
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (10)
سُورَةُ الحجر
من صــ 26 الى صــ 35
الحلقة (414)
قوله تعالى : إلا عبادك منهم المخلصين قرأ أهل المدينة وأهل الكوفة بفتح اللام ; أي الذين استخلصتهم وأخلصتهم . وقرأ الباقون بكسر اللام ; أي الذين أخلصوا لك العبادة من فساد أو رياء . حكى أبو ثمامة أن الحواريين سألوا عيسى - عليه السلام - عن المخلصين لله فقال : ( الذي يعمل ولا يحب أن يحمده الناس ) .
قوله تعالى : قال هذا صراط علي مستقيم قال عمر بن الخطاب : ( معناه هذا صراط يستقيم بصاحبه حتى يهجم به على الجنة ) . الحسن : علي بمعنى إلي . مجاهد والكسائي : هذا على الوعيد والتهديد ; كقولك لمن تهدده : طريقك علي ومصيرك إلي . وكقوله : إن ربك لبالمرصاد . فكان معنى الكلام : هذا طريق مرجعه إلي فأجازي كلا بعمله ، يعني طريق العبودية . وقيل : المعنى علي أن أدل على الصراط المستقيم بالبيان والبرهان . وقيل : بالتوفيق والهداية . وقرأ ابن سيرين وقتادة والحسن وقيس بن عباد وأبو رجاء وحميد ويعقوب " هذا صراط علي مستقيم " برفع " علي " وتنوينه ; ومعناه رفيع مستقيم ، أي رفيع في الدين والحق . وقيل : رفيع أن ينال ، مستقيم أن يمال .
قوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان قال العلماء : يعني على قلوبهم . وقال ابن عيينة : أي في أن يلقيهم في ذنب يمنعهم عفوي ويضيقه عليهم . وهؤلاء الذين هداهم الله واجتباهم واختارهم واصطفاهم .
قلت : لعل قائلا يقول : قد أخبر الله عن صفة آدم وحواء - عليهما السلام - بقوله : فأزلهما الشيطان [ ص: 27 ] وعن جملة من أصحاب نبيه بقوله : إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا فالجواب ما ذكر ، وهو أنه ليس له سلطان على قلوبهم ، ولا موضع إيمانهم ، ولا يلقيهم في ذنب يئول إلى عدم القبول ، بل تزيله التوبة وتمحوه الأوبة . ولم يكن خروج آدم عقوبة لما تناول ; على ما تقدم في " البقرة " بيانه . وأما أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد مضى القول عنهم في آل عمران . ثم إن قوله سبحانه : ليس لك عليهم سلطان يحتمل أن يكون خاصا فيمن حفظه الله ، ويحتمل أن يكون في أكثر الأوقات والأحوال ، وقد يكون في تسلطه تفريج كربة وإزالة غمة ; كما فعل ببلال ، إذ أتاه يهدئه كما يهدأ الصبي حتى نام ، ونام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فلم يستيقظوا حتى طلعت الشمس ، وفزعوا وقالوا : ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا ؟ فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : ليس في النوم تفريط ففرج عنهم .
إلا من اتبعك من الغاوين أي الضالين المشركين . أي سلطانه على هؤلاء ; دليله إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون .
الثانية : وهذه الآية والتي قبلها دليل على جواز استثناء القليل من الكثير والكثير من القليل ; مثل أن يقول : عشرة إلا درهما . أو يقول : عشرة إلا تسعة . وقال أحمد بن حنبل : لا يجوز أن يستثنى إلا قدر النصف فما دونه . وأما استثناء الأكثر من الجملة فلا يصح . ودليلنا هذه الآية ، فإن فيها استثناء الغاوين من العباد والعباد من الغاوين ، وذلك يدل على أن استثناء الأقل من الجملة واستثناء الأكثر من الجملة جائز .
قوله تعالى : وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم [ ص: 28 ] قوله تعالى : وإن جهنم لموعدهم أجمعين يعني إبليس ومن اتبعه .
