عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 17-02-2025, 11:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,413
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء العاشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة
الحلقة (569)
صــ 561 إلى صــ 580







القول في تأويل قوله ( ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ( 89 ) )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "ذلك " ، هذا الذي ذكرت لكم أنه كفارة أيمانكم ، من إطعام العشرة المساكين ، أو كسوتهم ، أو تحرير الرقبة ، وصيام الثلاثة الأيام إذا لم تجدوا من ذلك شيئا هو كفارة أيمانكم التي عقدتموها إذا حلفتم ، واحفظوا أيها الذين آمنوا أيمانكم أن تحنثوا فيها ، ثم تضيعوا الكفارة فيها بما وصفته لكم "كذلك يبين الله لكم آياته " ، كما بين لكم كفارة أيمانكم ، [ ص: 563 ] كذلك يبين الله لكم جميع آياته يعني أعلام دينه فيوضحها لكم لئلا يقول المضيع المفرط فيما ألزمه الله : "لم أعلم حكم الله في ذلك! " "لعلكم تشكرون " ، يقول : لتشكروا الله على هدايته إياكم وتوفيقه لكم .

القول في تأويل قوله ( ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ( 90 ) )

قال أبو جعفر : وهذا بيان من الله تعالى ذكره للذين حرموا على أنفسهم النساء والنوم واللحم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، تشبها منهم بالقسيسين والرهبان ، فأنزل الله فيهم على نبيه صلى الله عليه وسلم كتابه ينهاهم عن ذلك فقال : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) ، [ سورة المائدة : 87 ] . [ ص: 564 ]

فنهاهم بذلك عن تحريم ما أحل الله لهم من الطيبات . ثم قال : ولا تعتدوا أيضا في حدودي ، فتحلوا ما حرمت عليكم ، فإن ذلك لكم غير جائز ، كما غير جائز لكم تحريم ما حللت ، وإني لا أحب المعتدين . ثم أخبرهم عن الذي حرم عليهم مما إذا استحلوه وتقدموا عليه ، كانوا من المعتدين في حدوده فقال لهم : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، إن الخمر التي تشربونها ، والميسر الذي تتياسرونه ، والأنصاب التي تذبحون عندها ، والأزلام التي تستقسمون بها "رجس " ، يقول : إثم ونتن سخطه الله وكرهه لكم "من عمل الشيطان " ، يقول : شربكم الخمر ، وقماركم على الجزر ، وذبحكم للأنصاب ، واستقسامكم بالأزلام ، من تزيين الشيطان لكم ، ودعائه إياكم إليه ، وتحسينه لكم ، لا من الأعمال التي ندبكم إليها ربكم ، ولا مما يرضاه لكم ، بل هو مما يسخطه لكم "فاجتنبوه " ، يقول : فاتركوه وارفضوه ولا تعملوه "لعلكم تفلحون " ، يقول : لكي تنجحوا فتدركوا الفلاح عند ربكم بترككم ذلك .

وقد بينا معنى"الخمر " ، و"الميسر " ، و"الأزلام " فيما مضى ، فكرهنا إعادته .

وأما " الأنصاب " ، فإنها جمع " نصب " ، وقد بينا معنى " النصب " بشواهده فيما مضى .

[ ص: 565 ] وروي عن ابن عباس في معنى"الرجس " في هذا الموضع ، ما : -

12510 - حدثني به المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : "رجس من عمل الشيطان " ، يقول : سخط .

وقال ابن زيد في ذلك ، ما : -

12511 - حدثني به يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "رجس من عمل الشيطان " ، قال : "الرجس " ، الشر .

