عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 17-02-2025, 10:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,490
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء العاشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة
الحلقة (566)
صــ 511 إلى صــ 525







القول في تأويل قوله ( وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ( 83 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وإذا سمع هؤلاء الذين قالوا : "إنا نصارى " الذين وصفت لك ، يا محمد ، صفتهم أنك تجدهم أقرب الناس مودة للذين آمنوا ما أنزل إليك من الكتاب يتلى"ترى أعينهم تفيض من الدمع" .

[ ص: 507 ] و"فيض العين من الدمع " ، امتلاؤها منه ، ثم سيلانه منها ، كفيض النهر من الماء ، وفيض الإناء ، وذلك سيلانه عن شدة امتلائه ، ومنه قول الأعشى :


ففاضت دموعي ، فظل الشئون : إما وكيفا ، وإما انحدارا


وقوله : "مما عرفوا من الحق " ، يقول : فيض دموعهم ، لمعرفتهم بأن الذي يتلى عليهم من كتاب الله الذي أنزله إلى رسول الله حق ، كما : -

12325 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا أسباط بن نصر الهمداني ، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي قال : بعث النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم اثنى عشر رجلا يسألونه ويأتونه بخبره ، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ، فبكوا . وكان منهم سبعة رهبان وخمسة [ ص: 508 ] قسيسين أو : خمسة رهبان ، وسبعة قسيسين فأنزل الله فيهم : " وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع " ، إلى آخر الآية .

12326 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عمر بن علي بن مقدم قال ، سمعت هشام بن عروة يحدث ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير قال : نزلت في النجاشي وأصحابه : " وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع " .

12327 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبدة بن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه في قوله : " ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق " ، قال : ذلك في النجاشي .

12328 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا : حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : كانوا يرون أن هذه الآية أنزلت في النجاشي : " وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع " .

12329 - حدثنا هناد قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، قال ابن إسحاق : سألت الزهري عن الآيات : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع " الآية ، وقوله : ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) [ سورة الفرقان : 63 ] . قال : ما زلت أسمع علماءنا يقولون : نزلت في النجاشي وأصحابه . [ ص: 509 ]

وأما قوله : "يقولون " ، فإنه لو كان بلفظ اسم ، كان نصبا على الحال ، لأن معنى الكلام : وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ، قائلين : "ربنا آمنا" .

ويعني بقوله تعالى ذكره : "يقولون ربنا آمنا " ، أنهم يقولون : يا ربنا ، صدقنا لما سمعنا ما أنزلته إلى نبيك محمد صلى الله عليه وسلم من كتابك ، وأقررنا به أنه من عندك ، وأنه الحق لا شك فيه .

وأما قوله : "فاكتبنا مع الشاهدين " ، فإنه روي عن ابن عباس وغيره في تأويله ، ما : -

12330 - حدثنا به هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي وابن نمير جميعا ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " اكتبنا مع

الشاهدين " ، قال : أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

12331 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : "فاكتبنا مع الشاهدين " ، مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

12332 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : "فاكتبنا مع الشاهدين " ، يعنون ب"الشاهدين " ، محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته .

12333 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " فاكتبنا مع الشاهدين " ، قال : محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، إنهم شهدوا أنه قد بلغ ، وشهدوا أن الرسل قد بلغت .

[ ص: 510 ] 12334 - حدثنا الربيع قال ، حدثنا أسد بن موسى قال ، حدثنا يحيى بن زكريا قال ، حدثني إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثل حديث الحارث بن عبد العزيز غير أنه قال : وشهدوا للرسل أنهم قد بلغوا .

قال أبو جعفر : فكأن متأول هذا التأويل ، قصد بتأويله هذا إلى معنى قول الله تعالى ذكره : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) [ سورة البقرة : 143 ] . فذهب ابن عباس إلى أن "الشاهدين " ، هم"الشهداء " في قوله : " لتكونوا شهداء على الناس " ، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

وإذا كان التأويل ذلك ، كان معنى الكلام : " يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين " ، الذين يشهدون لأنبيائك يوم القيامة ، أنهم قد بلغوا أممهم رسالاتك .

ولو قال قائل : معنى ذلك : " فاكتبنا مع الشاهدين " ، الذين يشهدون أن ما أنزلته إلى رسولك من الكتب حق كان صوابا . لأن ذلك خاتمة قوله : " وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين " ، وذلك صفة من الله تعالى ذكره لهم بإيمانهم لما سمعوا من كتاب الله ، فتكون مسألتهم أيضا الله أن يجعلهم ممن صحت عنده [ ص: 511 ] شهادتهم بذلك ، ويلحقهم في الثواب والجزاء منازلهم .

