فدل على أن البر من الألفاظ العامة الشاملة لما يحبه الله ويرضاه من الطاعات والقربات، سواء كانت من الأمور المتعلقة بالاعتقاد، وهي أفضل البر وأحبه إلى الله سبحانه وتعالى، كالإيمان به سبحانه وتوحيده، وحسن الظن به جل جلاله، ومحبته، وخشيته، والاستعانة به، والتوكل عليه ونحو ذلك من أعمال القلوب، أو كانت من الأعمال الظاهرة من شعائر الإسلام العظيمة كإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
فلو أوقف شيئا، وقصد به البر صح وقفه، وبعض العلماء يقول: على بر ومعروف، والمعروف أكثر ما يكون في الأقوال، ولذلك يقال: أمر بالمعروف، ويجعل بعض العلماء بين البر والمعروف عموما وخصوصا، وإذا أوقف على بر يشمل فإنه وقف المساجد من أجل الصلاة فيها، وإقامة حلق الذكر والمحاضرات والدروس، هذا كله من البر الذي يحبه الله ويرضاه.
كذلك أيضا لو أوقف كتبا يتعلم منها، ويستفاد منها، فهذه صدقة جارية تكون وقفا؛ لأنها على بر وعلى طاعة، كمن أوقف مصاحف يقرأ فيها الناس، ويتعلم أو يحفظ منها طلاب العلم، فإن أوقفها على مدرسة فغالبا ما تكون للحفظ، أو أوقفها على مسجد، فغالبا ما تكون للقراءة، وهذا كله من البر.
كذلك يوقف بقصد الصلة للرحم، كأن يوقف على قرابته، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
فقوله رحمه الله: (أن يكون على بر) يعني يكون الوقف على بر، مفهوم ذلك أن الوقف لا يكون على معصية، فإذا أوقف على معصية الله عز وجل، فإنه وقف ممنوع، وليس بوقف مشروع.
ومن هنا مثل العلماء رحمهم الله بوقفية آلات اللهو والمعازف، وكذلك الوقف على المعاصي، مثل قطع الطريق وإخافة الآمن، ونحو ذلك مما فيه ضرر على المسلمين عامهم أو خاصهم، فلا يجوز مثل هذا، وليس من الوقف الشرعي، بل هو وقف محرم ولا يعتد به.
قوله رحمه الله: [كالمساجد] فإن المساجد تعتبر من أبر البر، وأعظم ما يكون من طاعة الله عز وجل بعد توحيده أن يقيم المسلم صلاته، والمساجد محل لإقامة الصلاة وذكر الله عز وجل، فالوقف عليها فيه أجر عظيم وثواب كبير، ثم يختلف البر في المساجد، فالبر في المساجد التي تقام فيها الجمعة أعظم من البر في المساجد التي تكون فيها الجماعات، مساجد الجمعة والجماعات أفضل من مساجد الجماعة فقط؛ لكن بعض العلماء يقول: مساجد الجماعة قد تكون أفضل من مساجد الجمعة من وجه، وهذا في أحوال خاصة؛ كأن يبني مسجدا في حي مكتظ بالناس يصلون فيه، ويمتلئ المسجد في الصلوات الخمس.
فإذا حسبت ما يكون طيلة الأسبوع من الفروض الخمس مقرونا بمسجد تقام فيه الجمعة والجماعة، ولكن العدد قليل فقد يفوقه في الأجر من هذا الوجه، لكن هذا فيه نظر كما قال بعض مشايخنا رحمة الله عليه، وذلك أن الجمعة من حيث الأصل لها فضيلة، وصلاة الجمعة مفضلة بتفضيل الله عز وجل ليومها ولهذه الشعيرة، فوجود الفضل الخاص لها يعطي مزية في الوقف على مسجد مشتمل على المعنى العام، وهي في الصلوات الخمس دون هذه المزية الخاصة.
