
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء العاشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة
الحلقة (565)
صــ 496 إلى صــ 510
[ ص: 491 ] 12305 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين ، عن أبي مالك ، مثله .
12306 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن العلاء بن المسيب ، عن عبد الله بن عمرو بن مرة ، عن سالم الأفطس ، عن أبي عبيدة ، عن ابن مسعود قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرا ، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشريبه . فلما رأى ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ، ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم "ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " ، قال : والذي نفسي بيده ، لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يدي المسيء ، ولتؤطرنه على الحق أطرا ، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ، وليلعننكم كما لعنهم .
[ ص: 492 ] 12307 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا الحكم بن بشير بن سلمان قال ، حدثنا عمرو بن قيس الملائي ، عن علي بن بذيمة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : لما فشا المنكر في بني إسرائيل ، جعل الرجل يلقى الرجل فيقول : يا هذا ، اتق الله! ثم لا يمنعه ذلك أن يؤاكله ويشاربه . فلما رأى الله ذلك منهم ، ضرب بقلوب بعضهم على بعض ، ثم أنزل فيهم كتابا : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون " . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا ، فجلس وقال : كلا والذى نفسي بيده ، حتى تأطروا الظالم على الحق أطرا" .
[ ص: 493 ] 12308 - حدثنا علي بن سهل الرملي قال ، حدثنا المؤمل بن إسماعيل قال ، حدثنا سفيان قال ، حدثنا علي بن بذيمة ، عن أبي عبيدة ، أظنه عن مسروق ، عن عبد الله قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن بني إسرائيل لما ظهر منهم المنكر ، جعل الرجل يرى أخاه وجاره وصاحبه على المنكر ، فينهاه ، ثم لا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله وشريبه ونديمه ، فضرب الله قلوب بعضهم على بعض ، ولعنوا على لسان داود وعيسى ابن مريم "ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " ، إلى"فاسقون " ، قال عبد الله : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا ، فاستوى جالسا ، فغضب وقال : لا والله ، حتى تأخذوا على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطرا .
12309 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن مهدي قال ، حدثنا سفيان ، عن علي بن بذيمة ، عن أبي عبيدة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن بني إسرائيل لما وقع فيهم النقص ، كان الرجل يرى أخاه على الريب فينهاه عنه ، فإذا كان الغد ، لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وشريبه وخليطه ، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ونزل فيهم القرآن فقال : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم " حتى بلغ"ولكن كثيرا منهم فاسقون " ، [ ص: 494 ] قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس ، وقال : لا حتى تأخذوا على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطرا .
12310 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو داود قال : أملاه علي قال ، حدثنا محمد بن أبي الوضاح ، عن علي بن بذيمة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله .
12311 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن علي بن بذيمة قال : سمعت أبا عبيدة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه غير أنهما قالا في حديثهما : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فاستوى جالسا ، ثم قال : كلا والذي نفسي بيده حتى تأخذوا على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطرا" .
[ ص: 495 ] 12312 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم " ، قال فقال : لعنوا في الإنجيل وفي الزبور وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن رحى الإيمان قد دارت ، فدوروا مع القرآن حيث دار [ فإنه . . . قد فرغ الله مما افترض فيه ] . [ وإن ابن مرح ] كان أمة من بني إسرائيل ، كانوا أهل عدل ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، فأخذه قومهم فنشروهم بالمناشير ، وصلبوهم على الخشب ، وبقيت منهم بقية ، فلم يرضوا حتى داخلوا الملوك وجالسوهم ، ثم لم يرضوا حتى واكلوهم ، فضرب الله تلك القلوب بعضها ببعض فجعلها واحدة . فذلك قول الله تعالى : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود " إلى : "ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " ، ماذا كانت معصيتهم؟ قال : " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون " .
فتأويل الكلام إذا : لعن الله الذين كفروا من اليهود بالله على لسان داود وعيسى ابن مريم ، ولعن والله آباؤهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ، بما عصوا الله فخالفوا أمره " وكانوا يعتدون " ، يقول : وكانوا يتجاوزون حدوده .
[ ص: 496 ] القول في تأويل قوله ( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ( 79 ) )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : كان هؤلاء اليهود الذين لعنهم الله " لا يتناهون " ، يقول : لا ينتهون عن منكر فعلوه ، ولا ينهى بعضهم بعضا . ويعني ب"المنكر " ، المعاصي التي كانوا يعصون الله بها .
فتأويل الكلام : كانوا لا ينتهون عن منكر أتوه " لبئس ما كانوا يفعلون" . وهذا قسم من الله تعالى ذكره يقول : أقسم : لبئس الفعل كانوا يفعلون ، في تركهم الانتهاء عن معاصي الله تعالى ذكره ، وركوب محارمه ، وقتل أنبياء الله ورسله ، كما : -
12313 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ، لا تتناهى أنفسهم بعد أن وقعوا في الكفر 103 .
القول في تأويل قوله ( ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ( 80 ) )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : " ترى " ، يا محمد ، كثيرا من بني إسرائيل " يتولون الذين كفروا " ، يقول : يتولون المشركين من عبدة الأوثان ، [ ص: 497 ] ويعادون أولياء الله ورسله "لبئس ما قدمت لهم أنفسهم " ، يقول تعالى ذكره : أقسم : لبئس الشيء الذي قدمت لهم أنفسهم أمامهم إلى معادهم في الآخرة "أن سخط الله عليهم " ، يقول : قدمت لهم أنفسهم سخط الله عليهم بما فعلوا .
و"أن " في قوله : "أن سخط الله عليهم " ، في موضع رفع ، ترجمة عن "ما " ، الذي في قوله : "لبئس ما" .
"وفي العذاب هم خالدون " ، يقول : وفي عذاب الله يوم القيامة"هم خالدون " ، دائم مقامهم ومكثهم فيه .
القول في تأويل قوله ( ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون ( 81 ) )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولو كان هؤلاء الذين يتولون الذين كفروا من بني إسرائيل"يؤمنون بالله والنبي " ، يقول : يصدقون الله ويقرون به ويوحدونه ، ويصدقون نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه لله نبي مبعوث ، ورسول مرسل"وما أنزل إليه " ، يقول : ويقرون بما أنزل إلىمحمد صلى الله عليه وسلم من عند الله من آي الفرقان
"ما اتخذوهم أولياء " ، يقول : ما اتخذوهم أصحابا وأنصارا من دون المؤمنين "ولكن كثيرا منهم فاسقون " ، يقول : ولكن كثيرا منهم أهل خروج [ ص: 498 ] عن طاعة الله إلى معصيته ، وأهل استحلال لما حرم الله عليهم من القول والفعل .
وكان مجاهد يقول في ذلك بما : -
12314 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : " ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء " ، قال : المنافقون .
القول في تأويل قوله ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ( 82 ) )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لتجدن ، يا محمد ، أشد الناس عداوة للذين صدقوك واتبعوك وصدقوا بما جئتهم به من أهل الإسلام " اليهود والذين أشركوا " ، يعني : عبدة الأوثان الذين اتخذوا الأوثان آلهة يعبدونها من دون الله " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا " ، يقول : ولتجدن أقرب الناس مودة ومحبة .
و"المودة " "المفعلة " ، من قول الرجل : "وددت كذا أوده ودا ، وودا ، وودا ومودة " ، إذا أحببته .
"للذين آمنوا " ، يقول : للذين صدقوا الله ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم " الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون " ، [ ص: 499 ] عن قبول الحق واتباعه والإذعان به .
وقيل : إن هذه الآية والتي بعدها نزلت في نفر قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى الحبشة ، فلما سمعوا القرآن أسلموا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقيل : إنها نزلت في النجاشي ملك الحبشة وأصحاب له أسلموا معه .