ومعنى"الكتاب ، " في هذا الموضع : الجعل .

يقول : فاجعلنا مع الشاهدين ، وأثبتنا معهم في عدادهم .

القول في تأويل قوله ( وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ( 84 ) )

قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في هذه الآيات ، أنهم إذا سمعوا ما أنزل إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من كتابه ، آمنوا به وصدقوا كتاب الله ، وقالوا : "ما لنا لا نؤمن بالله " ، يقول : لا نقر بوحدانية الله"وما جاءنا من الحق " ، يقول : وما جاءنا من عند الله من كتابه وآي تنزيله ، ونحن نطمع بإيماننا بذلك أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين .

يعني ب"القوم الصالحين " ، المؤمنين بالله ، المطيعين له ، الذين استحقوا من الله الجنة بطاعتهم إياه .

وإنما معنى ذلك : ونحن نطمع أن يدخلنا ربنا مع أهل طاعته مداخلهم من جنته يوم القيامة ، ويلحق منازلنا بمنازلهم ، ودرجاتنا بدرجاتهم في جناته .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

12335 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال [ ص: 512 ] ابن زيد في قوله : " وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين " ، قال : "القوم الصالحون " ، رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه .

القول في تأويل قوله ( فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين ( 85 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فجزاهم الله بقولهم : " ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين "

"جنات تجري من تحتها الأنهار " ، يعني : بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار"خالدين فيها " ، يقول : دائما فيها مكثهم ، لا يخرجون منها ولا يحولون عنها

" وذلك جزاء المحسنين " ، يقول : وهذا الذي جزيت هؤلاء القائلين بما وصفت عنهم من قيلهم على ما قالوا ، من الجنات التي هم فيها خالدون ، جزاء كل محسن في قيله وفعله .

و"إحسان المحسن " في ذلك ، أن يوحد الله توحيدا خالصا محضا لا شرك فيه ، ويقر بأنبياء الله وما جاءت به من عند الله من الكتب ، ويؤدي فرائضه ، ويجتنب معاصيه . فذلك كمال إحسان المحسنين الذين قال الله تعالى ذكره : "جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها" .

[ ص: 513 ] القول في تأويل قوله ( والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ( 86 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وأما الذين جحدوا توحيد الله ، وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكذبوا بآيات كتابه ، فإن أولئك " أصحاب الجحيم" . يقول : هم سكانها واللابثون فيها .

و"الجحيم" : ما اشتد حره من النار ، وهو"الجاحم""والجحيم" .

القول في تأويل قوله ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ( 87 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، وأقروا بما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه حق من عند الله " لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، يعني ب"الطيبات " ، اللذيذات التي تشتهيها النفوس ، وتميل إليها القلوب ،

فتمنعوها إياها ، كالذي فعله القسيسون والرهبان ، فحرموا على أنفسهم النساء والمطاعم الطيبة ، والمشارب اللذيذة ، وحبس في الصوامع بعضهم أنفسهم ، وساح في الأرض بعضهم . يقول تعالى ذكره : فلا تفعلوا أيها المؤمنون ، كما فعل أولئك ، ولا تعتدوا حد الله الذي حد لكم فيما أحل لكم وفيما حرم عليكم ، [ ص: 514 ] فتجاوزوا حده الذي حده ، فتخالفوا بذلك طاعته ، فإن الله لا يحب من اعتدى حده الذي حده لخلقه ، فيما أحل لهم وحرم عليهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

12336 - حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس قال ، حدثنا عبثر أبو زبيد قال ، حدثنا حصين ، عن أبي مالك في هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " الآية ، قال : عثمان بن مظعون وأناس من المسلمين ، حرموا عليهم النساء ، وامتنعوا من الطعام الطيب ، وأراد بعضهم أن يقطع ذكره ، فنزلت هذه الآية .

12337 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثني خالد الحذاء ، عن عكرمة قال : كان أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هموا بالخصاء وترك اللحم والنساء ، فنزلت هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " .

12338 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن خالد ، عن عكرمة : أن رجالا أرادوا كذا وكذا ، وأرادوا كذا وكذا ، وأن يختصوا ، فنزلت : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " إلى قوله"الذي أنتم به مؤمنون " .

12339 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، قال : كانوا حرموا [ ص: 515 ] الطيب واللحم ، فأنزل الله تعالى هذا فيهم .

