
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء العاشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة
الحلقة (568)
صــ 546 إلى صــ 560
[ ص: 545 ] القول في تأويل قوله ( أو كسوتهم )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : فكفارة ما عقدتم من الأيمان : إطعام عشرة مساكين ، أو كسوتهم . يقول : إما أن تطعموهم أو تكسوهم . والخيار في ذلك إلى المكفر .
واختلف أهل التأويل في "الكسوة " التي عنى الله تعالى ذكره بقوله : "أو كسوتهم " .
فقال بعضهم : عنى بذلك : كسوة ثوب واحد .
ذكر من قال ذلك :
12441 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في كسوة المساكين في كفارة اليمين : أدناه ثوب .
12442 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : أدناه ثوب ، وأعلاه ما شئت .
12443 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع ، عن الربيع ، عن الحسن قال في كفارة اليمين في قوله : "أو كسوتهم " ، ثوب لكل مسكين .
12444 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن مهدي ، عن وهيب ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : "أو كسوتهم " ، قال : ثوب .
12445 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبيدة وحدثنا ابن حميد وابن وكيع [ ص: 546 ] قالا : حدثنا جرير جميعا ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله : "أو كسوتهم " ، قال : ثوب .
12446 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : "أو كسوتهم " ، قال : ثوب ثوب قال منصور : القميص ، أو الرداء ، أو الإزار .
12447 - حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر في قوله : "أو كسوتهم " ، قال : كسوة الشتاء والصيف ، ثوب ثوب .
12448 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عمر بن هارون ، عن ابن جريج ، عن عطاء في قوله : "أو كسوتهم " ، قال : ثوب ثوب لكل مسكين .
12449 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبدة بن سليمان ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم في قوله : "أو كسوتهم " ، قال : إذا كساهم ثوبا ثوبا أجزأ عنه .
12450 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي ، عن أبي سنان ، عن حماد قال : ثوب أو ثوبان ، وثوب لا بد منه .
12451 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس قال : ثوب ثوب لكل إنسان . وقد كانت العباءة تقضى يومئذ من الكسوة .
[ ص: 547 ] 12452 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : "أو كسوتهم " ، قال : "الكسوة " ، عباءة لكل مسكين ، أو شملة .
12453 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي مالك قال : ثوب ، أو قميص ، أو رداء ، أو إزار .
12454 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي ، قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : إن اختار صاحب اليمين الكسوة ، كسا عشرة أناسي ، كل إنسان عباءة .
12455 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، سمعت عطاء يقول في قوله : "أو كسوتهم " ، الكسوة : ثوب ثوب .
وقال بعضهم : عنى بذلك : الكسوة ثوبين ثوبين .
ذكر من قال ذلك :
12456 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبيدة وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية جميعا ، عن داود بن أبي هند ، عن سعيد بن المسيب في قوله : "أو كسوتهم " ، قال : عباءة وعمامة .
12457 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن سعيد بن المسيب قال : عمامة يلف بها رأسه ، وعباءة يلتحف بها .
12458 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، عن أشعث ، عن الحسن وابن سيرين قالا ثوبين ثوبين .
[ ص: 548 ] 12459 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الأعلى ، عن يونس ، عن الحسن قال : ثوبين .
12460 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن يونس ، عن الحسن ، مثله .
12461 - حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن قال : ثوبان ثوبان لكل مسكين .
12462 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن عاصم الأحول ، عن ابن سيرين ، عن أبى موسى : أنه حلف على يمين ، فكسا ثوبين من معقدة البحرين .
12463 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن ابن سيرين : أن أبا موسى كسا ثوبين من معقدة البحرين .
12464 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن محمد بن عبد الأعلى : أن أبا موسى الأشعري حلف على يمين ، فرأى أن يكفر ففعل ، وكسا عشرة ثوبين ثوبين .
12465 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الأعلى ، عن هشام ، عن محمد : أن أبا موسى حلف على يمين فكفر ، فكسا عشرة مساكين ثوبين ثوبين .
12466 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم ، عن داود بن أبي هند ، عن سعيد بن المسيب قال : عباءة وعمامة لكل مسكين .
12467 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، مثله .
