
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء العاشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة
الحلقة (543)
صــ 146 إلى صــ 160
القول في تأويل قوله عز ذكره ( ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه )
قال أبو جعفر : يقول عز ذكره : يهدي الله بهذا الكتاب المبين من اتبع رضوان الله إلى سبل السلام وشرائع دينه "ويخرجهم" ، يقول : ويخرج من اتبع رضوانه و"الهاء والميم" في : "ويخرجهم" إلى من ذكر "من الظلمات إلى النور" ، يعني : من ظلمات الكفر والشرك ، إلى نور الإسلام وضيائه "بإذنه" ، يعني : بإذن الله جل وعز . و"إذنه" في هذا الموضع : تحبيبه إياه الإيمان برفع طابع الكفر عن قلبه ، وخاتم الشرك عنه ، وتوفيقه لإبصار سبل السلام .
[ ص: 146 ] القول في تأويل قوله عز ذكره ( ويهديهم إلى صراط مستقيم ( 16 ) )
قال أبو جعفر : يعني عز ذكره بقوله : "ويهديهم" ، ويرشدهم ويسددهم "إلى صراط مستقيم" ، يقول : إلى طريق مستقيم ، وهو دين الله القويم الذي لا اعوجاج فيه .
القول في تأويل قوله عز ذكره ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم )
قال أبو جعفر : هذا ذم من الله عز ذكره للنصارى والنصرانية ، الذين ضلوا عن سبل السلام واحتجاج منه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في فريتهم عليه بادعائهم له ولدا .
يقول جل ثناؤه : أقسم ، لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم و"كفرهم" في ذلك تغطيتهم الحق في تركهم نفي الولد عن الله جل وعز ، وادعائهم أن المسيح هو الله فرية وكذبا عليه .
وقد بينا معنى : " المسيح " فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . .
[ ص: 147 ] القول في تأويل قوله عز ذكره ( قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا )
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه ، لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد ، للنصارى الذين افتروا علي ، وضلوا عن سواء السبيل بقيلهم : إن الله هو المسيح ابن مريم : "من يملك من الله شيئا" ، يقول : من الذي يطيق أن يدفع من أمر الله جل وعز شيئا ، فيرده إذا قضاه .
من قول القائل : "ملكت على فلان أمره" ، إذا صار لا يقدر أن ينفذ أمرا إلا به .
وقوله : " إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا " ، يقول : من ذا الذي يقدر أن يرد من أمر الله شيئا ، إن شاء أن يهلك المسيح ابن مريم ، بإعدامه من الأرض وإعدام أمه مريم ، وإعدام جميع من في الأرض من الخلق جميعا .
يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء الجهلة من النصارى : لو كان المسيح كما تزعمون أنه هو الله ، وليس كذلك لقدر أن يرد أمر الله إذا جاءه بإهلاكه وإهلاك أمه . وقد أهلك أمه فلم يقدر على دفع أمره فيها إذ نزل ذلك . ففي ذلك لكم معتبر إن اعتبرتم ، وحجة عليكم إن عقلتم : في أن المسيح ، بشر كسائر بني آدم ، وأن الله عز وجل هو الذي لا يغلب ولا يقهر ولا يرد له [ ص: 148 ] أمر ، بل هو الحي الدائم القيوم الذي يحيي ويميت ، وينشئ ويفني ، وهو حي لا يموت .
القول في تأويل قوله عز ذكره ( ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء )
قال أبو جعفر : يعني تبارك وتعالى بذلك : والله له تصريف ما في السماوات والأرض وما بينهما يعني : وما بين السماء والأرض يهلك من يشاء من ذلك ويبقي ما يشاء منه ، ويوجد ما أراد ويعدم ما أحب ، لا يمنعه من شيء أراد من ذلك مانع ، ولا يدفعه عنه دافع ، ينفذ فيهم حكمه ، ويمضي فيهم قضاءه لا المسيح الذي إن أراد إهلاكه ربه وإهلاك أمه لم يملك دفع ما أراد به ربه من ذلك .
يقول جل وعز : كيف يكون إلها يعبد من كان عاجزا عن دفع ما أراد به غيره من السوء ، وغير قادر على صرف ما نزل به من الهلاك؟ بل الإله المعبود الذي له ملك كل شيء ، وبيده تصريف كل من في السماء والأرض وما بينهما .
فقال جل ثناؤه : "وما بينهما" ، وقد ذكر"السماوات" بلفظ الجمع ، ولم يقل : "وما بينهن" ، لأن المعنى : وما بين هذين النوعين من الأشياء ، كما قال الراعي :
[ ص: 149 ]
طرقا ، فتلك هماهمي ، أقريهما قلصا لواقح كالقسي وحولا
فقال : "طرقا" مخبرا عن شيئين ، ثم قال : "فتلك هماهمي" ، فرجع إلى معنى الكلام .