فلا نستطيع أن ننزل الصلوات الخمس منزلة الجمعة من هذا الوجه، حتى إن بعض العلماء كان يرى أنها الصلاة الوسطى كما ذكرنا في الخلاف في تعيين الصلاة الوسطى، وإن كان الصحيح أنها صلاة العصر؛ لكن الشاهد أن الله سبحانه وتعالى فضل الجمعة وخصها بخصائص، فإذا أوقف على مسجد فيه جمعة وجماعات، فذلك أفضل من الإيقاف على مسجد فيه جماعة فقط.
ثم ينبغي على من يوقف على المسجد أن يراعي أمورا تزيد في الخير والبر؛ فمثلا: إذا كان في موضع لا يدري هل يبقى أهله على الإسلام أو لا، أو أهله مقصرون في الصلاة، فليس مثل أن يكون بمثل موضع عرف أهله بالمحافظة على الصلوات ويغلب على الظن بقاء المسجد دهرا طويلا.
فوقفية المساجد في الأماكن التي يستقر فيها الإسلام، ويكون الناس حريصين فيها على الصلوات أفضل، وكذلك في الأماكن النائية حيث الحاجة شديدة، كالبوادي ونحوها، حيث يكون الخير فيهم أكثر، والأجر فيهم أعظم مما لو أوقف في مكان لا يضمن أن أهله ينتكسون عن الإسلام أو يتحولوا عن الموضع الذي هم فيه، فتتفاضل المساجد بحسب ما يكون فيها من الخير والبر.
ثم أيضا إذا أوقف على المسجد، وكان أهله حريصين على ذكر الله وإقامة المحاضرات ومجالس الذكر، والجلوس في المسجد أكثر من غيرهم، فالوقف على أمثال هؤلاء أفضل من الوقف على غيرهم.
وقال بعض مشايخنا رحمة الله عليهم: إن الوقفية في الأماكن المفضلة أفضل من الوقفية في الأماكن المفضولة، فالمسجد في مكة والمدينة أفضل من غيرهما، فإن وقفية المسجد في الحرمين ليس كوقفية المسجد في غيرهما، وهذا راجع إلى التفضيل بالمكان؛ لأنه مزية فضل، ويقولون: إن هذا أعظم في أجره وأفضل مما لو صرفه في غيره.
وقوله: (والقناطر) أي: بناء القناطر، وكانوا في القديم يحتاجون، القناطر تكون لمجرى الماء، كانوا يبنون القناطر للمياه يستقي منها الناس، ويسقون منها مزارعهم، ويسقون منها دوابهم، فهذه القناطر تكون مسبلة على عموم المسلمين، غالبا ما تكون الوقفية فيها على عموم المسلمين، فالأجر فيها أعظم، كالمساجد تكون على عموم المسلمين، ولا تختص بطائفة ولا بجنس، وغالبا ما تكون على عموم المسلمين مثلما كان في بعض المدن الإسلامية تجري الأنهار في داخلها، فوجود القناطر تحفظ المياه وتصونها، وجري الماء في القنطرة يسهل وصوله إلى الناس.
وربما احتاجت القنطرة إلى بناء فبناها وأوقفها، فهذا لا شك أنه أفضل وأعظم أجرا، وتتفاضل القناطر أيضا بحسب ما يكون منها من النفع، فالقناطر التي ينتفع بها العامة، ويستقي منها الناس، وتسقى منها المزارع والدواب، ليست كالقناطر الخاصة التي تكون منحصرة، فالقناطر متفاوتة في الفضل بحسب ما يكون منها من الخير والبر.