12340 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال ، حدثنا خالد ، عن عكرمة : أن أناسا قالوا : "لا نتزوج ، ولا نأكل ، ولا نفعل كذا وكذا"! فأنزل الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " .

12341 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، قال : أراد أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفضوا الدنيا ، ويتركوا النساء ، ويترهبوا ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فغلظ فيهم المقالة ، ثم قال : إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع! اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وحجوا ، واعتمروا ، واستقيموا يستقم لكم . قال : ونزلت فيهم : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، الآية .

12342 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، قال : نزلت في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، أرادوا أن يتخلوا من الدنيا ، ويتركوا النساء ويتزهدوا ، منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون .

12343 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن زياد بن فياض ، عن أبي عبد الرحمن قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا " .

[ ص: 516 ] 12344 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة في قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، الآية ، ذكر لنا أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رفضوا النساء واللحم ، وأرادوا أن يتخذوا الصوامع . فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ليس في ديني ترك النساء واللحم ، ولا اتخاذ الصوامع ، وخبرنا أن ثلاثة نفر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا ، فقال أحدهم : أما أنا فأقوم الليل لا أنام! وقال أحدهم : أما أنا فأصوم النهار فلا أفطر! وقال الآخر : أما أنا فلا آتي النساء! فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال : ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا؟ قالوا : بلى! يا رسول الله ، وما أردنا إلا الخير! قال : لكني أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وآتي النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني وكان في بعض القراءة : ( من رغب عن سنتك فليس من أمتك وقد ضل عن سواء السبيل ) . وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأناس من أصحابه : إن من قبلكم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فهؤلاء إخوانهم في الدور والصوامع! اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وأقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وصوموا رمضان ، وحجوا واعتمروا ، واستقيموا يستقم لكم .

[ ص: 517 ] 12345 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوما فذكر الناس ، ثم قام ولم يزدهم على التخويف . فقال أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا عشرة ، منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون : ما خفنا إن لم نحدث عملا! فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم ، فنحن نحرم! فحرم بعضهم أكل اللحم والودك ، وأن يأكل بالنهار ، وحرم بعضهم النوم ، وحرم بعضهم النساء . فكان عثمان بن مظعون ممن حرم النساء ، وكان لا يدنو من أهله ولا يدنون منه . فأتت امرأته عائشة ، وكان يقال لها : "الحولاء " ، فقالت لها عائشة ومن عندها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم : ما بالك ، يا حولاء متغيرة اللون لا تمتشطين ولا تطيبين؟ فقالت : وكيف أتطيب وأمتشط ، وما وقع علي زوجي ، ولا رفع عني ثوبا ، منذ كذا وكذا! فجعلن يضحكن من كلامها . فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن يضحكن ، فقال : ما يضحككن؟ قالت : يا رسول الله ، الحولاء ، سألتها عن أمرها فقالت : "ما رفع عني زوجي ثوبا منذ كذا وكذا"! فأرسل إليه فدعاه فقال : ما بالك يا عثمان ؟ قال : إني تركته لله لكي أتخلى للعبادة! وقص عليه أمره . وكان عثمان قد أراد أن يجب نفسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقسمت عليك إلا رجعت فواقعت أهلك ! فقال : يا رسول الله إني صائم ! قال : أفطر! فأفطر ، وأتى أهله . فرجعت الحولاء إلى عائشة قد اكتحلت وامتشطت وتطيبت . فضحكت عائشة ، فقالت : ما بالك يا حولاء ؟ فقالت : إنه أتاها أمس ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 518 ] ما بال أقوام حرموا النساء ، والطعام ، والنوم ؟ ألا إني أنام وأقوم ، وأفطر وأصوم ، وأنكح النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني! فنزلت : "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا " ، يقوللعثمان : لا تجب نفسك . فإن هذا هو الاعتداء وأمرهم أن يكفروا أيمانهم ، فقال : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " .

12346 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، قال : هم رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : نقطع مذاكيرنا ، ونترك شهوات الدنيا ، ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل ، إليهم ، فذكر ذلك لهم فقالوا : نعم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأنام ، وأنكح النساء ، فمن أخذ بسنتي فهو مني ، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني .

12347 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، وذلك أن رجالا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، منهم عثمان بن مظعون ، حرموا النساء واللحم على أنفسهم ، وأخذوا الشفار ليقطعوا مذاكيرهم ، لكي تنقطع الشهوة ويتفرغوا لعبادة ربهم . فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما أردتم ؟ فقالوا : أردنا أن تنقطع الشهوة عنا ، ونتفرغ لعبادة ربنا ، ونلهو عن النساء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم أومر بذلك ، ولكني أمرت في ديني أن أتزوج النساء! فقالوا ، نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأنزل الله تعالى ذكره : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " ، إلى قوله : "الذي أنتم به مؤمنون" .

[ ص: 519 ] 12348 - حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : أراد رجالا ، منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو ، أن يتبتلوا ، ويخصوا أنفسهم ، ويلبسوا المسوح ، فنزلت هذه الآية إلى قوله : "واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون " قال ابن جريج ، عن عكرمة : أن عثمان بن مظعون ، وعلي بن أبي طالب ، وابن مسعود ، والمقداد بن الأسود ، وسالما مولى أبي حذيفة في أصحاب ، تبتلوا فجلسوا في البيوت ، واعتزلوا النساء ، ولبسوا المسوح ، وحرموا طيبات الطعام واللباس إلا ما أكل ولبس أهل السياحة من بني إسرائيل ، وهموا بالإخصاء ، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار ، فنزلت : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " ، يقول : لا تسيروا بغير سنة المسلمين ، يريد : ما حرموا من النساء والطعام واللباس ، وما أجمعوا له من صيام النهار وقيام الليل ، وما هموا به من الإخصاء . فلما نزلت فيهم ، بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن لأنفسكم حقا ، وإن لأعينكم حقا! صوموا وأفطروا ، وصلوا وناموا ، فليس منا من ترك سنتنا ! فقالوا : اللهم أسلمنا واتبعنا ما أنزلت!

12349 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب ، عن ابن زيد في قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، قال ، قال أبي : ضاف عبد الله بن رواحة ضيفا ، فانقلب ابن رواحة ولم يتعش ، فقال [ ص: 520 ] لأهله : ما عشيته ؟ فقالت : كان الطعام قليلا فانتظرت أن تأتي ! قال : فحبست ضيفي من أجلي ! فطعامك علي حرام إن ذقته ! فقالت هي : وهو علي حرام إن ذقته إن لم تذقه! وقال الضيف : هو علي حرام إن ذقته إن لم تذوقوه ! فلما رأى ذلك قال ابن رواحة : قربي طعامك ، كلوا بسم الله! وغدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد أحسنت ! فنزلت هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، وقرأ حتى بلغ : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " ، إذا قلت : "والله لا أذوقه " ، فذلك العقد .

12350 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عثمان بن سعد قال ، حدثنا عكرمة ، عن ابن عباس : أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني إذا أصبت من اللحم انتشرت ، وأخذتني شهوتي ، فحرمت اللحم؟ فأنزل الله تعالى ذكره : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " .

12351 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا خالد الحذاء ، عن عكرمة قال : هم أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 521 ] بترك النساء والخصاء ، فأنزل الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " الآية .

واختلفوا في معنى"الاعتداء " الذي قال تعالى ذكره : " ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " .

فقال بعضهم : "الاعتداء " الذي نهى الله عنه في هذا الموضع : هو ما كان عثمان بن مظعون هم به من جب نفسه ، فنهي عن ذلك ، وقيل له : "هذا هو الاعتداء" .

وممن قال ذلك السدي .

12352 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثني أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عنه .

وقال آخرون : بل ذلك هو ما كان الجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هموا به من تحريم النساء والطعام واللباس والنوم ، فنهوا أن يفعلوا ذلك ، وأن يستنوا بغير سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم . وممن قال ذلك عكرمة .

12353 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عنه .

وقال بعضهم : بل ذلك نهي من الله تعالى ذكره أن يتجاوز الحلال إلى الحرام .

ذكر من قال ذلك :

12354 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي ، عن عاصم ، عن الحسن : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا " ، قال : لا تعتدوا إلى ما حرم عليكم .

[ ص: 522 ] وقد بينا أن معنى"الاعتداء " ، تجاوز المرء ما له إلى ما ليس له في كل شيء ، فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته .

قال أبو جعفر : وإذ كان ذلك كذلك وكان الله تعالى ذكره قد عم بقوله : "لا تعتدوا " ، النهي عن العدوان كله كان الواجب أن يكون محكوما لما عمه بالعموم حتى يخصه ما يجب التسليم له . وليس لأحد أن يتعدى حد الله تعالى في شي من الأشياء مما أحل أو حرم ، فمن تعداه فهو داخل في جملة من قال تعالى ذكره : "إن الله لا يحب المعتدين" .