ذكر من قال ذلك :
12315 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال ، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال ، حدثنا خصيف ، عن سعيد بن جبير قال : بعث النجاشي وفدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا . قال : فأنزل الله تعالى فيهم : " لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا " ، إلى آخر الآية . قال : فرجعوا إلى النجاشي فأخبروه ، فأسلم النجاشي ، فلم يزل مسلما حتى مات . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أخاكم النجاشي قد مات ، فصلوا عليه! فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، والنجاشي ثم .
12316 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " ، قال : هم الوفد الذين جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة .
12317 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة خاف على أصحابه من المشركين ، فبعث جعفر بن أبي طالب ، وابن [ ص: 500 ] مسعود وعثمان بن مظعون ، في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة . فلما بلغ ذلك المشركين ، بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم ، ذكر أنهم سبقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ، فقالوا ، إنه خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها ، زعم أنه نبي! وإنه بعث إليك رهطا ليفسدوا عليك قومك ، فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم . قال : إن جاءوني نظرت فيما يقولون! فقدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأموا باب النجاشي ، فقالوا : استأذن لأولياء الله! فقال ، ائذن لهم ، فمرحبا بأولياء الله! فلما دخلوا عليه سلموا ، فقال له الرهط من المشركين : ألا ترى أيها الملك أنا صدقناك؟ لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها! فقال لهم : ما منعكم أن تحيوني بتحيتي ؟ فقالوا : إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة! قال لهم : ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ قال يقول : " هو عبد الله وكلمة من الله ألقاها إلى مريم وروح منه " ، ويقول في مريم : "إنها العذراء البتول" . قال : فأخذ عودا من الأرض فقال : ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم قدر هذا العود! فكره المشركون قوله ، وتغيرت وجوههم . قال لهم : هل تعرفون شيئا مما أنزل عليكم؟ قالوا : نعم! قال : اقرءوا ! فقرءوا ، وهنالك منهم قسيسون ورهبان وسائر النصارى ، فعرفت كل ما قرءوا وانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق . قال الله تعالى ذكره : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول " الآية .
12318 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثني أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " ، الآية . قال : بعث النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنى [ ص: 501 ] عشر رجلا من الحبشة ، سبعة قسيسين وخمسة رهبانا ، ينظرون إليه ويسألونه . فلما لقوه فقرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا ، فأنزل الله عليه فيهم : " وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين " ، فآمنوا ثم رجعوا إلى النجاشي ، فهاجر النجاشي معهم فمات في الطريق ، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون واستغفروا له .
12319 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال عطاء في قوله : " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " الآية ، هم ناس من الحبشة آمنوا ، إذ جاءتهم مهاجرة المؤمنين .
وقال آخرون : بل هذه صفة قوم كانوا على شريعة عيسى من أهل الإيمان ، فلما بعث الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم آمنوا به .
ذكر من قال ذلك :
12320 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا " ، فقرأ حتى بلغ : "فاكتبنا مع الشاهدين " أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى ، يؤمنون به وينتهون إليه . فلما بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، صدقوا به وآمنوا به ، وعرفوا الذي جاء به أنه الحق ، فأثنى عليهم ما تسمعون .
قال أبو جعفر : والصواب في ذلك من القول عندي : أن الله تعالى وصف صفة قوم قالوا : "إنا نصارى " ، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم يجدهم أقرب الناس ودادا لأهل الإيمان بالله ورسوله ، ولم يسم لنا أسماءهم . وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحاب النجاشي ويجوز أن يكون أريد به قوم كانوا على شريعة [ ص: 502 ] عيسى ، فأدركهم الإسلام فأسلموا لما سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق ، ولم يستكبروا عنه .
وأما قوله تعالى : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا " ، فإنه يقول : قربت مودة هؤلاء الذين وصف الله صفتهم للمؤمنين ، من أجل أن منهم قسيسين ورهبانا .