قوله: (والمساكين) : لأن المساكين يكون البر من جهة الرفق بهم؛ لأن الإحسان إلى المساكين والإنفاق عليهم من البر، فهذا تعبير بالشخص الذي يعطى، أو بالمحل الذي يوقف عليه، وقد تكون (المساكن) ؛ أي: (كالمساجد والقناطر والمساكن) ؛ لأن المساكن يؤوى إليها، فمثل بالمساجد التي فيها منافع دي
وجود المنفعة مع بقاء العين الموقوفة
فقال رحمه الله: [ويشترط فيه المنفعة دائما] (ويشترط فيه) يعني: في محل الوقف، فلا يقع الوقف على شيء إلا إذا استوفى شروطا، ولا نحكم بوقفية كل شيء، وبعبارة أخرى أن الوقف يختص بأشياء دون أشياء.
وبناء على ذلك يرد
السؤال ما هي الأشياء التي يمكن وقفها؟
الجواب كل عين فيها منفعة قابلة للانتقال بالتمليك، ودائمة لا تفوت العين بها.
فلما قلنا: كل عين، خرجت المنافع؛ لأن الأشياء أعيان ومنافع، فالعين هي الرقبة مثل الدار والمزرعة، فكل عين لها منفعة يمكن أن يتعلق الوقف بالعين، ويمكن أن يتعلق بالمنفعة، فإذا تعلق بالعين تبعت المنفعة العين، وأما إذا تعلق بالمنفعة فإن هذا لا يستلزم وقفية العين.
وبناء على ذلك فالوقف لا يصح إلا إذا كان بالعين، فلا يتعلق الوقف بالمنافع، ومن أمثلة المنافع السكنى، فلو أن شخصا ملك منفعة دار شهرا، كأن يستأجر عمارة لمدة شهر، أو يستأجر عمارة سنة، أو يستأجرها عشر سنوات، ثم قال: أوقفت هذه المنفعة عشر سنوات على طلاب العلم؛ فإنه لا يصح؛ لأن الوقف لا يتعلق بالمنافع.
ولذلك يشترط في محل الوقف أن يكون من الأعيان لا من المنافع، وهكذا لو قال: أوقفت الركوب على الدابة، فلا يصح، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم مشيرا إلى هذا الشرط: (إن شئت حبست الأصل وسبلت الثمر) ، فجعل المنفعة تابعة للعين وجعل الوقفية متعلقة بالعين.
ثانيا: أن تكون هذه العين مشتملة على منفعة لا تفوت بفواتها لو تعلقت الوقفية بها، فإذا أوقف عينا ولها منفعة وكانت المنفعة لا تتحقق إلا بذهاب العين لم تصح الوقفية، ومن أمثلة ذلك أن يوقف طعاما على فقير فإن انتفاع الفقير بالطعام لا يمكن أن يكون إلا بالأكل، وحينئذ تكون منفعة الموقوف مفضية إلى ذهاب عين الموقوف.
ولا يصح الوقف على هذا الوجه، فلا يصح وقف الطعام على هذا الوجه؛ لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا بذهاب عينه، والنبي صلى الله عليه وسلم عبر في الوقف بعبارتين (إن شئت حبست الأصل وسبلت الثمر) ، فلو قلنا بصحة وقفية الطعام ووقفية الأعيان التي تذهب بالانتفاع بها، فإن هذا يناقض الوقف؛ لأن الوقف حبس الشيء: (إن شئت حبست الأصل) ، وهو إذا قال أوقفت هذا الطعام صدقة على المسكين؛ فإن انتفاع المسكين مفتقر إلى فوات الطعام، والوقف حقيقته أن يبقى الأصل محبوسا، فلا تتحقق الوقفية، ولا يمكن أن يكون الطعام باقيا؛ لأنه يستنفد ويستهلك بالأكل.
ومن هنا تخرجت أيضا مسألة وقفية الدراهم والدنانير، كأن يقول: هذه مائة ألف وقف على الفقراء والمساكين، فهذا لا يصح؛ لأن الذهب والفضة لا يصح وقفها في قول عامة أهل العلم كما حكاه الإمام ابن قدامة رحمه الله وغيره، فذكر أن وقف الأثمان لا يصح، لأنه لا يمكن أن ينتفع بالذهب والفضة إلا بالشراء وبذلها، فإذا منفعتها موجبة لذهاب عينها، والوقف يستلزم بقاء العين.