وغير مستحيل أن تكون الآية نزلت في أمر عثمان بن مظعون والرهط الذين هموا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هموا به من تحريم بعض ما أحل الله لهم على أنفسهم ، ويكون مرادا بحكمها كل من كان في مثل معناهم ممن حرم على نفسه ما أحل الله له ، أو أحل ما حرم الله عليه ، أو تجاوز حدا حده الله له . وذلك أن الذين هموا بما هموا به من تحريم بعض ما أحل لهم على أنفسهم ، إنما عوتبوا على ما هموا به من تجاوزهم ما سن لهم وحد ، إلى غيره .

القول في تأويل قوله ( وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ( 88 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ، لهؤلاء المؤمنين الذين نهاهم أن يحرموا طيبات ما أحل الله لهم : كلوا ، أيها المؤمنون ، من رزق الله الذي رزقكم وأحله لكم ، حلالا طيبا ، كما : -

[ ص: 523 ] 12355 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : " وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا " يعني : ما أحل الله لهم من الطعام .

وأما قوله : " واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون " ، فإنه يقول : وخافوا ، أيها المؤمنون ، أن تعتدوا في حدوده ، فتحلوا ما حرم عليكم ، وتحرموا ما أحل لكم ، واحذروه في ذلك أن تخالفوه ، فينزل بكم سخطه ، أو تستوجبوا به عقوبته "الذي أنتم به مؤمنون " ، يقول : الذي أنتم بوحدانيته مقرون ، وبربوبيته مصدقون .

القول في تأويل قوله ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ، للذين كانوا حرموا على أنفسهم الطيبات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا حرموا ذلك بأيمان حلفوا بها ، فنهاهم عن تحريمها وقال لهم : لا يؤاخذكم ربكم باللغو في أيمانكم ، كما : -

12356 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال ، لما نزلت : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، في القوم الذين كانوا حرموا النساء واللحم على أنفسهم ، قالوا : يا رسول الله ، كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فأنزل الله تعالى ذكره : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، الآية .

[ ص: 524 ] فهذا يدل على ما قلنا ، من أن القوم كانوا حرموا ما حرموا على أنفسهم بأيمان حلفوا بها ، فنزلت هذه الآية بسببهم .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك .

فقرأته عامة قرأة الحجاز وبعض البصريين : ( ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ) بتشديد"القاف " ، بمعنى : وكدتم الأيمان ورددتموها .

وقرأه قرأة الكوفيين : ( بما عقدتم الأيمان )

بتخفيف"القاف " ، بمعنى : أوجبتموها على أنفسكم ، وعزمت عليها قلوبكم .

قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك ، قراءة من قرأ بتخفيف"القاف" . وذلك أن العرب لا تكاد تستعمل"فعلت " في الكلام ، إلا فيما يكون فيه تردد مرة بعد مرة ، مثل قولهم : "شددت على فلان في كذا " ، إذا كرر عليه الشدة مرة بعد أخرى . فإذا أرادوا الخبر عن فعل مرة واحدة قيل : "شددت عليه " ، بالتخفيف .

وقد أجمع الجميع لا خلاف بينهم : أن اليمين التي تجب بالحنث فيها الكفارة ، تلزم بالحنث في حلف مرة واحدة ، وإن لم يكررها الحالف مرات . وكان معلوما بذلك أن الله مؤاخذ الحالف العاقد قلبه على حلفه ، وإن لم يكرره ولم يردده .

وإذا كان ذلك كذلك ، لم يكن لتشديد"القاف " من"عقدتم " ، وجه مفهوم .

[ ص: 525 ] فتأويل الكلام إذا : لا يؤاخذكم الله ، أيها المؤمنون ، من أيمانكم بما لغوتم فيه ، ولكن يؤاخذكم بما أوجبتموه على أنفسكم منها ، وعقدت عليه قلوبكم

وقد بينا اليمين التي هي "لغو " والتي الله مؤاخذ العبد بها ، والتي فيها الحنث ، والتي لا حنث فيها فيما مضى من كتابنا هذا ، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع .

وأما قوله : "بما عقدتم الأيمان " ، فإن هنادا :

12357 - حدثنا قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " ، قال : بما تعمدتم .

12358 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

12359 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن : " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " ، يقول : ما تعمدت فيه المأثم ، فعليك فيه الكفارة .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 44.99 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 44.36 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.40%)]