وقوله : "يخلق ما يشاء" ، يقول جل ثناؤه : وينشئ ما يشاء ويوجده ، ويخرجه من حال العدم إلى حال الوجود ، ولن يقدر على ذلك غير الله الواحد القهار . وإنما يعني بذلك أن له تدبير السماوات والأرض وما بينهما وتصريفه ، وإفناءه وإعدامه ، وإيجاد ما يشاء مما هو غير موجود ولا منشإ . يقول : فليس ذلك لأحد سواي ، فكيف زعمتم ، أيها الكذبة ، أن المسيح إله ، وهو لا يطيق شيئا من ذلك ، بل لا يقدر على دفع الضرر عن نفسه ولا عن أمه ، ولا اجتلاب نفع إليها إلا بإذني؟
[ ص: 150 ] القول في تأويل قوله عز ذكره ( والله على كل شيء قدير ( 17 ) )
قال أبو جعفر : يقول عز ذكره : الله المعبود ، هو القادر على كل شيء ، والمالك كل شيء ، الذي لا يعجزه شيء أراده ، ولا يغلبه شيء طلبه ، المقتدر على هلاك المسيح وأمه ومن في الأرض جميعا لا العاجز الذي لا يقدر على منع نفسه من ضر نزل به من الله ، ولا منع أمه من الهلاك .
القول في تأويل قوله عز ذكره ( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم )
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله جل وعز عن قوم من اليهود والنصارى أنهم قالوا هذا القول .
وقد ذكر عن ابن عباس تسمية الذين قالوا ذلك من اليهود .
11613 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضاء وبحري بن عمرو ، وشأس بن عدي ، فكلموه ، فكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته ، فقالوا : ما تخوفنا ، [ ص: 151 ] يا محمد !! نحن والله أبناء الله وأحباؤه!! كقول النصارى ، فأنزل الله جل وعز فيهم : "وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه" ، إلى آخر الآية .
وكان السدي يقول في ذلك بما :
11614 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه " ، أما "أبناء الله" ، فإنهم قالوا : إن الله أوحى إلى إسرائيل أن ولدا من ولدك أدخلهم النار ، فيكونون فيها أربعين يوما حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم ، ثم ينادي مناد : أن أخرجوا كل مختون من ولد إسرائيل ، فأخرجهم . فذلك قوله : ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ) [ سورة آل عمران : 24 ] . وأما النصارى ، فإن فريقا منهم قال للمسيح : ابن الله .
والعرب قد تخرج الخبر إذا افتخرت مخرج الخبر عن الجماعة ، وإن كان ما افتخرت به من فعل واحد منهم ، فتقول : "نحن الأجواد الكرام" ، وإنما الجواد فيهم واحد منهم ، وغير المتكلم الفاعل ذلك ، كما قال جرير :
ندسنا أبا مندوسة القين بالقنا ومار دم من جار بيبة ناقع
[ ص: 152 ] فقال : "ندسنا" ، وإنما النادس رجل من قوم جرير غيره ، فأخرج الخبر مخرج الخبر عن جماعة هو أحدهم . فكذا أخبر الله عز ذكره عن النصارى أنها قالت ذلك ، على هذا الوجه إن شاء الله .
وقوله : "وأحباؤه" ، وهو جمع "حبيب" .
يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : "قل" لهؤلاء الكذبة المفترين على ربهم "فلم يعذبكم" ربكم ، يقول : فلأي شيء يعذبكم ربكم بذنوبكم ، إن كان الأمر كما زعمتم أنكم أبناؤه وأحباؤه ، فإن الحبيب لا يعذب حبيبه ، وأنتم مقرون أنه معذبكم؟ وذلك أن اليهود قالت : إن الله معذبنا أربعين يوما عدد الأيام التي عبدنا فيها العجل ، ثم يخرجنا جميعا منها ، فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : قل لهم : إن كنتم كما تقولون أبناء الله وأحباؤه ، فلم يعذبكم بذنوبكم؟ يعلمهم عز ذكره أنهم أهل فرية وكذب على الله جل وعز .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء )
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، قل لهم : ليس الأمر كما زعمتم أنكم أبناء الله وأحباؤه "بل أنتم بشر ممن خلق" ، يقول : خلق من بني آدم ، خلقكم الله مثل سائر بني آدم ، إن أحسنتم جوزيتم بإحسانكم ، [ ص: 153 ] كما سائر بني آدم مجزيون بإحسانهم ، وإن أسأتم جوزيتم بإساءتكم ، كما غيركم مجزي بها ، ليس لكم عند الله إلا ما لغيركم من خلقه ، فإنه يغفر لمن يشاء من أهل الإيمان به ذنوبه ، فيصفح عنه بفضله ، ويسترها عليه برحمته ، فلا يعاقبه بها .
