عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 23-02-2025, 12:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,625
الدولة : Egypt
افتراضي السحاب الهتان في فضائل شهر شعبان

السحاب الهتان في فضائل شهر شعبان

وضاح سيف الجبزي

الحمد لله أحقِّ من شُكر وأولى من حُمد، وأكرم من تفضَّل، وأرحم من قُصد، المعروف بالدليل وبالدليل عُبد، القديم لم يُولد ولم يلد، أحاط علمًا بالمعلومات وحواها، وأنشأ المخلوقات بالقدرة وبناها، وأظهر الحِكم في الموجودات إذ براها.

سبحانه، سبحانه! تعرف إلى خلقه بالبراهين الظاهرة، وأظهر في مصنوعاته العجائب الباهرة، وتفرَّد في ملكه بالقدرة القاهرة، ووعد المتقين الفوز في الآخرة.

تعالى جل في علاه أن يُشبه ما صنعه، وأن يُقاس بما جمعه، سبحانه لا وزير له ولا شريك معه، نادى موسى ليلة الطور فأسمعه.

أحمده حمدًا إذا قيل صعِد، وأُصلي وأسلم على رسوله محمد، خير مولود وُلد:
صلى الإله على النبي الهادي
وله جميع محبتي وودادي
إن الصلاة على النبي وسيلة
بثوابها أرجو بلوغ مرادي

صلى عليك الله يا خير الورى
ما طار طير أو ترنَّم شادي


اللهم صلِّ عليه صلاةً دائمةً إلى منتهى الأبد، بلا انقطاع ولا نفاد، صلاةً تنجينـا بها من حر جهنم وبئس المهاد؛ أما بعد أيها المسلمون:
فاتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 90].

أيها الأحِبة الأكارم:
إن انقضاء رجب، وقدوم شعبان، وانصرام شهور وكرور أزمان؛ يناديان بلسان الإنذار، وعيان الاعتبار: ﴿ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [غافر: 39، 40].

أيها الموحدون، هذا شعبان ضاربًا بجرانه، نازلًا بمودة ربكم وإحسانه، تُصب عليكم من السماء بركاته، وتزكي أعمالكم أوقاته.

عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: ((ذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم قوم يصومون رجبًا، فقال صلى الله عليه وسلم: فأين هم من شعبان؟ قال زيد: وكان أكثرَ صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رمضانَ شعبانُ))[1].

وقد كان من هديه صلوات ربي وسلامه عليه؛ أنه لم يكن يخرج عنه شهر صلى الله عليه وسلم حتى يصوم منه[2].

وفي حديث أسامة بن زيد، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم الأيام، يسرد حتى يُقال: لا يُفطر، ويُفطر الأيام حتى لا يكاد أن يصوم إلا يومين من الجمعة، إن كانا في صيامه، وإلا صامهما، ولم يكن يصوم من شهر من الشهور ما يصوم من شعبان، فقلت: يا رسول الله، إنك تصوم لا تكاد أن تفطر، وتفطر حتى لا تكاد أن تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صُمتَهما، قال: أي يومين؟ قال: قلت: يوم الاثنين، ويوم الخميس، قال: ذانك يومان تُعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، وأُحب أن يُعرض عملي وأنا صائم، قال: قلت: ولم أرَك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: ذاك شهر يغفُل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يُرفع عملي وأنا صائم))[3].

قال العلماء: ورفع الأعمال على ثلاث مراتب[4]:
المرتبة الأولى: رفع يوميٌّ؛ ويكون ذلك في صلاة الصبح وصلاة العصر؛ كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يُصلون، وأتيناهم وهم يصلون))[5].

المرتبة الثانية: رفع أسبوعي؛ ويكون في يوم الخميس؛ وذلك لما رواه الإمام أحمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أعمال بني آدم تُعرض كل خميس ليلة الجمعة، فلا يُقبل عمل قاطع رحم))[6].

الثالثة: رفع سنوي؛ ويكون ذلك في شهر شعبان؛ كما في حديث أسامة السابق: ((ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم))[7].

أيها المسلمون، وقد كان صلى الله عليه وسلم يصوم من شعبان ما لا يصوم من غيره من الشهور؛ ففي الصحيحين عن عائشة، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يُفطر، ويُفطر حتى نقول: لا يصوم، وما استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر قط أكثر صيامًا منه في شعبان))[8].

وفي رواية: ((فإنه كان يصوم شعبان كله، وكان يقول: خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمَل حتى تملوا))[9].