لها سبعة أبواب أي أطباق ، طبق فوق طبق
لكل باب منهم أي لكل طبقة
جزء مقسوم أي حظ معلوم . ذكر ابن المبارك قال : أخبرنا إبراهيم أبو هارون الغنوي قال : سمعت حطان بن عبد الله الرقاشي يقول سمعت عليا - رضي الله عنه - يقول : ( هل تدرون كيف أبواب جهنم ؟ قلنا : هي مثل أبوابنا . قال لا ، هي هكذا بعضها فوق بعض ، - زاد الثعلبي : ووضع إحدى يديه على الأخرى : وأن الله وضع الجنان على الأرض ، والنيران بعضها فوق بعض ، فأسفلها جهنم ، وفوقها الحطمة ، وفوقها سقر ، وفوقها الجحيم ، وفوقها لظى ، وفوقها السعير ، وفوقها الهاوية ، وكل باب أشد حرا من الذي يليه سبعين مرة ) .
قلت : كذا وقع هذا التفسير . والذي عليه الأكثر من العلماء أن جهنم أعلى الدركات ، وهي مختصة بالعصاة من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهي التي تخلى من أهلها فتصفق الرياح أبوابها . ثم لظى ، ثم الحطمة ، ثم سعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية . قال الضحاك : في الدرك الأعلى المحمديون ، وفي الثاني النصارى ، وفي الثالث اليهود ، وفي الرابع الصابئون ، وفي الخامس المجوس ، وفي السادس مشركو العرب ، وفي السابع المنافقون وآل فرعون ومن كفر من أهل المائدة . قال الله - تعالى - : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار - وقد تقدم في النساء - ، وقال : أدخلوا آل فرعون أشد العذاب . وقسم معاذ بن جبل - رضي الله عنه - العلماء السوء من هذه الأمة تقسيما على تلك الأبواب ; ذكرناه في كتاب ( التذكرة ) وروى الترمذي من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل سيفه على أمتي قال : حديث غريب . وقال أبي بن كعب : ( لجهنم سبعة أبواب باب منها للحرورية .
[ ص: 29 ] وقال وهب بن منبه : بين كل بابين مسيرة سبعين سنة ، كل باب أشد حرا من الذي فوقه بسبعين ضعفا ، وقد ذكرنا هذا كله في كتاب التذكرة . وروى سلام الطويل عن أبي سفيان عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قول الله - تعالى - : لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم جزء أشركوا بالله ، وجزء شكوا في الله ، وجزء غفلوا عن الله ، وجزء آثروا شهواتهم على الله ، وجزء شفوا غيظهم بغضب الله ، وجزء صيروا رغبتهم بحظهم من الله ، وجزء عتوا على الله . ذكره الحليمي أبو عبد الله الحسين بن الحسن في كتاب ( منهاج الدين ) له ، وقال : فإن كان ثابتا فالمشركون بالله هم الثنوية . والشاكون هم الذين لا يدرون أن لهم إلها أو لا إله لهم ، ويشكون في شريعته أنها من عنده أم لا . والغافلون عن الله هم الذين يجحدونه أصلا ولا يثبتونه ، وهم الدهرية . والمؤثرون شهواتهم على الله هم المنهمكون في المعاصي ; لتكذيبهم رسل الله وأمره ونهيه . والشافون غيظهم بغضب الله هم القاتلون أنبياء الله وسائر الداعين إليه ، المعذبون من ينصح لهم أو يذهب غير مذهبهم . والمصيرون رغبتهم بحظهم من الله هم المنكرون بالبعث والحساب ; فهم يعبدون ما يرغبون فيه ، لهم جميع حظهم من الله - تعالى - . والعاتون على الله الذين لا يبالون بأن يكون ما هم فيه حقا أو باطلا ، فلا يتفكرون ولا يعتبرون ولا يستدلون . والله أعلم بما أراد رسوله - صلى الله عليه وسلم - إن ثبت الحديث . ويروى أن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - لما سمع هذه الآية وإن جهنم لموعدهم أجمعين فر ثلاثة أيام من الخوف لا يعقل ، فجيء به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله فقال : يا رسول الله ، أنزلت هذه الآية وإن جهنم لموعدهم أجمعين ؟ فوالذي بعثك بالحق لقد قطعت قلبي ; فأنزل الله - تعالى - إن المتقين في جنات وعيون . وقال بلال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في مسجد المدينة وحده ، فمرت به امرأة أعرابية فصلت خلفه ولم يعلم بها ، فقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم فخرت الأعرابية مغشيا عليها ، وسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وجبتها فانصرف ودعا بماء فصب على وجهها حتى أفاقت وجلست ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : يا هذه مالك ؟ فقالت : أهذا شيء من كتاب الله المنزل ، أو تقوله من تلقاء نفسك ؟ فقال : يا أعرابية ، بل هو من كتاب الله - تعالى - المنزل فقالت : كل عضو من أعضائي يعذب على كل باب منها ؟ قال : يا أعرابية ، بل لكل باب منهم جزء مقسوم يعذب أهل كل منها على قدر أعمالهم فقالت : والله إني امرأة مسكينة ، ما لي مال ، وما لي إلا سبعة أعبد ، أشهدك يا رسول الله ، أن كل عبد منهم عن كل [ ص: 30 ] باب من أبواب جهنم حر لوجه الله - تعالى - : فأتاه جبريل فقال . " يا رسول الله ، بشر الأعرابية أن الله قد حرم عليها أبواب جهنم كلها وفتح لها أبواب الجنة كلها ) .
قوله تعالى : إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين قوله تعالى : إن المتقين في جنات وعيون أي الذين اتقوا الفواحش والشرك .
في جنات أي بساتين .
وعيون هي الأنهار الأربعة : ماء وخمر ولبن وعسل . وأما العيون المذكورة في سورة " الإنسان " : الكافور والزنجبيل والسلسبيل ، وفي " المطففين " : التسنيم ، فيأتي ذكرها وأهلها إن شاء الله . وضم العين من " عيون " على الأصل ، والكسر مراعاة للياء ، وقرئ بهما
ادخلوها بسلام آمنين قراءة العامة ادخلوها بوصل الألف وضم الخاء ، من دخل يدخل ، على الأمر . تقديره : قيل ادخلوها . وقرأ الحسن وأبو العالية ورويس عن يعقوب " أدخلوها " بضم التنوين ووصل الألف وكسر الخاء على الفعل المجهول ، من أدخل . أي أدخلهم الله إياها . ومذهبهم كسر التنوين في مثل برحمة ادخلوا الجنة وشبهه ; إلا أنهم هاهنا ألقوا حركة الهمزة على التنوين ; إذ هي ألف قطع ، ولكن فيه انتقال من كسر إلى ضم ثم من ضم إلى كسر فيثقل على اللسان . بسلام أي بسلامة من كل داء وآفة . وقيل : بتحية من الله لهم . آمنين أي من الموت والعذاب والعزل والزوال .
قوله تعالى : ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين قال ابن عباس : أول ما يدخل أهل الجنة الجنة تعرض لهم عينان ، فيشربون من إحدى العينين فيذهب الله ما في قلوبهم من غل ، ثم يدخلون العين الأخرى فيغتسلون فيها فتشرق ألوانهم وتصفو وجوههم ، وتجري عليهم نضرة النعيم ; ونحوه عن علي - رضي الله عنه - . وقال علي بن الحسين : نزلت في أبي بكر وعمر وعلي والصحابة ، يعني ما كان بينهم في الجاهلية من الغل . والقول الأول أظهر ، يدل عليه سياق الآية . وقال علي - رضي الله عنه - : ( أرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من هؤلاء ) . والغل : الحقد والعداوة ; يقال منه : غل يغل . ويقال من الغلول وهو السرقة من المغنم : غل يغل : ويقال من الخيانة : أغل يغل . كما قال : [ ص: 31 ]
جزى الله عنا حمزة بنة نوفل جزاء مغل بالأمانة كاذب
وقد مضى هذا في آل عمران . إخوانا على سرر متقابلين أي لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض تواصلا وتحاببا ; عن مجاهد وغيره . وقيل : الأسرة تدور كيفما شاءوا ، فلا يرى أحد قفا أحد . وقيل : متقابلين قد أقبلت عليهم الأزواج وأقبلوا عليهن بالود . وسرر جمع سرير . مثل جديد وجدد . وقيل : هو من السرور ; فكأنه مكان رفيع ممهد للسرور . والأول أظهر . قال ابن عباس : ( على سرر مكللة بالياقوت والزبرجد والدر ) ، السرير ما بين صنعاء إلى الجابية وما بين عدن إلى أيلة . وإخوانا نصب على الحال من المتقين أو من المضمر في ادخلوها ، أو من المضمر في آمنين ، أو يكون حالا مقدرة من الهاء والميم في صدورهم .