وقد بينا معنى"المغفرة" ، في موضع غير هذا بشواهده ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . .
"ويعذب من يشاء" يقول : ويعدل على من يشاء من خلقه فيعاقبه على ذنوبه ، ويفضحه بها على رءوس الأشهاد فلا يسترها عليه .
وإنما هذا من الله عز وجل وعيد لهؤلاء اليهود ، والنصارى المتكلين على منازل سلفهم الخيار عند الله ، الذين فضلهم الله جل وعز بطاعتهم إياه ، واجتباهم لمسارعتهم إلى رضاه ، واصطبارهم على ما نابهم فيه . يقول لهم : لا تغتروا بمكان أولئك مني ومنازلهم عندي ، فإنهم إنما نالوا ما نالوا مني بالطاعة لي ، وإيثار رضاي على محابهم لا بالأماني ، فجدوا في طاعتي ، وانتهوا إلى أمري ، وانزجروا عما نهيتهم عنه ، فإني إنما أغفر ذنوب من أشاء أن أغفر ذنوبه من أهل طاعتي ، وأعذب من أشاء تعذيبه من أهل معصيتي لا لمن قربت زلفة آبائه مني ، وهو لي عدو ، ولأمري ونهيي مخالف . [ ص: 154 ]
وكان السدي يقول في ذلك بما : -
11615 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " ، يقول : يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له ، ويميت من يشاء منكم على كفره فيعذبه .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير ( 18 ) )
قال أبو جعفر يقول : لله تدبير ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما ، وتصريفه ، وبيده أمره ، وله ملكه ، يصرفه كيف يشاء ، ويدبره كيف أحب ، لا شريك له في شيء منه ، ولا لأحد معه فيه ملك . فاعلموا أيها القائلون : "نحن أبناء الله وأحباؤه" ، أنه إن عذبكم بذنوبكم ، لم يكن لكم منه مانع ، ولا لكم عنه دافع ، لأنه لا نسب بين أحد وبينه فيحابيه لسبب ذلك ، ولا لأحد في شيء دونه ملك ، فيحول بينه وبينه إن أراد تعذيبه بذنوبه ، وإليه مصير كل شيء ومرجعه . فاتقوا أيها المفترون عقابه إياكم على ذنوبكم بعد مرجعكم إليه ، ولا تغتروا بالأماني وفضائل الآباء والأسلاف .
[ ص: 155 ] القول في تأويل قوله عز ذكره ( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "يا أهل الكتاب" اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم نزلت هذه الآية . وذلك أنهم أو : بعضهم فيما ذكر لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان به وبما جاءهم به من عند الله ، قالوا : ما بعث الله من نبي بعد موسى ، ولا أنزل بعد التوراة كتابا!
11616 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال معاذ بن جبل ، وسعد بن عبادة ، وعقبة بن وهب لليهود : يا معشر اليهود ، اتقوا الله ، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله! لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه ، وتصفونه لنا بصفته! فقال رافع بن حريملة ووهب بن يهودا ما قلنا هذا لكم ، وما أنزل الله من كتاب بعد موسى ، ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده! فأنزل الله عز وجل في [ ذلك من ] قولهما "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير" . [ ص: 156 ]
ويعني بقوله جل ثناؤه : "فقد جاءكم رسولنا" ، قد جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم رسولنا "يبين لكم" ، يقول : يعرفكم الحق ، ويوضح لكم أعلام الهدى ، ويرشدكم إلى دين الله المرتضى ، كما : -
11617 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل " ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، جاء بالفرقان الذي فرق الله به بين الحق والباطل ، فيه بيان الله ونوره وهداه ، وعصمة لمن أخذ به .
"على فترة من الرسل" ، يقول : على انقطاع من الرسل و"الفترة" في هذا الموضع الانقطاع يقول : قد جاءكم رسولنا يبين لكم الحق والهدى ، على انقطاع من الرسل .
و"الفترة" "الفعلة" من قول القائل : "فتر هذا الأمر يفتر فتورا" ، وذلك إذا هدأ وسكن . وكذلك "الفترة" في هذا الموضع معناها : السكون ، يراد به سكون مجيء الرسل ، وذلك انقطاعها .
ثم اختلف أهل التأويل في قدر مدة تلك الفترة ، فاختلف في الرواية في ذلك عن قتادة . فروى معمر عنه ما : -
11618 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "على فترة من الرسل" قال : كان بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم خمسمائة وستون سنة . [ ص: 157 ]
وروى سعيد بن أبي عروبة عنه ما : -
11619 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما ، ذكر لنا أنها كانت ستمائة سنة ، أو ما شاء من ذلك ، والله أعلم .
11620 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن أصحابه قوله : " قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل " ، قال : كان بين عيسى ومحمد صلى لله عليهما خمسمائة سنة وأربعون سنة قال معمر ، قال قتادة : خمسمائة سنة وستون سنة .
