
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء العاشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة
الحلقة (562)
صــ 451 إلى صــ 465
يقول تعالى ذكره : "وقالت اليهود " ، من بني إسرائيل"يد الله مغلولة " ، يعنون : أن خير الله ممسك وعطاؤه محبوس عن الاتساع عليهم ، كما قال تعالى [ ص: 451 ] ذكره في تأديب نبيه صلى الله عليه وسلم : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) [ سورة الإسراء : 29 ] .
وإنما وصف تعالى ذكره"اليد " بذلك ، والمعنى العطاء ، لأن عطاء الناس وبذل معروفهم الغالب بأيديهم . فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضا ، إذا وصفوه بجود وكرم ، أو ببخل وشح وضيق ، بإضافة ما كان من ذلك من صفة الموصوف إلى يديه ، كما قال الأعشى في مدح رجل :
يداك يدا مجد ، فكف مفيدة وكف إذا ما ضن بالزاد تنفق
فأضاف ما كان صفة صاحب اليد من إنفاق وإفادة إلى"اليد" . ومثل ذلك من كلام العرب في أشعارها وأمثالها أكثر من أن يحصى . فخاطبهم الله بما يتعارفونه ويتحاورونه بينهم في كلامهم فقال : " وقالت اليهود يد الله مغلولة " ، يعني بذلك : أنهم قالوا : إن الله يبخل علينا ، ويمنعنا فضله فلا يفضل كالمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطها بعطاء ولا بذل معروف ، تعالى الله عما قالوا ، أعداء الله!
[ ص: 452 ] فقال الله مكذبهم ومخبرهم بسخطه عليهم : "غلت أيديهم " ، يقول : أمسكت أيديهم عن الخيرات ، وقبضت عن الانبساط بالعطيات" ولعنوا بما قالوا " ، وأبعدوا من رحمة الله وفضله بالذي قالوا من الكفر ، وافتروا على الله ووصفوه به من الكذب والإفك
"بل يداه مبسوطتان " ، يقول : بل يداه مبسوطتان بالبذل والإعطاء وأرزاق عباده وأقوات خلقه ، غير مغلولتين ولا مقبوضتين "ينفق كيف يشاء " ، يقول : يعطي هذا ، ويمنع هذا فيقتر عليه .
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
12242 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا " ، قال : ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقة ، ولكنهم يقولون : إنه بخيل أمسك ما عنده ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .
12243 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " يد الله مغلولة " ، قالوا : لقد تجهدنا الله يا بني إسرائيل ، حتى [ ص: 453 ] جعل الله يده إلى نحره! وكذبوا !
12244 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " يد الله مغلولة " ، قال : اليهود تقوله : لقد تجهدنا الله يا بني إسرائيل ويا أهل الكتاب ، حتى إن يده إلى نحره " بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " .
12245 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا " إلى " والله لا يحب المفسدين " ، أما قوله : " يد الله مغلولة " ، قالوا : الله بخيل غير جواد! قال الله : " بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " .
12246 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " ، قالوا : إن الله وضع يده على صدره ، فلا يبسطها حتى يرد علينا ملكنا .
وأما قوله : " ينفق كيف يشاء " ، يقول : يرزق كيف يشاء .
12247 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال عكرمة : " وقالت اليهود يد الله مغلولة " الآية ، نزلت في فنحاص اليهودي .
12248 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو تميلة ، عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك بن مزاحم قوله : " يد الله مغلولة " ، يقولون : إنه [ ص: 454 ] بخيل ليس بجواد ! قال الله : " غلت أيديهم " ، أمسكت أيديهم عن النفقة والخير . ثم قال يعني نفسه : " بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " . وقال : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) [ سورة الإسراء : 29 ] ، يقول : لا تمسك يدك عن النفقة .
قال أبو جعفر : واختلف أهل الجدل في تأويل قوله : " بل يداه مبسوطتان " . فقال بعضهم : عنى بذلك : نعمتاه . وقال : ذلك بمعنى : " يد الله على خلقه " ، وذلك نعمه عليهم . وقال : إن العرب تقول : " لك عندي يد " ، يعنون بذلك : نعمة .
وقال آخرون منهم : عنى بذلك القوة . وقالوا : ذلك نظير قول الله تعالى ذكره : ( واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي ) [ سورة ص : 45 ] .
وقال آخرون منهم : بل"يده " ، ملكه . وقال : معنى قوله : " وقالت اليهود يد الله مغلولة " ، ملكه وخزائنه .
قالوا : وذلك كقول العرب للمملوك : "هو ملك يمينه " ، و"فلان بيده عقدة نكاح فلانة " ، أي يملك ذلك ، وكقول الله تعالى ذكره : ( فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ) ، [ سورة المجادلة : 12 ] .