[ ص: 549 ] 12468 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا داود بن أبي هند قال : قال رجل عند سعيد بن المسيب : ( أو كأسوتهم ) ، فقال سعيد : لا إنما هي : "أو كسوتهم " ، قال قلت : يا أبا محمد ، ما كسوتهم؟ قال : لكل مسكين عباءة وعمامة : عباءة يلتحف بها ، وعمامة يشد بها رأسه .
12469 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : "أو كسوتهم " ، قال : الكسوة ، لكل مسكين رداء وإزار ، كنحو ما يجد من الميسرة والفاقة .
وقال آخرون : بل عنى بذلك " كسوتهم " "ثوب جامع " ، كالملحفة والكساء ، والشيء الذي يصلح للبس والنوم .
ذكر من قال ذلك :
12470 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم قال : الكسوة ثوب جامع .
12471 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا ابن فضيل ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : "أو كسوتهم " ، قال : ثوب جامع . قال وقال مغيرة : و"الثوب الجامع" : الملحفة أو الكساء أو نحوه ، ولا نرى الدرع والقميص والخمار ونحوه "جامعا" .
12472 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : ثوب جامع .
[ ص: 550 ] 12473 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : ثوب جامع .
12474 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : "أو كسوتهم " ، قال : ثوب جامع لكل مسكين .
12475 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان وشعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم في قوله : "أو كسوتهم " ، قال : ثوب جامع .
12476 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن المغيرة ، مثله .
وقال آخرون : عنى بذلك : كسوة إزار ورداء وقميص .
ذكر من قال ذلك :
12477 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الأعلى ، عن بردة ، عن رافع ، عن ابن عمر قال في الكسوة : في الكفارة إزار ورداء وقميص .
وقال آخرون : كل ما كسا فيجزئ ، والآية على عمومها .
ذكر من قال ذلك :
12478 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن ليث ، عن مجاهد قال : يجزئ في كفارة اليمين كل شيء إلا التبان .
12479 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع [ ص: 551 ] قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أشعث ، عن الحسن قال : يجزئ عمامة في كفارة اليمين .
12480 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أويس الصيرفي ، عن أبي الهيثم ، قال قال سلمان : نعم الثوب التبان .
12481 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن الشيباني ، عن الحكم قال : عمامة يلف بها رأسه .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة وأشبهها بتأويل القرآن ، قول من قال : عنى بقوله : "أو كسوتهم " ، ما وقع عليه اسم كسوة ، مما يكون ثوبا فصاعدا لأن ما دون الثوب ، لا خلاف بين جميع الحجة أنه ليس مما دخل في حكم الآية ، فكان ما دون قدر ذلك ، خارجا من أن يكون الله تعالى عناه ، بالنقل المستفيض . والثوب وما فوقه داخل في حكم الآية ، إذ لم يأت من الله تعالى وحي ، ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم خبر ، ولم يكن من الأمة إجماع بأنه غير داخل في حكمها . وغير جائز إخراج ما كان ظاهر الآية محتمله من حكم الآية ، إلا بحجة يجب التسليم لها . ولا حجة بذلك .
[ ص: 552 ] القول في تأويل قوله ( أو تحرير رقبة )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : أو فك عبد من أسر العبودة وذلها .
وأصل "التحرير " ، الفك من الأسر ، ومنه قول الفرزدق بن غالب :
أبني غدانة ، إنني حررتكم فوهبتكم لعطية بن جعال
يعني بقوله : "حررتكم " ، فككت رقابكم من ذل الهجاء ولزوم العار .
وقيل : "تحرير رقبة " ، والمحرر ذو الرقبة ، لأن العرب كان من شأنها إذا أسرت أسيرا أن تجمع يديه إلى عنقه بقد أو حبل أو غير ذلك ، وإذا أطلقته من الأسر أطلقت يديه وحلتهما مما كانتا به مشدودتين إلى الرقبة . فجرى الكلام [ ص: 553 ] عند إطلاقهم الأسير ، بالخبر عن فك يديه عن رقبته ، وهم يريدون الخبر عن إطلاقه من أسره ، كما يقال : "قبض فلان يده عن فلان " ، إذا أمسك يده عن نواله "وبسط فيه لسانه " ، إذا قال فيه سوءا فيضاف الفعل إلى الجارحة التي يكون بها ذلك الفعل دون فاعله ، لاستعمال الناس ذلك بينهم ، وعلمهم بمعنى ذلك . فكذلك ذلك في قول الله تعالى ذكره : "أو تحرير رقبة " ، أضيف "التحرير " إلى "الرقبة " ، وإن لم يكن هناك غل في رقبته ولا شد يد إليها ، وكان المراد بالتحرير نفس العبد ، بما وصفنا ، من جراء استعمال الناس ذلك بينهم لمعرفتهم بمعناه .