فصار هناك تناقض بين حقيقة الوقف ووجود الثمرة والمقصود من التحبيس والوقفية، ومن هنا لا بد وأن تكون العين باقية، وألا يكون الانتفاع بهذه العين موجبا لفوات العين، إلا أن بعض العلماء استثنى من الذهب والفضة أن يكون من الحلي كالأسورة والقلائد ونحوها، فقال: يصح وقفية الحلي يعار للضعفاء والفقراء يتجملون به ويلبسونه، فهذا يخفف فيه بعض العلماء فيقول ستبقى القلادة، فحقيقة الوقفية منضبطة؛ لأن القلادة ستبقى، والمنفعة بالتزين ممكنة، وهذه مسألة لها أصل تقدم في مسألة إجارة الحلي، وأيا ما كان من حيث الأصل لا تصح وقفية الدراهم والدنانير، فلو قال: هذه مائة ألف وقف لم تصح وقفيتها.
وهنا مسألة انتشرت في بعض البلدان الإسلامية، ويوجد من يفتي بها وهي مسألة عجيبة، يقولون: يمكن للغني بدل أن يعطي الفقراء والضعفاء أموال الزكاة، قال بعض المتأخرين والباحثين بأنه يجوز أن تؤخذ هذه الزكاة وتبنى بها عمائر، أو تبنى بها محلات تجارية قبل إعطائها للفقراء ثم يؤخذ ريع هذه العمائر ويتصدق به على الفقراء.
يقول: هذا أفضل من أن نعطيهم النقود لأنهم يضيعونها أو يتلفونها، ثم إن هذا استثمار يدر عليهم أرباحا أكثر وأفضل مما لو أخذوا هذا المال، وهذه فتوى باطلة، لا تستند لاجتهاد صحيح؛ لأن الزكاة حق في المال للفقراء ومن سمى الله من أهل الزكاة كما قال تعالى: {وفي أموالهم حق معلوم} [المعارج:24] ، فهذا يدل على أن الزكاة حق للمسكين، وإذا كانت حقا للمسكين؛ فإن بناء العمارة بها، أو شراء الأرض من أجل بناء العمائر عليها، أو ما يستغل أو يستثمر يفتقر إلى وجود الإذن من المالك، والفقير ما فوض الغني بأن يبني له، ولم يفوضه أن يقوم بهذا الاستثمار، فحينئذ يبنيها الغني على ملكه، ويصبح فعله هذا معطلا للزكاة، ولا يترتب عليه ملكية المساكين وأهل الزكاة لهذا المال.
ثم إذا قلنا: إنها حق لمن سمى الله عز وجل من أهل الزكاة فمن الذي يستحق هذه العمائر من الأصناف الثمانية، ومن الذي تكون له هذه الاستثمارات؟ فمثل هذه الاجتهادات التي لا تستند إلى أصول صحيحة، ولا تتفرع على أصول علمية ذكرها العلماء والأئمة؛ فإنه لا يعول عليها، ولا يلتفت إليها وهي باطلة.
فالشاهد من هذا أنه لا تصح وقفية الدراهم والدنانير؛ لأنه لا يمكن الانتفاع بها إلا بذهاب عينها؛ فإذا لا يمكن أن تبقى وقفا، وإذا انتفع بها تعطلت الوقفية، وإذا بقيت وحبست امتنعت عن المنفعة، فأصبح الأمر متناقضا، ولذلك قال العلماء رحمهم الله: لا تصح وقفية الأثمان ولا المطعومات ولا الرياحين، ومثلوا بالرياحين؛ لأنها تشم وتعصر فإذا شمت تلفت وفسدت وذهب ما فيها من النكهة والرائحة، وإذا عصرت أيضا فسدت، فالمنفعة فيها موقوفة على إتلاف عينها، فلا تصح وقفيتها من هذا الوجه.