وقال آخرون منهم : بل"يد الله " صفة من صفاته ، هي يد ، غير أنها ليست بجارحة كجوارح بني آدم .
قالوا : وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن خصوصه آدم بما خصه به من خلقه إياه بيده .
[ ص: 455 ] قالوا : ولو كان [ معنى"اليد " ، النعمة ، أو القوة ، أو الملك ، ما كان لخصوصه ] آدم بذلك وجه مفهوم ، إذ كان جميع خلقه مخلوقين بقدرته ، ومشيئته في خلقه نعمة ، وهو لجميعهم مالك .
قالوا : وإذ كان تعالى ذكره قد خص آدم بذكره خلقه إياه بيده دون غيره من عباده ، كان معلوما أنه إنما خصه بذلك لمعنى به فارق غيره من سائر الخلق .
قالوا : وإذا كان ذلك كذلك ، بطل قول من قال : معنى"اليد " من الله ، القوة والنعمة أو الملك ، في هذا الموضع .
قالوا : وأحرى أن ذلك لو كان كما قال الزاعمون أن : "يد الله " في قوله : " وقالت اليهود يد الله مغلولة " ، هي نعمته ، لقيل : "بل يده مبسوطة " ، ولم يقل : "بل يداه " ، لأن نعمة الله لا تحصى كثرة . وبذلك جاء التنزيل ، يقول الله تعالى : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) [ سورة إبراهيم : 34\ وسورة النحل : 18 ]
قالوا : ولو كانت نعمتين ، كانتا محصاتين .
قالوا : فإن ظن ظان أن النعمتين بمعنى النعم الكثيرة ، فذلك منه خطأ ، وذلك أن العرب قد تخرج الجميع بلفظ الواحد لأداء الواحد عن جميع جنسه ، وذلك كقول الله تعالى ذكره : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ) [ سورة العصر : 1 ، 2 ] وكقوله ( لقد خلقنا الإنسان ) ، [ سورة الحجر : 26 ] وقوله : ( وكان الكافر على ربه ظهيرا ) [ سورة الفرقان : 55 ] ، قال : فلم يرد ب"الإنسان " و"الكافر " في هذه الأماكن إنسان بعينه ، ولا كافر مشار إليه حاضر ، بل عني به جميع الإنس وجميع الكفار ، ولكن الواحد أدى عن جنسه ، كما تقول العرب : [ ص: 456 ] "ما أكثر الدرهم في أيدي الناس " ، وكذلك قوله : ( وكان الكافر ) معناه : وكان الذين كفروا .
قالوا : فأما إذا ثني الاسم ، فلا يؤدي عن الجنس ، ولا يؤدي إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجميع ودون غيرهما .
قالوا : وخطأ في كلام العرب أن يقال : "ما أكثر الدرهمين في أيدي الناس " ، بمعنى : ما أكثر الدراهم في أيديهم .
قالوا : وذلك أن الدرهم إذا ثني لا يؤدي في كلامها إلا عن اثنين بأعيانهما .
قالوا : وغير محال : "ما أكثر الدرهم في أيدي الناس " ، و"ما أكثر الدراهم في أيديهم " ، لأن الواحد يؤدي عن الجميع .
قالوا : ففي قول الله تعالى : " بل يداه مبسوطتان " ، مع إعلامه عباده أن نعمه لا تحصى ، مع ما وصفنا من أنه غير معقول في كلام العرب أن اثنين يؤديان عن الجميع ما ينبئ عن خطأ قول من قال : معنى"اليد " ، في هذا الموضع ، النعمة ، وصحة قول من قال : إن"يد الله " ، هي له صفة .
قالوا : وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال به العلماء وأهل التأويل .
القول في تأويل قوله ( وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن هذا الذي أطلعناك عليه من خفي أمور هؤلاء اليهود ، مما لا يعلمه إلا علماؤهم وأحبارهم ، [ ص: 457 ] احتجاجا عليهم لصحة نبوتك ، وقطعا لعذر قائل منهم أن يقول : " ما جاءنا من بشير ولا نذير " : " ليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا " . يعني ب"الطغيان" : الغلو في إنكار ما قد علموا صحته من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والتمادي في ذلك " وكفرا " ، يقول : ويزيدهم مع غلوهم في إنكار ذلك ، جحودهم عظمة الله ووصفهم إياه بغير صفته ، بأن ينسبوه إلى البخل ، ويقولوا : "يد الله مغلولة" . وإنما أعلم تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم أهل عتو وتمرد على ربهم ، وأنهم لا يذعنون لحق وإن علموا صحته ، ولكنهم يعاندونه ، يسلي بذلك نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عن الموجدة بهم في ذهابهم عن الله ، وتكذيبهم إياه .
