«عون الرحمن في تفسير القرآن»
الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم
فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ... ﴾
قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾[آل عمران: 42 - 44].
1- التذكير بقصة مريم عليها السلام تعظيمًا لشأنها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ ﴾ الآية.
2- مخاطبة الملائكة عليهم السلام لمريم عليها السلام؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ ﴾ الآية؛ مما يدل على فضلها وشرفها وكرامتها.
وليس في هذا دلالة على نبوتها، فالنبوة خاصة في الرجال؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ [يوسف: 109]، و«إلا» تفيد الحصر، أي: إلا رجالًا فقط.
3- اصطفاء الله تعالى لمريم عليها السلام اصطفاءً ذاتيًّا عامًّا؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ ﴾؛ أي: حباكِ من صفوة خلقه وخيارهم.
4- تطهير الله - عز وجل - لمريم بالتصديق والإيمان، وحفظه لها من الفواحش والمعاصي؛ لقوله تعالى: ﴿ وَطَهَّرَكِ ﴾.
5- الرد على اليهود في اتهامهم مريم أنها بغيٌّ، وأن ابنها عيسى ولد زنا - أخزاهم الله وقبَّحهم - لقوله تعالى: ﴿ وَطَهَّرَكِ ﴾.
6- تفضيل الله تعالى لمريم عليها السلام، واصطفاؤه لها اصطفاءً خاصًّا على نساء العالمين؛ لقوله تعالى: ﴿ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾، فهي أفضل نساء عالم زمانها، وهي من أفضل وخير نساء العالمين؛ قال صلى الله عليه وسلم: «خير نسائها مريم ابنة عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد»[1]؛ أي: خير نساء الجنة.
وقال صلى الله عليه وسلم: «حسبُك من نساء العالمين مريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون»[2].
وسبق في حديث أبي موسى - رضي الله عنه - أنها ممن كمُل من النساء، بل قيل: إنها أفضل نساء العالمين مطلقًا، ويَرُد هذا ما جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير نساء ركبنَ الإبل نساء قريش، أحناه على ولدٍ في صغره، وأرعاه على بعلٍ في ذات يده، ولو علمت أن مريم ابنة عمران ركبت بعيرًا ما فضلت عليها أحدًا»[3].
7- تأكيد فضيلة مريم عليها السلام؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾ لتكرار قوله: ﴿ اصْطَفَاكِ ﴾.
8- أمر الله - عز وجل - مريم عليها السلام بالقنوت والسجود والركوع مع الراكعين، شكرًا لله تعالى، وتنبيهًا لما يريد الله بها من أمر قدَّرهُ وقضاه مما فيه محنة لها ورِفعة في الدارين بما أظهره لله تعالى فيها من قدرته العظيمة؛ حيث خلق منها ولدًا من غير أبٍ.
9- وجوب شكر نعمة الله تعالى، وأنه كلما كانت النعمة والمنة أعظمَ، كان الشكر لله أوجبَ وأعظم؛ لقوله تعالى لمريم بعد أن بيَّن فضلها واصطفاءه لها: ﴿ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ ﴾ الآية.
10- الترغيب بالقنوت لله تعالى، ودوام الطاعة؛ لقوله تعالى: ﴿ اقْنُتِي لِرَبِّكِ ﴾.
11- فضل الصلاة، وأنها من أعظم العبادات في جميع الشرائع السماوية، وأنها في كل الشرائع ذات ركوع وسجود؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾.
12- أن من أعظم أركان الصلاة وأعمالها: الركوع والسجود، وقدَّم السجود في الآية مع أن الركوع قبله في الترتيب؛ لأن السجود - والله أعلم - أفضل من حيث الهيئة، وأبلغ في الخضوع، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأما الركوع فعَظِّموا فيه الرب - عز وجل - وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقَمِنٌ أن يُستجاب لكم»[4]، وعن أبي هريرة رضي لله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقربُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»[5].
13- وجوب الإخلاص لله تعالى وحده في العبادة؛ لقوله تعالى: ﴿ لربِّك ﴾.
14- ربوبية الله - عز وجل - لمريم ربوبية خاصة؛ لقوله تعالى: ﴿ لربِّك ﴾.
15- تعظيم ما حصل في القصص المذكور؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ ﴾؛ فأشار إليها بإشارة البعيد وسمَّاها «أنبـاء» تعظيمًا لها.
16- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ﴾.
17- إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الله تعالى أوحى إليه الرد على المكذبين لرسالته من أهل الكتاب وغيرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ﴾ الآية.
18- تنافس الملأ من بني إسرائيل واقتراعهم بأقلامهم أيهم يَكفُل مريم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ﴾.
19- تخاصم بني إسرائيل في كفالة مريم، فكل منهم يريد أن يكفلها وفاءً لحق عمران والدها، وكان من أكبر أحبارهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾؛ حتى صارت القرعة من نصيب زكريا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ﴾ [آل عمران: 37].
20- تأكيد أن ما ذكر الله في هذه القصص مما غاب عنه صلى الله عليه وسلم، ومما أوحاه الله إليه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ ﴾ الآية، وقوله: ﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾.
وفي هذا تأكيد إثبات رسالته صلى الله عليه وسلم، وتعريض بأهل الكتاب، كيف يكذبونه مع ما جاءهم من هذه الأخبار التي يعلمون صدقَها مما لم يشهده صلى الله عليه وسلم، ولا عَلِمهُ من ذي قبل، وإنما أوحاه الله تعالى إليه، فصار إخبارهم بهذا من طريق ما أوحاه الله إليه، كأنه شاهد معهم؟!
21- مشروعية القرعة عند الحاجة لها؛ لقوله تعالى: ﴿ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ ﴾؛ أي: للاقتراع، وكما قال تعالى في قصة يونس: ﴿ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ﴾ [الصافات: 141].
22- المنافسة في عمل الخير، فإن بني إسرائيل تنافسوا أيهم يكفل مريم عليها السلام، وكلهم يقول: أنا أَولى بكفالتها طلبًا للأجر والثواب؛ لأنها بنت إمامهم وسيدهم عمران عليه السلام.
23- عناية الله تعالى بأوليائه، وتسخيره لهم، وحفظهم، بسبب صلاحهم وصلاح آبائهم، كما قال تعالى: ﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ﴾ [الكهف: 82].
[1] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3432)، ومسلم في الفضائل (2430)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
[2] أخرجه الترمذي في المناقب (3878)، من حديث أنس - رضي الله عنه - وصحَّحه.
[3] أخرجه البخاري في النكاح (5082)، ومسلم في فضائل الصحابة (2527).
[4] أخرجه مسلم في الصلاة (479)، وأبو داود في الصلاة (876)، والنسائي في التطبيق (876).
[5] أخرجه مسلم في الصلاة (482)، وأبو داود في الصلاة (875)، والنسائي في التطبيق (1137).