قال رحمه الله: [ويشترط فيه المنفعة دائما من عين ينتفع به مع بقاء عينه] (دائما) لأن الوقف على التأبيد، وذلك كما أشرنا إلى أن الوقفية لا تصح مؤقتة، فلو قال: أوقفت داري شهرا، أو أوقفت مزرعتي سنة، فإن هذا لا يصح؛ لأن الوقف المؤقت باطل، فلابد وأن يكون الوقف على التأبيد، ولذلك يذكر العلماء من شروط صحة الوقف أن يكون على التأبيد.
فإذا كان الوقف على التأبيد فهو أن تبقى العين غالبا، وأن يكون تحبيسها وإيقافها إلى الأبد.
قال رحمه الله: [كعقار وحيوان] (كعقار) أي كما لو أوقف عقارا، كأن يوقف عمارة، أو يوقف بيتا، ويجعله مسكنا للأيتام والأرامل والمحتاجين، أو يوقف عمارة على طلاب العلم، أو على أهل العلم يأخذون ثمرتها وغلتها، فإذا أوقفها على طلاب العلم من أجل أن يسكنوا فيها كما في الأربطة فلا إشكال، ويكون استحقاقه من جهة السكن، وإذا أوقفها على أهل العلم على أنها تستغل ويكون لأهل العلم أخذ غلتها، فهذا شيء آخر، فيقسم نتاج الأجرة كما هو معلوم.
[كعقار وحيوان] وقوله: (كعقار وحيوان) مثل رحمه الله بالعقار والمنقول، والحيوان مثل الإبل والبقر والغنم، بأن يوقف الدابة ويوقف منافعها، يحبس الأصل ويسبل الثمرة، وإذا سبل الثمرة في البهيمة، فإما أن يسبل ركوبها مثل البعير يجعله للركوب في سبيل الله عز وجل، سواء للجهاد في سبيل الله، كأن يقاتل عليه ويجاهد في سبيل الله عز وجل، وكذلك الفرس لو أوقفها في سبيل الله عز وجل، وتكون البهيمة محبسة الأصل مسبلة الثمرة أيضا بأن يتصدق بحليبها، فيجعل حليبها كما في البقرة أو في الشاة، يحبس أصلها ويجعل حليبها صدقة للضعفاء والفقراء.
الأسئلة
مسح البول دون غسله
السؤال إذا أصاب البدن بول ثم مسح بالمنديل ونسي الغسل ولم يذكر إلا بعد الصلاة فما الحكم؟
الجواب الطهارة بالماء في غير القبل والدبر لازمة، ولا تحل الطهارة بالتراب أو الحجر ونحوه من الطاهرات محل الماء في تطهير البدن أو الثوب أو المكان إذا أصابته النجاسة، إلا في مسألة واحدة ذكرها بعض العلماء وهي أن يصيب الثوب نجاسة وليس عنده ماء فقالوا: يشرع أن يتيمم لهذه النجاسة التي عليه.
هذا قول بعض العلماء، ويجعل الطهارة الترابية بدلا عن طهارة الماء، أما من حيث الأصل فالذي دل عليه الأصل أن الطهارة من النجاسة لا تكون إلا بالماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: (اغسلي عنك الدم وصلي) ، فقال: (اغسلي) ، وجعل تطهير النجس بالغسل، فهذا هو الأصل أنه يجب الغسل.
والماء أصل لحديث أنس في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن بول الأعرابي: (أريقوا عليه سجلا من ماء) ، ولم يجعل نشاف البول، ولا تبخره بالشمس موجبا للحكم بطهارة الموضع، خلافا للحنفية الذين يقولون إنه يمكن إذا ظهرت عليه الشمس فتبخرت النجاسة أن يحكم بطهارة المكان.