وقد بينت معنى"الطغيان " فيما مضى بشواهده ، بما أغنى عن إعادته .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
12249 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا " ، حملهم حسد محمد صلى الله عليه وسلم والعرب على أن كفروا به ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم .
[ ص: 458 ]
القول في تأويل قوله ( وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة " ، بين اليهود والنصارى ، كما : -
12250 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة " ، اليهود والنصارى .
فإن قال قائل : وكيف قيل : " وألقينا بينهم العداوة والبغضاء " ، جعلت "الهاء والميم " في قوله : "بينهم " ، كناية عن اليهود والنصارى ، ولم يجر لليهود والنصارى ذكر؟
قيل : قد جرى لهم ذكر ، وذلك قوله : ( لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ) ، [ سورة المائدة : 51 ] ، جرى الخبر في بعض الآي عن الفريقين ، وفي بعض عن أحدهما ، إلى أن انتهى إلى قوله : " وألقينا بينهم العداوة والبغضاء " ، ثم قصد بقوله : "ألقينا بينهم " ، الخبر عن الفريقين .
القول في تأويل قوله ( كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : كلما جمع أمرهم على شيء فاستقام واستوى ، فأرادوا مناهضة من ناوأهم ، شتته الله عليهم وأفسده لسوء فعالهم وخبث نياتهم ، كالذي : -
[ ص: 459 ] 12251 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : ( لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم ) [ سورة الإسراء : 4 - 6 ] ، قال : كان الفساد الأول ، فبعث الله عليهم عدوا فاستباحوا الديار ، واستنكحوا النساء ، واستعبدوا الولدان ، وخربوا المسجد . فغبروا زمانا ، ثم بعث الله فيهم نبيا وعاد أمرهم إلى أحسن ما كان . ثم كان الفساد الثاني بقتلهم الأنبياء ، حتى قتلوا يحيى بن زكريا ، فبعث الله عليهم بختنصر ، فقتل من قتل منهم ، وسبى من سبى ، وخرب المسجد . فكان بختنصر الفساد الثاني قال : و"الفساد " ، المعصية ثم قال ، ( فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ) إلى قوله : ( وإن عدتم عدنا ) [ سورة الإسراء : 7 ، 8 ] فبعث الله لهم عزيرا ، وقد كان علم التوراة وحفظها في صدره وكتبها لهم . فقام بها ذلك القرن ، ولبثوا فنسوا . ومات عزير ، وكانت أحداث ، ونسوا العهد وبخلوا ربهم ، وقالوا : " يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " ، وقالوا في عزير : "إن الله اتخذه ولدا " ، وكانوا يعيبون ذلك على النصارى في قولهم في المسيح ، فخالفوا ما نهوا عنه ، وعملوا بما كانوا يكفرون عليه ، فسبق من الله كلمة عند ذلك أنهم لن يظهروا على عدو آخر الدهر ، فقال : " كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين " ، فبعث الله عليهم المجوس الثالثة أربابا ، فلم يزالوا كذلك والمجوس [ ص: 460 ] على رقابهم ، وهم يقولون : "يا ليتنا أدركنا هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا ، عسى الله أن يفكنا به من المجوس والعذاب الهون"! فبعث محمدا صلى الله عليه وسلم واسمه " محمد " ، واسمه في الإنجيل " أحمد " فلما جاءهم وعرفوا ، كفروا به ، قال : ( فلعنة الله على الكافرين ) [ سورة البقرة : 89 ] ، وقال : ( فباءوا بغضب على غضب ) ، [ سورة البقرة : 90 ] .
12252 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله " ، هم اليهود .
12253 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا " ، أولئك أعداء الله اليهود ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ، فلن تلقى اليهود ببلد إلا وجدتهم من أذل أهله . لقد جاء الإسلام حين جاء ، وهم تحت أيدي المجوس أبغض خلقه إليه .
12254 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله " ، قال : كلما أجمعوا أمرهم على شيء فرقه الله ، وأطفأ حدهم ونارهم ، وقذف في قلوبهم الرعب .
[ ص: 461 ] وقال مجاهد بما : -
12255 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : " كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله " ، قال : حرب محمد صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله ( ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين ( 64 ) )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ويعمل هؤلاء اليهود والنصارى بمعصية الله ، فيكفرون بآياته ويكذبون رسله ، ويخالفون أمره ونهيه ، وذلك سعيهم فيها بالفساد
" والله لا يحب المفسدين " ، يقول : والله لا يحب من كان عاملا بمعاصيه في أرضه .