القول في تأويل قوله ( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ( 91 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إنما يريد لكم الشيطان شرب الخمر والمياسرة بالقداح ، ويحسن ذلك لكم ، إرادة منه أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في شربكم الخمر ومياسرتكم بالقداح ، ليعادي بعضكم بعضا ، ويبغض بعضكم إلى بعض ، فيشتت أمركم بعد تأليف الله بينكم بالإيمان ، وجمعه بينكم بأخوة الإسلام "ويصدكم عن ذكر الله " ، يقول : ويصرفكم بغلبة هذه الخمر بسكرها إياكم عليكم ، وباشتغالكم بهذا الميسر عن ذكر الله الذي به صلاح دنياكم وآخرتكم "وعن الصلاة " ، التي فرضها عليكم ربكم "فهل أنتم منتهون " ، [ ص: 566 ] يقول : فهل أنتم منتهون عن شرب هذه ، والمياسرة بهذا ، وعاملون بما أمركم به ربكم من أداء ما فرض عليكم من الصلاة لأوقاتها ، ولزوم ذكره الذي به نجح طلباتكم في عاجل دنياكم وآخرتكم؟ .

واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية .

فقال بعضهم : نزلت بسبب كان من عمر بن الخطاب ، وهو أنه ذكر مكروه عاقبة شربها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسأل الله تحريمها .

ذكر من قال ذلك :

12512 - حدثنا هناد بن السري ، قال ، حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة قال ، قال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا! قال : فنزلت الآية التي في"البقرة" : ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ) ، [ سورة البقرة : 219 ] . قال : فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا! فنزلت الآية التي في"النساء" : ( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) [ سورة النساء : 43 ] . قال : وكان منادي النبي صلى الله عليه وسلم ينادي إذا حضرت الصلاة : لا يقربن الصلاة السكران! قال : فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا! قال : فنزلت الآية التي في"المائدة" : " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس " إلى قوله : "فهل أنتم منتهون" . فلما انتهى إلى قوله : "فهل أنتم منتهون " قال عمر : انتهينا انتهينا !!

[ ص: 567 ] 12513 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، حدثنا أبي ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة قال ، قال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، فإنها تذهب بالعقل والمال! ثم ذكر نحو حديث وكيع .

[ ص: 568 ] 12514 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن زكريا ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة قال ، قال عمر بن الخطاب : اللهم بين لنا ، فذكر نحوه .

12515 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أبيه وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، عن عمر بن الخطاب ، مثله .

12516 - حدثنا هناد قال ، حدثنا يونس بن بكير ، قال ، حدثنا زكريا بن أبي زائدة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، عن عمر بن الخطاب ، مثله .

12517 - حدثنا هناد قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثني أبو معشر المدني ، عن محمد بن قيس ، قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، أتاه الناس وقد كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، فسألوه عن ذلك ، فأنزل الله تعالى : ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ) [ سورة البقرة : 219 ] ، فقالوا : هذا شيء قد جاء فيه رخصة ، نأكل الميسر ونشرب الخمر ، ونستغفر من ذلك! . حتى أتى رجل صلاة المغرب ، فجعل يقرأ : ( قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ) [ سورة الكافرون ] . فجعل لا يجوز ذلك ،

ولا يدري ما يقرأ ، فأنزل الله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) [ سورة النساء : 43 ] . فكان الناس يشربون الخمر ، حتى يجيء وقت الصلاة فيدعون شربها ، فيأتون الصلاة وهم يعلمون ما يقولون . فلم يزالوا كذلك حتى أنزل الله تعالى ذكره : "إنما [ ص: 569 ] الخمر والميسر والأنصاب والأزلام " إلى قوله : "فهل أنتم منتهون " ، فقالوا : انتهينا يا رب !

وقال آخرون : نزلت هذه الآية بسبب سعد بن أبي وقاص . وذلك أنه كان لاحى رجلا على شراب لهما ، فضربه صاحبه بلحيى جمل ، ففزر أنفه ، فنزلت فيهما .