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور أنه لابد من الغسل، وإذا ثبت هذا فالمنديل لا يعتبر مطهرا إلا في القبل والدبر إذا خرجت منهما نجاسة، فيعتبر في حكم الاستجمار؛ لأن الاستجمار يجوز بكل طاهر ما عدا العظم والروث، ونحوه من المحترمات، وكذلك ما لا ينقي.
فإذا أنقى بالمنديل في القبل والدبر حكمنا بالجواز، بشرط أن لا يتجاوز الخارج الموضع والصفحتين فإذا تجاوز وجب الغسل، هذا من حيث الأصل.
أما بالنسبة للمسألة المذكورة أنه أصابته النجاسة فمسحها بالمنديل ثم نسي غسلها ثم صلى، فأصح أقوال العلماء في هذه المسألة أن صلاته صحيحه إذا لم يتذكر إلا بعد السلام والفراغ من الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في نعليه وكانت فيهما نجاسة، فأتاه جبريل فأخبره أنهما ليستا بطاهرتين، فخلعهما عليه الصلاة والسلام ولم يعد الصلاة من أولها، فبنى على ما مضى، فدل على أن الكل إذا تم دون علمه أنه معذور وصلاته صحيحة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نتاج الدابة هل يعتبر تابعا للأصل
السؤال من أوقف دابة فهل نتاجها وما في بطنها يعتبر وقفا، وهل يعتبر النتاج من الأصل أم من المنفعة؟ أثابكم الله.
الجواب هذا يرجع فيه إلى شرط الواقف، وسيأتي التفصيل فيه، فإذا أوقف دابة قد يسبل ركوبها، ولا يسبل حليبها، وقد يسبل الدابة بحليبها وثمرتها؛ لكن الأصل أن الثمرة تتبع العين، وإذا سبلها على أن تكون منافعها كلها تابعة لها فلا إشكال، وتكون على المصرف الذي حدده.
فلو قال مثلا: أوقفت هذه الدابة على أن حليبها يباع، وينفق عليها من حليبها، فحينئذ تكون الوقفية مختصة بالركوب ولا تشمل الشراب، وقد يقول: أوقفت هذه الدابة يشرب من حليبها، ولكن يستغل ظهرها من أجل أن ينفق عليها بقدر الحاجة أو النفقة عليها.
فالمقصود أن هذا يختلف باختلاف شرط الواقف، ويتقيد في حكمه بشرط الواقف، والله تعالى أعلم.
تجزؤ الوقف
السؤال إذا كانت لدي دار فهل يجوز أن أسكن في دور وأوقف باقي الأدوار؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، فأجاز بعض العلماء أن يوقف من الدار علويها، وأن يبقي أسفلها على الأصل، وممن اختار هذا القول الإمام النووي رحمه الله كما نص عليه في الروضة، وأشار إلى أنه وجه عند الشافعية رحمهم الله.
فبناء على ذلك يرتفق بالأسفل منها ويوقف أعلاها، وقال بعض العلماء: إن أسفل الدار حكمه حكم أعلاه وأعلى الدار حكمه حكم الأسفل، ولا يمكن أن نحكم بالوقفية باختصاص الأعلى دون الأسفل ولا العكس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين) ، فجعل أسفل الشيء تابعا لأعلاه؛ ولأن الإجماع منعقد على أن من اعتكف في مسجد فصعد إلى سطوحه أنه لم يخرج عن المسجد؛ فدل على أنها سارية إلى الأعلى كما أنها ثابتة في الأسفل، ولذلك صح الطواف بالدور الثاني من بناء البيت، وصح الطواف على سطح المسجد الحرام؛ لأن أسفل الشيء وأعلاه في حكم واحد من هذا الوجه، إذا ثبت هذا فلا يصح أن تقول إن الأعلى موقوف دون الأسفل، أو الأسفل دون الأعلى.