لا يمسهم فيها نصب أي إعياء وتعب .
وما هم منها بمخرجين دليل على أن نعيم الجنة دائم لا يزول ، وأن أهلها فيها باقون . أكلها دائم إن هذا لرزقنا ما له من نفاد .
قوله تعالى : نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم هذه الآية وزان قوله - عليه السلام - : لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة . وقد تقدم في الفاتحة . وهكذا ينبغي للإنسان أن يذكر نفسه وغيره فيخوف ويرجي ، ويكون الخوف في الصحة أغلب عليه منه في المرض . وجاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج على الصحابة وهم يضحكون فقال : أتضحكون وبين أيديكم الجنة والنار فشق ذلك عليهم [ ص: 32 ] فنزلت الآية . ذكره الماوردي والمهدوي . ولفظ الثعلبي عن ابن عمر قال : اطلع علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ونحن نضحك فقال : مالكم تضحكون لا أراكم تضحكون ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع القهقرى فقال لنا : إني لما خرجت جاءني جبريل فقال يا محمد لم تقنط عبادي من رحمتي نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم .
فالقنوط إياس ، والرجاء إهمال ، وخير الأمور أوساطها .
قوله تعالى : ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون
قوله تعالى : ونبئهم عن ضيف إبراهيم ضيف إبراهيم : الملائكة الذين بشروه بالولد وبهلاك قوم لوط . وقد تقدم ذكرهم . وكان إبراهيم - عليه السلام - يكنى أبا الضيفان ، وكان لقصره أربعة أبواب لكيلا يفوته أحد . وسمي الضيف ضيفا لإضافته إليك ونزوله عليك . وقد مضى من حكم الضيف في " هود " ما يكفي والحمد لله .
إذ دخلوا عليه جمع الخبر لأن الضيف اسم يصلح للواحد والجمع والتثنية والمذكر والمؤنث كالمصدر . ضافه وأضافه أماله ; ومنه الحديث ( حين تضيف الشمس للغروب ) ، وضيفوفة السهم ، والإضافة النحوية .
فقالوا سلاما أي سلموا سلاما .
قال إنا منكم وجلون أي فزعون خائفون ، وإنما قال هذا بعد أن قرب العجل ورآهم لا يأكلون ، على ما تقدم في هود . وقيل : أنكر السلام ولم يكن في بلادهم رسم السلام .
قالوا لا توجل أي قالت الملائكة لا تخف .
إنا نبشرك بغلام عليم أي حليم ; قاله مقاتل . وقال الجمهور : عالم . وهو إسحاق .
قال أبشرتموني على أن مسني الكبر أن مصدرية ; أي على مس الكبر إياي وزوجتي ، وقد تقدم في هود وإبراهيم ،
فبم تبشرون استفهام تعجب . وقيل : استفهام حقيقي . وقرأ الحسن " توجل " بضم التاء . والأعمش " بشرتموني " بغير ألف ، ونافع وشيبة " تبشرون بكسر النون والتخفيف ; مثل ، أتحاجونني وقد تقدم تعليله . وقرأ ابن كثير وابن محيصن تبشرون بكسر النون مشددة ، تقديره تبشرونني ، فأدغم النون في النون . الباقون " تبشرون " بنصب النون بغير إضافة .
قوله تعالى : قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين [ ص: 33 ] قوله تعالى : قالوا بشرناك بالحق أي بما لا خلف فيه ، وأن الولد لا بد منه .