فإن قال قائل : أفكل الرقاب معني بذلك أو بعضه؟
قيل : بل معني بذلك كل رقبة كانت سليمة من الإقعاد ، والعمى والخرس ، وقطع اليدين أو شللهما والجنون المطبق ، ونظائر ذلك . فإن من كان به ذلك أو شيء منه من الرقاب ، فلا خلاف بين الجميع من الحجة أنه لا يجزئ في كفارة اليمين . فكان معلوما بذلك أن الله تعالى ذكره لم يعنه بالتحرير في هذه الآية . فأما الصغير والكبير والمسلم والكافر ، فإنهم معنيون به .
[ ص: 554 ] وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل العلم .
ذكر من قال ذلك :
12482 - حدثنا هناد . . . قال ، حدثنا مغيرة ، عن إبراهيم : أنه كان يقول : من كانت عليه رقبة واجبة فاشترى نسمة ، قال : إذا أنقذها من عمل أجزأته ، ولا يجوز عتق من لا يعمل . فأما الذي يعمل ، كالأعور ونحوه . وأما الذي لا يعمل فلا يجزئ ، الأعمى والمقعد .
12483 - حدثنا هناد قال ، حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن قال : كان يكره عتق المخبل في شيء من الكفارات .
12484 - حدثنا هناد قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : أنه كان لا يرى عتق المغلوب على عقله يجزئ في شيء من الكفارات .
وقال بعضهم : لا يجزئ في الكفارة من الرقاب إلا صحيح ، ويجزئ الصغير فيها .
ذكر من قال ذلك :
12485 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : لا يجزئ في الرقبة إلا صحيح .
12486 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : يجزئ المولود في الإسلام من رقبة .
12487 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال : ما كان في القرآن من "رقبة مؤمنة " ، فلا يجزئ إلا ما صام وصلى . وما كان ليس بمؤمنة ، فالصبي يجزئ .
[ ص: 555 ] وقال بعضهم : لا يقال للمولود"رقبة " ، إلا بعد مدة تأتي عليه .
ذكر من قال ذلك :
12488 - حدثني محمد بن يزيد الرفاعي قال ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن محمد بن شعيب بن شابور ، عن النعمان بن المنذر ، عن سليمان قال : إذا ولد الصبي فهو نسمة ، وإذا انقلب ظهرا لبطن فهو رقبة ، وإذا صلى فهو مؤمنة .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال ، إن الله تعالى عم بذكر "الرقبة " كل رقبة ، فأي رقبة حررها المكفر يمينه في كفارته ، فقد أدى ما كلف ، إلا ما ذكرنا أن الحجة مجمعة على أن الله تعالى ذكره ، لم يعنه بالتحرير ، فذلك خارج من حكم الآية ، وما عدا ذلك فجائز تحريره في الكفارة بظاهر التنزيل .
والمكفر مخير في تكفير يمينه التي حنث فيها بإحدى هذه الحالات الثلاث التي سماها الله في كتابه ، وذلك : إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يطعم أهله ، أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة بإجماع من الجميع ، لا خلاف بينهم في ذلك . فإن ظن ظان أن ما قلنا من أن ذلك إجماع من الجميع ، ليس كما قلنا ، لما : -
12489 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال ، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال ، حدثنا سليمان الشيباني قال ، حدثنا أبو الضحى ، عن مسروق ، قال : جاء معقل بن مقرن إلى عبد الله فقال : إني آليت من النساء والفراش! فقرأ عبد الله هذه الآية : ( لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) [ سورة المائدة : 87 ] . قال فقال معقل : إنما سألتك أن أتيت [ ص: 556 ] على هذه الآية الليلة؟ فقال عبد الله : ائت النساء ونم ، وأعتق رقبة ، فإنك موسر .