القول في تأويل قوله ( ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ( 65 ) )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : "ولو أن أهل الكتاب " ، وهم اليهود والنصارى "آمنوا " بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فصدقوه واتبعوه وما أنزل عليه"واتقوا " ما نهاهم الله عنه فاجتنبوه"لكفرنا عنهم سيئاتهم " ، يقول : محونا عنهم ذنوبهم فغطينا عليها ، ولم نفضحهم بها
"ولأدخلناهم [ ص: 462 ] جنات النعيم " ، يقول : ولأدخلناهم بساتين ينعمون فيها في الآخرة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
12256 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا " ، يقول : آمنوا بما أنزل الله ، واتقوا ما حرم الله ، "لكفرنا عنهم سيئاتهم" .
القول في تأويل قوله ( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل " ، ولو أنهم عملوا بما في التوراة والإنجيل "وما أنزل إليهم من ربهم " ، يقول : وعملوا بما أنزل إليهم من ربهم من الفرقان الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم .
فإن قال قائل : وكيف يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، مع اختلاف هذه الكتب ، ونسخ بعضها بعضا؟
قيل : إنها وإن كانت كذلك في بعض أحكامها وشرائعها ، فهي متفقة في الأمر بالإيمان برسل الله ، والتصديق بما جاءت به من عند الله . فمعنى إقامتهم التوراة والإنجيل وما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم : تصديقهم بما فيها ، والعمل [ ص: 463 ] بما هي متفقة فيه ، وكل واحد منها في الحين الذي فرض العمل به .
وأما معنى قوله : " لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " ، فإنه يعني : لأنزل الله عليهم من السماء قطرها ، فأنبتت لهم به الأرض حبها ونباتها ، فأخرج ثمارها .
وأما قوله : " ومن تحت أرجلهم " ، فإنه يعني تعالى ذكره : لأكلوا من بركة ما تحت أقدامهم من الأرض ، وذلك ما تخرجه الأرض من حبها ونباتها وثمارها ، وسائر ما يؤكل مما تخرجه الأرض .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
12257 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم " ، يعني : لأرسل السماء عليهم مدرارا"ومن تحت أرجلهم " ، تخرج الأرض بركتها .
12258 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " ، يقول : إذا لأعطتهم السماء بركتها والأرض نباتها .
12259 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " ، يقول : لو عملوا بما أنزل إليهم [ ص: 464 ] مما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنزلنا عليهم المطر ، فلأنبت الثمر .
12260 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم " ، أما"إقامتهم التوراة " ، فالعمل بها وأما"ما أنزل إليهم من ربهم " ، فمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه . يقول : " لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " ، أما"من فوقهم " ، فأرسلت عليهم مطرا ، وأما"من تحت أرجلهم " ، يقول : لأنبت لهم من الأرض من رزقي ما يغنيهم .
12261 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : " لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " ، قال : بركات السماء والأرض قال ابن جريج : "لأكلوا من فوقهم " ، المطر "ومن تحت أرجلهم " ، من نبات الأرض .
12262 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " من فوقهم ومن تحت أرجلهم " ، يقول : لأكلوا من الرزق الذي ينزل من السماء"ومن تحت أرجلهم " ، يقول : من الأرض .
وكان بعضهم يقول إنما أريد بقوله : " لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " ، التوسعة ، كما يقول القائل : "هو في خير من قرنه إلى قدمه" .
وتأويل أهل التأويل بخلاف ما ذكرنا من هذا القول ، وكفى بذلك شهيدا على فساده .
[ ص: 465 ]
القول في تأويل قوله ( منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ( 66 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "منهم أمة " ، منهم جماعة "مقتصدة " ، يقول : مقتصدة في القول في عيسى ابن مريم ، قائلة فيه الحق أنه رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، لا غالية قائلة : إنه ابن الله ، تعالى الله عما قالوا من ذلك ، ولا مقصرة قائلة : هو لغير رشدة"وكثير منهم " ، يعني : من بني إسرائيل من أهل الكتاب اليهود والنصارى "ساء ما يعملون " ، يقول : كثير منهم سيئ عملهم ، وذلك أنهم يكفرون بالله ، فتكذب النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وتزعم أن المسيح ابن الله وتكذب اليهود بعيسى وبمحمد صلى الله عليهما . فقال الله تعالى فيهم ذاما لهم : "ساء ما يعملون " ، في ذلك من فعلهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
12264 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "منهم أمة مقتصدة " ، وهم مسلمة أهل الكتاب"وكثير منهم ساء ما يعملون" .