ذكر الرواية بذلك :

12518 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن سماك بن حرب ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه سعد أنه قال : صنع رجل من الأنصار طعاما ، فدعانا . قال : فشربنا الخمر حتى انتشينا ، فتفاخرت الأنصار وقريش ، فقالت الأنصار : نحن أفضل منكم! قال : فأخذ رجل من الأنصار لحيى جمل فضرب به أنف سعد ففزره ، فكان سعد أفزر الأنف . قال : فنزلت هذه الآية : "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر " إلى آخر الآية .

[ ص: 570 ] 12519 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص ، قال حدثنا شعبة ، عن سماك ، عن مصعب بن سعد قال ، قال سعد : شربت مع قوم من الأنصار ، فضربت رجلا منهم أظن بفك جمل فكسرته ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فلم ألبث أن نزل تحريم الخمر : " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر " ، إلى آخر الآية .

12520 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه قال : شربت الخمر مع قوم من الأنصار ، فذكر نحوه .

12521 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني عمرو بن الحارث ، أن ابن شهاب أخبره ، أن سالم بن عبد الله حدثه : أن أول ما حرمت الخمر ، أن سعد بن أبي وقاص وأصحابا له شربوا فاقتتلوا ، فكسروا أنف سعد ، فأنزل الله : "إنما الخمر والميسر " ، الآية .

[ ص: 571 ] وقال آخرون : نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار .

ذكر من قال ذلك :

12522 - حدثنا الحسين بن علي الصدائي قال ، حدثنا حجاج بن المنهال قال ، حدثنا ربيعة بن كلثوم عن جبر ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا . حتى إذا ثملوا ، عبث بعضهم على بعض . فلما أن صحوا جعل الرجل منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته فيقول : فعل بي هذا أخي فلان ! وكانوا إخوة ، ليس في قلوبهم ضغائن ، والله لو كان بي رءوفا رحيما ما فعل بي هذا ! حتى وقعت في قلوبهم ضغائن ، فأنزل الله : "إنما الخمر والميسر " إلى قوله : "فهل أنتم منتهون"! فقال ناس من المتكلفين : رجس في بطن فلان قتل يوم بدر ، وقتل فلان يوم أحد ! فأنزل الله : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ) [ سورة المائدة : 93 ] ، . الآية . [ ص: 572 ]

12523 - حدثنا محمد بن خلف قال ، حدثنا سعيد بن محمد الجرمي ، عن أبي تميلة ، عن سلام مولى حفص بن أبي القاسم ، عن ابن بريدة ، عن أبيه قال : بينما نحن قعود على شراب لنا ، [ ونحن على رملة ، ونحن ثلاثة أو أربعة ، وعندنا باطية لنا ] ، ونحن نشرب الخمر حلا إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه ، وقد نزل تحريم الخمر : " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان " ، إلى آخر الآيتين ، "فهل أنتم منتهون " ، فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم إلى قوله : "فهل أنتم منتهون"؟ قال : وبعض القوم شربته في يده ، قد شرب بعضا وبقي بعض في الإناء ، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام . ثم صبوا ما في باطيتهم ، فقالوا : انتهينا ربنا! انتهينا ربنا ! [ ص: 573 ]

وقال آخرون : إنما كانت العداوة والبغضاء ، كانت تكون بين الذين نزلت فيهم هذه الآية بسبب الميسر ، لا بسبب السكر الذي يحدث لهم من شرب الخمر . فلذلك نهاهم الله عن الميسر .

ذكر من قال ذلك :

12524 - حدثنا بشر قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال بشر : وقد سمعته من يزيد وحدثنيه قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كان الرجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله ، فيقعد حريبا سليبا ينظر إلى ماله في يدي غيره ، فكانت تورث بينهم عداوة وبغضاء ، فنهى الله عن ذلك وقدم فيه . والله أعلم بالذي يصلح خلقه .

[ ص: 574 ] قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال ، إن الله تعالى قد سمى هذه الأشياء التي سماها في هذه الآية " رجسا " ، وأمر باجتنابها .

وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية ، وجائز أن يكون نزولها كان بسبب دعاء عمر رضى الله عنه في أمر الخمر ، وجائز أن يكون ذلك كان بسبب ما نال سعدا من الأنصاري عند انتشائهما من الشراب ، وجائز أن يكون كان من أجل ما كان يلحق أحدهم عند ذهاب ماله بالقمار من عداوة من يسره وبغضه ، وليس عندنا بأي ذلك كان خبر قاطع للعذر . غير أنه أي ذلك كان فقد لزم حكم الآية جميع أهل التكليف ، وغير ضائرهم الجهل بالسبب الذي له نزلت هذه الآية . فالخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ، فرض على جميع من بلغته الآية من التكليف اجتناب جميع ذلك ، كما قال تعالى : " فاجتنبوه لعلكم تفلحون " .

القول في تأويل قوله ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ( 92 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه " " وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول " ، في اجتنابكم [ ص: 575 ] ذلك ، واتباعكم أمره فيما أمركم به من الانزجار عما زجركم عنه من هذه المعاني التي بينها لكم في هذه الآية وغيرها ، وخالفوا الشيطان في أمره إياكم بمعصية الله في ذلك وفي غيره ، فإنه إنما يبغي لكم العداوة والبغضاء بينكم بالخمر والميسر

"واحذروا " ، يقول : واتقوا الله وراقبوه أن يراكم عند ما نهاكم عنه من هذه الأمور التي حرمها عليكم في هذه الآية وغيرها ، أو يفقدكم عند ما أمركم به ، فتوبقوا أنفسكم وتهلكوها " فإن توليتم " ، يقول : فإن أنتم لم تعملوا بما أمرناكم به ، وتنتهوا عما نهيناكم عنه ، ورجعتم مدبرين عما أنتم عليه من الإيمان والتصديق بالله وبرسوله ، واتباع ما جاءكم به نبيكم " فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين " ، يقول : فاعلموا أنه ليس على من أرسلناه إليكم بالنذارة غير إبلاغكم الرسالة التي أرسل بها إليكم ، مبينة لكم بيانا يوضح لكم سبيل الحق ، والطريق الذي أمرتم أن تسلكوه . وأما العقاب على التولية والانتقام بالمعصية ، فعلى المرسل إليه دون الرسل .

وهذا من الله تعالى وعيد لمن تولى عن أمره ونهيه . يقول لهم تعالى ذكره : فإن توليتم عن أمري ونهيي ، فتوقعوا عقابي ، واحذروا سخطي .

[ ص: 576 ] القول في تأويل قوله ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ( 93 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للقوم الذين قالوا إذ أنزل الله تحريم الخمر بقوله : " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه " : كيف بمن هلك من إخواننا وهم يشربونها؟ وبنا وقد كنا نشربها؟ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات منكم حرج فيما شربوا من ذلك ، في الحال التي لم يكن الله تعالى حرمه عليهم " إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ، يقول : إذا ما اتقى الله الأحياء منهم فخافوه ، وراقبوه في اجتنابهم ما حرم عليهم منه ، وصدقوا الله ورسوله فيما أمراهم ونهياهم ، فأطاعوهما في ذلك كله " وعملوا الصالحات ، يقول : واكتسبوا من الأعمال ما يرضاه الله في ذلك مما كلفهم بذلك ربهم " ثم اتقوا وآمنوا " ، يقول : ثم خافوا الله وراقبوه باجتنابهم محارمه بعد ذلك التكليف أيضا ، فثبتوا على اتقاء الله في ذلك والإيمان به ، ولم يغيروا ولم يبدلوا"ثم اتقوا وأحسنوا " ، يقول : ثم خافوا الله ، فدعاهم خوفهم الله إلى الإحسان ، وذلك "الإحسان " ، هو العمل بما لم يفرضه عليهم من الأعمال ، ولكنه نوافل تقربوا بها إلى ربهم طلب رضاه ، وهربا من عقابه "والله يحب المحسنين " ، يقول : والله يحب المتقربين إليه بنوافل الأعمال التي يرضاها .