12490 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني جرير بن حازم : أن سليمان الأعمش حدثه ، عن إبراهيم بن يزيد النخعي ، عن همام بن الحارث : أن نعمان بن مقرن سأل عبد الله بن مسعود فقال : إني حلفت أن لا أنام على فراشي سنة؟ فقال ابن مسعود : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، كفر عن يمينك ، ونم على فراشك ! قال : بم أكفر عن يميني؟ قال : أعتق رقبة ، فإنك موسر .
ونحو هذا من الأخبار التي رويت عن ابن مسعود وابن عمر وغيرهما ، فإن ذلك منهم كان على وجه الاستحباب لمن أمروه بالتكفير بما أمروه به بالتكفير من [ ص: 557 ] الرقاب ، لا على أنه كان لا يجزئ عندهم التكفير للموسر إلا بالرقبة ، لأنه لم ينقل أحد عن أحد منهم أنه قال : لا يجزئ الموسر التكفير إلا بالرقبة . والجميع من علماء الأمصار ، قديمهم وحديثهم ، مجمعون على أن التكفير بغير الرقاب جائز للموسر . ففي ذلك مكتفى عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بغيره .
القول في تأويل قوله ( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : "فمن لم يجد " ، لكفارة يمينه التي لزمه تكفيرها من الطعام والكسوة والرقاب ما يكفرها به على ما فرضنا عليه وأوجبناه في كتابنا وعلى لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم "فصيام ثلاثة أيام " ، يقول : فعليه صيام ثلاثة أيام .
ثم اختلف أهل العلم في معنى قوله : "فمن لم يجد " ، ومتى يستحق الحانث في يمينه الذي قد لزمته الكفارة ، اسم "غير واجد " ، حتى يكون ممن له الصيام في ذلك .
فقال بعضهم : إذا لم يكن للحانث في وقت تكفيره عن يمينه إلا قدر قوته وقوت عياله يومه وليلته ، فإن له أن يكفر بالصيام . فإن كان عنده في ذلك الوقت قوته وقوت عياله يومه وليلته ، ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين أو ما يكسوهم ، لزمه التكفير بالإطعام أو الكسوة ، ولم يجزه الصيام حينئذ .
وممن قال ذلك الشافعي :
12491 - حدثنا بذلك عنه الربيع .
وهذا القول قصد إن شاء الله من أوجب الطعام على من كان عنده درهمان ، [ ص: 558 ] من أوجبه على من عنده ثلاثة دراهم . وبنحو ذلك : -
12492 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن حماد بن سلمة ، عن عبد الكريم ، عن سعيد بن جبير ، قال : إذا لم يكن له إلا ثلاثة دراهم أطعم قال : يعني في الكفارة .
12493 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني معتمر بن سليمان قال : قلت لعمر بن راشد : الرجل يحلف ولا يكون عنده من الطعام إلا بقدر ما يكفر ، قال : كان قتادة يقول : يصوم ثلاثة أيام .
12494 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال ، حدثنا يونس بن عبيد ، عن الحسن قال ، إذا كان عنده درهمان .
12495 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا معتمر ، عن حماد ، عن عبد الكريم أبي أمية ، عن سعيد بن جبير قال : ثلاثة دراهم .
وقال آخرون : جائز لمن لم يكن عنده مائتا درهم أن يصوم ، وهو ممن لا يجد .
وقال آخرون : جائز لمن لم يكن عنده فضل عن رأس ماله يتصرف به لمعاشه ما يكفر به بالإطعام أن يصوم ، إلا أن يكون له كفاية ، ومن المال ما يتصرف به لمعاشه ، ومن الفضل عن ذلك ما يكفر به عن يمينه . وهذا قول كان يقوله بعض متأخري المتفقهة .