وقال آخرون بما : -
11621 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال : أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : "على فترة من الرسل" ، قال : كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما أربعمائة سنة وبضعا وثلاثين سنة .
ويعني بقوله : "أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير" أن لا تقولوا ، وكي لا تقولوا ، كما قال جل ثناؤه : ( يبين الله لكم أن تضلوا ) [ سورة النساء : 176 ] ، بمعنى : أن لا تضلوا ، وكي لا تضلوا .
فمعنى الكلام : قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل ، كي لا تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير . يعلمهم عز ذكره أنه قد قطع عذرهم برسوله صلى الله عليه وسلم ، وأبلغ إليهم في الحجة . [ ص: 158 ]
ويعني ب"البشير" المبشر من أطاع الله وآمن به وبرسوله ، وعمل بما أتاه من عند الله بعظيم ثوابه في آخرته وب"النذير" ، المنذر من عصاه وكذب رسوله صلى الله عليه وسلم وعمل بغير ما أتاه من عند الله من أمره ونهيه بما لا قبل له به من أليم عقابه في معاده ، وشديد عذابه في قيامته .
القول في تأويل قوله عز ذكره ( فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير ( 19 ) )
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه لهؤلاء اليهود الذين وصفنا صفتهم : قد أعذرنا إليكم ، واحتججنا عليكم برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إليكم ، وأرسلناه إليكم ليبين لكم ما أشكل عليكم من أمر دينكم ، كيلا تقولوا : " لم يأتنا من عندك رسول يبين لنا ما نحن عليه من الضلالة" ، فقد جاءكم من عندي رسول يبشر من آمن بي وعمل بما أمرته وانتهى عما نهيته عنه ، وينذر من عصاني وخالف أمري ، وأنا القادر على كل شيء ، أقدر على عقاب من عصاني ، وثواب من أطاعني ، فاتقوا عقابي على معصيتكم إياي وتكذيبكم رسولي ، واطلبوا ثوابي على طاعتكم إياي وتصديقكم بشيري ونذيري ، فإني أنا الذي لا يعجزه شيء أراده ، ولا يفوته شيء طلبه . [ ص: 159 ]
القول في تأويل قوله عز ذكره ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم )
قال أبو جعفر : وهذا أيضا من الله تعريف لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قديم تمادي هؤلاء اليهود في الغي ، وبعدهم عن الحق ، وسوء اختيارهم لأنفسهم ، وشدة خلافهم لأنبيائهم ، وبطء إنابتهم إلى الرشاد ، مع كثرة نعم الله عندهم ، وتتابع أياديه وآلائه عليهم مسليا بذلك نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عما يحل به من علاجهم ، وينزل به من مقاساتهم في ذات الله . يقول الله له صلى الله عليه وسلم : لا تأس على ما أصابك منهم ، فإن الذهاب عن الله ، والبعد من الحق ، وما فيه لهم الحظ في الدنيا والآخرة ، من عاداتهم وعادات أسلافهم وأوائلهم وتعز بما لاقى منهم أخوك موسى صلى الله عليه وسلم واذكر إذ قال موسى لهم : " يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم " ، يقول : اذكروا أيادي الله عندكم ، وآلاءه قبلكم ، كما : -
11622 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة : " اذكروا نعمة الله عليكم " ، قال : أيادي الله عندكم وأيامه .
11623 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " اذكروا نعمة الله عليكم " يقول : عافية الله عز وجل .
قال أبو جعفر : وإنما اخترنا ما قلنا ، لأن الله لم يخصص من النعم شيئا ، بل عم ذلك بذكر النعم ، فذلك على العافية وغيرها ، إذ كانت"العافية" أحد معاني"النعم" . [ ص: 160 ]
القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا )
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : أن موسى ذكر قومه من بني إسرائيل بأيام الله عندهم ، وبآلائه قبلهم ، محرضهم بذلك على اتباع أمر الله في قتال الجبارين ، فقال لهم : اذكروا نعمة الله عليكم أن فضلكم ، بأن جعل فيكم أنبياء يأتونكم بوحيه ، ويخبرونكم بأنباء الغيب ، ولم يعط ذلك غيركم في زمانكم هذا .
فقيل : إن الأنبياء الذين ذكرهم موسى أنهم جعلوا فيهم : هم الذين اختارهم موسى إذ صار إلى الجبل ، وهم السبعون الذين ذكرهم الله فقال : ( واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا ) [ سورة الأعراف : 155 ] .
" وجعلكم ملوكا " سخر لكم من غيركم خدما يخدمونكم .
وقيل : إنما قال ذلك لهم موسى ، لأنه لم يكن في ذلك الزمان أحد سواهم يخدمه أحد من بني آدم .