و"القسيسون " جمع "قسيس" . وقد يجمع "القسيس " ، "قسوسا " ، لأن "القس " و"القسيس " ، بمعنى واحد .
وكان ابن زيد يقول في"القسيس " بما : -
12321 - حدثنا يونس قال ، حدثنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : "القسيس " ، عبادهم .
وأما الرهبان ، فإنه يكون واحدا وجمعا . فأما إذا كان جمعا ، فإن واحدهم يكون"راهبا " ، ويكون"الراهب " ، حينئذ "فاعلا " من قول القائل : "رهب الله فلان " ، بمعنى خافه ، "يرهبه رهبا ورهبا " ، ثم يجمع"الراهب " ، "رهبان " مثل"راكب " و"ركبان " ، و"فارس " و"فرسان" . ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب جمعا قول الشاعر :
رهبان مدين لو رأوك تنزلوا والعصم من شعف العقول الفادر
[ ص: 503 ] وقد يكون"الرهبان " واحدا . وإذا كان واحدا كان جمعه"رهابين " مثل "قربان " و"قرابين " ، و"جردان" . و"جرادين" . ويجوز جمعه أيضا"رهابنة " إذا كان كذلك . ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب واحدا قول الشاعر :
لو عاينت رهبان دير في القلل لانحدر الرهبان يمشي ونزل
[ ص: 504 ] واختلف أهل التأويل في المعني بقوله : "ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا" .
فقال بعضهم : عني بذلك قوم كانوا استجابوا لعيسى ابن مريم حين دعاهم ، واتبعوه على شريعته .
ذكر من قال ذلك :
12321 م - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن حصين ، عمن حدثه ، عن ابن عباس في قوله : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا " ، قال : كانوا نواتي في البحر يعني : ملاحين قال : فمر بهم عيسى ابن مريم ، فدعاهم إلى الإسلام فأجابوه : قال : فذلك قوله : " قسيسين ورهبانا " .
وقال آخرون : بل عني بذلك ، القوم الذين كان النجاشي بعثهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ذكر من قال ذلك :
12322 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام بن سلم قال ، حدثنا عنبسة ، عمن حدثه ، عن أبي صالح في قوله : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا " ، قال : ستة وستون ، أو سبعة وستون ، أو ثمان وستون من الحبشة ، كلهم [ ص: 505 ] صاحب صومعة ، عليهم ثياب الصوف .
12323 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا " ، قال : بعث النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم خمسين أو سبعين من خيارهم ، فجعلوا يبكون ، فقال : هم هؤلاء !
12324 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا قيس ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا " ، قال : هم رسل النجاشي الذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه ، كانوا سبعين رجلا اختارهم الخير فالخير ، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليهم : ( يس والقرآن الحكيم ) [ سورة يس : 1 ، 2 ] ، فبكوا وعرفوا الحق ، فأنزل الله فيهم : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون " ، وأنزل فيهم : ( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ) إلى قوله : ( يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ) [ سورة القصص : 53 ، 54 ] .
قال أبو جعفر : والصواب في ذلك من القول عندنا أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن النفر الذين أثنى عليهم من النصارى بقرب مودتهم لأهل الإيمان بالله ورسوله ، أن ذلك إنما كان منهم لأن منهم أهل اجتهاد في العبادة ، وترهب في الديارات والصوامع ، وأن منهم علماء بكتبهم وأهل تلاوة لها ، فهم لا يبعدون من المؤمنين لتواضعهم للحق إذا عرفوه ، ولا يستكبرون عن قبوله إذا تبينوه ، لأنهم [ ص: 506 ] أهل دين واجتهاد فيه ، ونصيحة لأنفسهم في ذات الله ، وليسوا كاليهود الذين قد دربوا بقتل الأنبياء والرسل ، ومعاندة الله في أمره ونهيه ، وتحريف تنزيله الذي أنزله في كتبه .