[ ص: 559 ] قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن من لم يكن عنده في حال حنثه في يمينه إلا قدر قوته وقوت عياله يومه وليلته ، لا فضل له عن ذلك ، يصوم ثلاثة أيام ، وهو ممن دخل في جملة من لا يجد ما يطعم أو يكسو أو يعتق . وإن كان عنده في ذلك الوقت من الفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته ، ما يطعم أو يكسو عشرة مساكين ، أو يعتق رقبة ، فلا يجزيه حينئذ الصوم ، لأن إحدى الحالات الثلاث حينئذ من إطعام أو كسوة أو عتق ، حق قد أوجبه الله تعالى ذكره في ماله وجوب الدين . وقد قامت الحجة بأن المفلس إذا فرق ماله بين غرمائه : أنه لا يترك ذلك اليوم إلا ما لابد له من قوته وقوت عياله يومه وليلته . فكذلك حكم المعدم بالدين الذي أوجبه الله تعالى ذكره في ماله بسبب الكفارة التي لزمت ماله .
واختلف أهل العلم في صفة الصوم الذي أوجبه الله في كفارة اليمين . فقال بعضهم : صفته أن يكون مواصلا بين الأيام الثلاثة غير مفرقها .
ذكر من قال ذلك :
12496 - حدثنا محمد بن العلاء قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد قال : كل صوم في القرآن فهو متتابع ، إلا قضاء رمضان ، فإنه عدة من أيام أخر .
12497 - حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس قال : كان أبي بن كعب يقرأ : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .
12498 - حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي قال ، حدثنا عبيد الله بن [ ص: 560 ] موسى ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب ، أنه كان يقرأ : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .
12499 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن قزعة ، عن سويد ، عن سيف بن سليمان ، عن مجاهد ، قال : في قراءة عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .
12500 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن ابن عون ، عن إبراهيم قال : في قراءتنا : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .
12501 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن إبراهيم ، مثله .
12502 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قراءة أصحاب عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .
12503 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر قال : في قراءة عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .
12504 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن حميد ، عن معمر ، عن أبي إسحاق في قراءة عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .
12505 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن حميد ، عن معمر ، [ ص: 561 ] عن الأعمش قال : كان أصحاب عبد الله يقرؤن : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .
12506 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع قال ، سمعت سفيان ، يقول : إذا فرق صيام ثلاثة أيام لم يجزه . قال : وسمعته يقول في رجل صام في كفارة يمين ثم أفطر ، قال ، يستقبل الصوم .
12507 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : "فصيام ثلاثة أيام " ، قال : إذا لم يجد طعاما ، وكان في بعض القراءة : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) . وبه كان يأخذ قتادة .
12508 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : هو بالخيار في هؤلاء الثلاثة ، الأول فالأول ، فإن لم يجد من ذلك شيئا فصيام ثلاثة أيام متتابعات .
وقال آخرون : جائز لمن صامهن أن يصومهن كيف شاء ، مجتمعات ومفترقات .
ذكر من قال ذلك :
12509 - حدثني يونس قال ، أخبرنا أشهب قال ، قال مالك : كل ما ذكر الله في القرآن من الصيام ، فأن يصام تباعا أعجب . فإن فرقها رجوت أن تجزئ عنه .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى [ ص: 562 ] ذكره أوجب على من لزمته كفارة يمين ، إذا لم يجد إلى تكفيرها بالإطعام أو الكسوة أو العتق سبيلا أن يكفرها بصيام ثلاثة أيام ، ولم يشرط في ذلك متتابعة . فكيفما صامهن المكفر مفرقة ومتتابعة أجزأه . لأن الله تعالى ذكره إنما أوجب عليه صيام ثلاثة أيام ، فكيفما أتى بصومهن أجزأ .
فأما ما روى عن أبي وابن مسعود من قراءتهما : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) ، فذلك خلاف ما في مصاحفنا . وغير جائز لنا أن نشهد لشيء ليس في مصاحفنا من الكلام أنه من كتاب الله . غير أني أختار للصائم في كفارة اليمين أن يتابع بين الأيام الثلاثة ، ولا يفرق . لأنه لا خلاف بين الجميع أنه إذا فعل ذلك فقد أجزأ ذلك عنه من كفارته ، وهم في غير ذلك مختلفون . ففعل ما لا يختلف في جوازه أحب إلي ، وإن كان الآخر جائزا .