ومن هنا تتخرج مسألة ما إذا بنى مسجدا، وجعل تحته أماكن للاستغلال، أو جعل فوقه سكنا يستغل، فإذا قيل إن أسفل المسجد وأعلاه حكمه واحد، وهو الصحيح والأقوى من حيث الأصول؛ فإن هذا يمنع، ولا يمكن أن تكون أسافل المساجد لا حرمة لها كأعلاها، ولا أن يكون أعلاها خاليا من الحرمة كأسفلها.
ولذلك فالأشبه بمثل هذا أن الحكم للأعلى والأسفل، ومن هنا نبهنا على مسألة شراء الشقق، فإن الشقة إذا اشتريت، وهي في الدور الثاني فإن هذا يوجب السؤال إذا كان الأصل أن فضاء الشيء تابع لأسفله فحينئذ تصبح الشقة تابعة للأسفل.
فلو قلنا: إنه بنى دارا من شقتين في كل دور شقة؛ فلن يتحقق تقسيم الأرض بينهما؛ لأن الذين يبيعون الشقق يبنون فوق هذه الشقة أدوارا أخرى، ويبيعون الشقق، والمالك الحقيقي يقول: بعتك الشقة فقط أنا ما بعتك سطح الشقة، فهو مالك لسطحها، فإذا بنى عليها سيبيع ذاك الذي بناها، ثم يبني عليها آخر ويبيع الذي عليه.
لكن لو أنه اشترى الشقة على أنه مشتر لنصف البيت، وأن هذا البيت بينهما فإنه يصح، ولا ينصب البيع على الشقة؛ ولكن يقول: أشتري منك هذه العمارة نصفها بمليون على أننا نقسم قسمة مهايا، يسمونها قسمة المهايا كما يقع بين الوارثين ونحوهم، تكون الشقة العليا لك والسفلى لي أو العكس؛ فحينئذ لا يكون الملكية لعين الشقة، وإنما تكون قسمة مهايا.
فالمقصود أن مسألة العلوي تابع للسفلي مسألة مهمة جدا، لا يمكن أن نفرق فيها في الأحكام، فتارة نقول المعتكف لا يبطل اعتكافه إذا صعد إلى سطح المسجد؛ لأن أعلى المسجد من المسجد، ثم نقول يصح أن يوقف أعلى المسجد دون أسفله، فهذا تناقض، فإما أن يقال بأن الفضاء تابع للأسفل عموما، والأسفل يتبع علويه كما في البدروم أو نحوه، وإما أن يقال بالتفصيل، أما من تناقض في مسائل العبادات نعطيه حكما، وفي مسائل المعاملات نعطيه حكما فهذا ليس من الفقه.
إنما الفقه أن يبنى على أصل واحد، وانتزعنا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين) ، فقه هذا الحديث، جعل العلماء أسفل الأرض كأعلاها لأنه جعل العقوبة عليه مضاعفة بما يساوي الأرض كلها قال: (من سبع أراضين) ، فمع أنه اغتصب في الأرض العلوية، لكنه عذب بما سفل؛ لأنه من ملك الأعلى ملك الأسفل.
ولأن الإجماع منعقد على أنك إذا ملكت أرضا فمن حقك أن تحفر فيها، حتى لو استطعت أن تصل إلى الأرض السابعة؛ لأن هذا ملك لك، فإذا لا نستطيع أن نقول: إنه يملك أعلى الأرض وأسفلها، ثم نقول بجواز وقفية أعلاها دون أسفلها أو العكس، فهذا تناقض.
ولذلك فالأشبه أنه لا يكون المسجد إلا موقوفا كله أسفله وأعلاه، وتكون الحرمة لأعلاه كأسفله، ولا يجوز -بناء على هذا- أن تكون دورات المياه أسفل منه؛ لأنه في هذه الحالة كالمصلي فوق الحمام، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في الحمام، وإذا كان علوي الشيء كسفليه فحينئذ لا يتأتى.
فتقاس على هذه المسائل كلها ويقرر الأصل على هذا الوجه الذي يفهم من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الأقوى والأولى، والله تعالى أعلم.