه السيارة وقف لنقل المصاب والمريض، أو كانت في الجهاد في سبيل الله عز وجل لنقل المصابين، فهذه في حكم وقف الحيوان، يحبس الأصل التي هي رقبة السيارة، وتسبل منفعتها من الركوب عليها.
وقد يكون للواقف احتياط في بقاء العين كما سيأتي إن شاء الله، فالسيارة قد تحتاج إلى مئونة كالدابة فتسري عليها أحكام الدواب، فالدواب كانت تحتاج إلى علف وتحتاج إلى رعاية من بيطرة ونحوها إذا مرضت أو أصابها شيء، فبعضهم يحتاط فيجعل الرقبة متصدقا بها، ويجعل جزءا من منافعها يستغل بحيث يكون ما يستغل موجبا لدفع التكاليف التي يحتاج إليها، ويمكن أن يوقف أكثر من سيارة، فيجعل بعضها للاستغلال من أجل أن تبقى الرقاب، وبقية السيارات التي يقصد بها الرفق، سواء كانت في إسعاف المرضى والمصابين، أو كانت لنقل طلاب العلم، أو غير ذلك مما يقصد به وجه الله والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى.
هكذا لو كان له قرابة، ويحتاجون إلى سيارة يتنقلون بها، فقال لهم: هذه السيارة أوقفتها عليكم، فأوقفها على قرابته من أجل أن يرتفقوا ويقضوا عليها مصالحهم، فهذا يمكن أن يكون من وقف الخير والبر، ويثاب الإنسان عليه، ويكون صدقة وصلة رحم.
ونحو ذلك مما هو موجود في زماننا كالآلات، فالآلات مثلا يمكن أن توقف، كما في القديم كانت الآلات التي يجاهد بها من أسلحة القتال والجهاد في سبيل الله منها ما هو موقوف، وذكر العلماء في ذلك حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم للصدقة كما في الصحيحين فقال: منع خالد والعباس وابن جميل فقال صلى الله عليه وسلم: (وما تنقمون من خالد فإنه احتبس أدرعه ومتاعه في سبيل الله) ، فجعل الآلات الدروع التي يجاهد بها محبوسة، فدل هذا على جواز ومشروعية احتباس الآلات.
وفي زماننا لو حبس أي آلات ينتفع بها في مصالح المسلمين عامة كحفر القبور، وآلات يشق بها الطرقات كما هو موجود الآن عندنا في بعض الوسائل التي يستعان بها لتكسير الصخور، ولحفر الآبار، ولشق الطرقات، فهذا كله مما يمكن إيقافه، فيحبس الأصل وتسبل ثمرته ومنفعته، ويكون وقفا على من سماه الواقف.
قوله رحمه الله: [وأن يكون على بر] أي: ويشترط في صحة الوقف أن يكون على بر، والبر كلمة جامعة لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال، وأكثر ما يكون البر في الأفعال، ولذلك عممه الله سبحانه وتعالى، فجعل من البر ما يكون من الاعتقادات والأعمال الظاهرة، ومنه الإيمان بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وجعل من البر إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وجعل من البر الوفاء بالعهد، وجعل من البر الصدقة على المساكين وذوي القربى والمحتاجين.
فهذا معنى البر العام، ولذلك قرن الله سبحانه وتعالى البر بالتقوى، فجعل البر تقواه سبحانه وتعالى إشارة إلى عمومه وشموله لأصول الإسلام ومحاسنه، كما قال سبحانه وتعالى: {ولكن البر من اتقى} [البقرة:189] ، فجعل البار الكامل في بره من اتقى الله سبحانه وتعالى.
يتبع