[ ص: 577 ] فالاتقاء الأول : هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق ، والدينونة به والعمل ، والاتقاء الثاني : الاتقاء بالثبات على التصديق ، وترك التبديل والتغيير ، والاتقاء الثالث : هو الاتقاء بالإحسان ، والتقرب بنوافل الأعمال .

فإن قال قائل : ما الدليل على أن "الاتقاء " الثالث ، هو الاتقاء بالنوافل ، دون أن يكون ذلك بالفرائض؟

قيل : إنه تعالى ذكره قد أخبر عن وضعه الجناح عن شاربي الخمر التي شربوها قبل تحريمه إياها ، إذا هم اتقوا الله في شربها بعد تحريمها ، وصدقوا الله ورسوله في تحريمها ، وعملوا الصالحات من الفرائض . ولا وجه لتكرير ذلك وقد مضى ذكره في آية واحدة .

وبنحو الذي قلنا من أن هذه الآية نزلت فيما ذكرنا أنها نزلت فيه ، جاءت الأخبار عن الصحابة والتابعين .

ذكر من قال ذلك :

12525 - حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا : حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما نزل تحريم الخمر قالوا : يا رسول الله ، فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ؟ فنزلت : "ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح " ، الآية .

[ ص: 578 ] 12526 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الله ، عن إسرائيل بإسناده ، نحوه .

12527 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثني عبد الكبير بن عبد المجيد قال ، أخبرنا عباد بن راشد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال : بينا أنا أدير الكأس على أبي طلحة ، وأبي عبيدة بن الجراح ، ومعاذ بن جبل ، وسهيل بن بيضاء ، وأبي دجانة ، حتى مالت رءوسهم من خليط بسر وتمر . فسمعنا مناديا ينادي : ألا إن الخمر قد حرمت ! قال : فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج ، حتى أهرقنا الشراب ، وكسرنا القلال ، وتوضأ بعضنا ، واغتسل بعضنا ، فأصبنا من طيب أم سليم ، ثم خرجنا إلى المسجد ، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون " ، إلى قوله : " فهل أنتم منتهون " . فقال رجل : يا رسول الله ، فما منزلة من مات منا وهو يشربها؟ فأنزل الله تعالى ذكره : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " الآية ، فقال رجل لقتادة : سمعته من أنس بن مالك ؟ قال : نعم ! قال رجل لأنس بن مالك : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال : نعم ! وحدثني من لم يكذب ، والله ما كنا نكذب ، ولا ندري ما الكذب !

[ ص: 579 ] 12528 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : لما حرمت الخمر قالوا : كيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ؟ فنزلت : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " ، الآية .

12529 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال ، قال البراء : مات ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر ، فلما نزل تحريمها ، قال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فنزلت هذه الآية : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات " ، الآية .

12530 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا داود ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : نزلت : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما ، فيمن قتل ببدر وأحد مع محمد صلى الله عليه وسلم .

12531 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا خالد بن مخلد قال ، حدثنا علي بن مسهر ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : لما نزلت : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قيل لي : أنت منهم .

12532 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " ، إلى قوله : " والله يحب المحسنين لما أنزل الله تعالى ذكره تحريم الخمر في"سورة المائدة " ، بعد "سورة الأحزاب " ، قال في ذلك [ ص: 581 ] رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أصيب فلان يوم بدر ، وفلان يوم أحد ، وهم يشربونها ! فنحن نشهد أنهم من أهل الجنة ! فأنزل الله تعالى ذكره : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين " ، يقول : شربها القوم على تقوى من الله وإحسان ، وهي لهم يومئذ حلال ، ثم حرمت بعدهم ، فلا جناح عليهم في ذلك .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.87 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.24 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.66%)]