فلا تكن من القانطين أي من الآيسين من الولد ، وكان قد أيس من الولد لفرط الكبر . وقراءة العامة من القانطين بالألف . وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب من القنطين بلا ألف . وروي عن أبي عمرو . وهو مقصور من القانطين . ويجوز أن يكون من لغة من قال : قنط يقنط ; مثل حذر يحذر . وفتح النون وكسرها من يقنط لغتان قرئ بهما . وحكي فيه " يقنط " بالضم . ولم يأت فيه " قنط يقنط " [ و ] من فتح النون في الماضي والمستقبل فإنه جمع بين اللغتين ، فأخذ في الماضي بلغة من قال : قنط يقنط ، وفي المستقبل بلغة من قال : قنط يقنط ; ذكره المهدوي .
قوله تعالى : قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون أي المكذبون الذاهبون عن طريق الصواب . يعني أنه استبعد الولد لكبر سنه لا أنه قنط من رحمة الله - تعالى - .
قوله تعالى : قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين لا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين
فيه مسألتان :
الأولى : لما علم أنهم ملائكة - إذ أخبروه بأمر خارق للعادة وهو بشراهم بالولد - قال : فما خطبكم ؟ والخطب الأمر الخطير . أي فما أمركم وشأنكم وما الذي جئتم به .
قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين أي مشركين ضالين . وفي الكلام إضمار ; أي أرسلنا إلى قوم مجرمين لنهلكهم .
إلا آل لوط أتباعه وأهل دينه .
إنا لمنجوهم أجمعين وقرأ حمزة والكسائي " لمنجوهم " بالتخفيف من أنجى . الباقون : بالتشديد من نجى ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم . والتنجية والإنجاء التخليص .
إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين إلا امرأته استثنى من آل لوط امرأته وكانت كافرة فالتحقت بالمجرمين في الهلاك . وقد تقدمت قصة قوم لوط في " الأعراف " وسورة " هود " بما فيه كفاية . [ ص: 34 ] قدرنا إنها لمن الغابرين أي قضينا وكتبنا إنها لمن الباقين في العذاب . والغابر : الباقي . قال :
لا تكسع الشول بأغبارها إنك لا تدري من الناتج
الأغبار بقايا اللبن . وقرأ أبو بكر والمفضل " قدرنا " بالتخفيف هنا وفي النمل ، وشدد الباقون . الهروي : يقال قدر وقدر ، بمعنى .
الثانية : لا خلاف بين أهل اللسان وغيرهم أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي ; فإذا قال رجل : له علي عشرة دراهم إلا أربعة إلا درهما ; ثبت الإقرار بسبعة ; لأن الدرهم مستثنى من الأربعة ، وهو مثبت لأنه مستثنى من منفي ، وكانت الأربعة منفية لأنها مستثناة من موجب وهو العشرة ، فعاد الدرهم إلى الستة فصارت سبعة . وكذلك لو قال : علي خمسة دراهم إلا درهما إلا ثلثيه ; كان عليه أربعة دراهم وثلث . وكذلك إذا قال : لفلان علي عشرة إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة ; كان الاستثناء الثاني راجعا إلى ما قبله ، والثالث إلى الثاني فيكون عليه درهمان ; لأن العشرة إثبات والثمانية إثبات فيكون مجموعها ثمانية عشر . والتسعة نفي والسبعة نفي فيكون ستة عشر تسقط من ثمانية عشر ويبقى درهمان ، وهو القدر الواجب بالإقرار لا غير . فقوله سبحانه : إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته فاستثنى آل لوط من القوم المجرمين ، ثم قال : إلا امرأته فاستثناها من آل لوط ، فرجعت في التأويل إلى القوم المجرمين كما بينا . وهكذا الحكم في الطلاق ، لو قال لزوجته : أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة طلقت اثنتين ; لأن الواحدة رجعت إلى الباقي من المستثنى منه وهي الثلاث . وكذا كل ما جاء من هذا ، فتفهمه .
قوله تعالى : فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتيناك بالحق وإنا لصادقون فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون
قوله تعالى : فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون أي لا أعرفكم . [ ص: 35 ] وقيل : كانوا شبابا ورأى جمالا فخاف عليهم من فتنة قومه ; فهذا هو الإنكار .
قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون أي يشكون أنه نازل بهم ، وهو العذاب .
وأتيناك بالحق أي بالصدق . وقيل : بالعذاب .
وإنا لصادقون أي في هلاكهم .
فأسر بأهلك بقطع من الليل فأسر بأهلك قرئ " فاسر " بوصل الألف وقطعها ; لغتان فصيحتان . قال الله - تعالى - : والليل إذا يسر وقال : سبحان الذي أسرى وقال النابغة : فجمع بين اللغتين :
أسرت عليه من الجوزاء سارية تزجي الشمال عليه جامد البرد
وقال آخر :
حي النضيرة ربة الخدر أسرت إليك ولم تكن تسري
وقد قيل : فأسر بالقطع إذا سار من أول الليل ، وسرى إذا سار من آخره ; ولا يقال في النهار إلا سار . وقال لبيد :
إذا المرء أسرى ليلة ظن أنه قضى عملا والمرء ما عاش عامل
وقال عبد الله بن رواحة :
عند الصباح يحمد القوم السرى وتنجلي عنهم غيابات الكرى
بقطع من الليل قال ابن عباس : ( بطائفة من الليل ) . الضحاك : ببقية من الليل . وقيل : بظلمة من الليل . وقيل : بعد هدء من الليل . وقيل : هزيع من الليل . وكلها متقاربة ; وقيل إنه نصف الليل ; مأخوذ من قطعه نصفين ; ومنه قول الشاعر :
ونائحة تنوح بقطع ليل على رجل بقارعة الصعيد
فإن قيل : السرى لا يكون إلا بالليل ، فما معنى بقطع من الليل ؟ فالجواب : أنه لو لم يقل : بقطع من الليل جاز أن يكون أوله .
واتبع أدبارهم أي كن من ورائهم لئلا يتخلف منهم أحد فيناله العذاب .
ولا يلتفت منكم أحد نهوا عن الالتفات ليجدوا في السير ويتباعدوا عن القرية قبل أن يفاجئهم الصبح . وقيل : المعنى لا يتخلف .
وامضوا حيث تؤمرون قال ابن عباس ( يعني الشام ) . مقاتل . يعني صفد ، قرية من قرى لوط . وقد تقدم . وقيل : إنه مضى إلى أرض الخليل بمكان يقال له اليقين ، وإنما سمي اليقين لأن إبراهيم لما خرجت الرسل شيعهم ، فقال لجبريل : من أين يخسف بهم ؟ قال : ( من هاهنا ) وحد له حدا ، وذهب جبريل ، فلما جاء لوط . جلس عند إبراهيم وارتقبا ذلك العذاب ، فلما اهتزت الأرض قال إبراهيم : ( أيقنت بالله ) فسمي اليقين .
قوله : وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين وجاء أهل المدينة يستبشرون قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون قالوا أولم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين
قوله تعالى : وقضينا إليه أي أوحينا إلى لوط .
ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين نظيره فقطع دابر القوم الذين ظلموا . " مصبحين " أي عند طلوع الصبح . وقد تقدم .
وجاء أهل المدينة أي أهل مدينة لوط
يستبشرون مستبشرين بالأضياف طمعا منهم في ركوب الفاحشة .
قال إن هؤلاء ضيفي أي أضيافي .
فلا تفضحون أي تخجلون .
واتقوا الله ولا تخزون يجوز أن يكون من الخزي وهو الذل والهوان ، ويجوز أن يكون من الخزاية وهو الحياء والخجل . وقد تقدم في هود .
قالوا أولم ننهك عن العالمين أي عن أن تضيف ، أحدا لأنا نريد منهم الفاحشة . وكانوا يقصدون بفعلهم الغرباء ; عن الحسن . وقد تقدم في الأعراف . وقيل : أولم ننهك عن أن تكلمنا في أحد من الناس إذا [ ص: 36 ] قصدناه بالفاحشة .
قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين أي فتزوجوهن ولا تركنوا إلى الحرام . وقد تقدم بيان هذا في هود .