وفي رواية النسائي عن عائشة رضي الله عنهما: ((كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه: شعبان، بل كان يصله برمضان))[10].

وفي حديث أم سلمة، قالت: ((ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صام شهرًا تامًّا إلا شعبان، فإنه كان يصله برمضان ليكونا شهرين متتابعين))[11].

وعن أم سلمة، قالت: ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا أنه كان يصل شعبان برمضان))[12].

فيا قلوب الصادقين تهيئي، ويا سواعد المُجدين شمِّري، ويا خيل نفوس الطالبين اركبي، ويا أرواح المخبتين نُوحي واسجعي، ويا أفئدة المُنيبين توثبي وتوجعي، ويا هِمم العارفين بغير الله لا تقنعي، يا قوافل المحبين بغير رضا المحبوب لا ترجعي، ويا جوارح المسوِّفين آن لك أن تكفِّي عن التواني وتُقلعي.

أيها المسلمون: وتظهر الحكمة من صيامه صلى الله عليه وسلم لشعبان - كما قال صلى الله عليه وسلم - أنه ((شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان))[13].

قال ابن رجب رحمه الله: "يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان؛ الشهر الحرام وشهر الصيام، اشتغل الناس بهما عنه، فصار مغفولًا عنه، وقد يظن أن صيام رجب أفضل من صيام شعبان، لأنه شهر حرام، وليس الأمر كذلك"[14].

وفي قوله: ((يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان))، دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله عز وجل، كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة، ويقولون: هي ساعة غفلة.

ولذلك فُضِّل القيام في وسط الليل؛ لشمول الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر؛ ففي حديث عمرو بن عنبسة: فقلت: يا رسول الله، فهل من دعوة أقرب من أخرى، أو ساعة؟ قال: ((نعم، إن أقرب ما يكون الرب من العبد جوف الليل الآخِر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة، فكُنْ))[15].

وفي هذا إشارة إلى فضيلة التفرد بذكر الله في وقت من الأوقات لا يوجد فيه ذاكر له.

قال ابن الجوزي رحمه الله: "واعلم أن الأوقات التي يغفل الناس عنها معظَّمة القدر؛ لاشتغال الناس بالعادات والشهوات، فإذا ثابر عليها طالب الفضل، دلَّ على حرصه على الخير، ولهذا فُضِّل شهود الفجر في جماعة؛ لغفلة كثير من الناس عن ذلك الوقت، وفُضِّل ما بين العشاءين، وفُضِّل قيام نصف الليل ووقت السَّحر"[16].

فيا لله! كم ستر الصادقون أحوالهم وريح الصدق ينم عنهم!

ريح الصيام أطيب من ريح المسك، تستنشقه قلوب المؤمنين وإن خفِيَ، وكلما طالت عليه المدة ازدادت قوة ريحه:





قال يوسف بن أسباط: "أوحى الله إلى نبي من الأنبياء: قل لقومك يخفون لي أعمالهم، وعليَّ إظهارها لهم"[17].

"ما أسر عبدٌ سريرةً إلا ألبسه الله رداءها، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر"[18].

ومن حِكم صيام شعبان: أنه أشق على النفوس، وأفضل الأعمال أشقها على النفوس، وسبب ذلك: أن النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال أبناء الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم كثُر أهل الطاعة؛ لكثرة المقتدين بهم، فسهُلت الطاعات، وإذا كثرت الغفلات وأهلها، تأسى بهم عموم الناس، فيشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم؛ لقلة من يقتدون بهم فيها[19]؛ ولهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((للعامل منهم يومئذٍ بسُنتي أجر خمسين، قلنا: يا رسول الله، منهم؟ قال: أجر خمسين منكم))[20].

وعن معقل بن يسار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العبادة في الهَرْجِ كهجرة إليَّ))[21] وفي لفظ: ((العمل – أو العبادة - في الفتنة كالهجرة إليَّ))[22].

وسبب ذلك: أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم، ولا يرجعون إلى دين، فيكون حالهم شبيهًا بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه ويعبد ربه، ويتبع مراضيه ويجتنب مساخطه، كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مؤمنًا به، متبعًا لأوامره، مجتنبًا لنواهيه[23].

ومن الحِكم: أن المنفرد بالطاعة بين أهل المعاصي والغفلة، قد يدفع البلاء عن الناس كلهم، فكأنه يحميهم ويدافع عنهم؛ وفي حديث ابن عمر الذي رويناه في جزء ابن عرفة مرفوعًا: ((ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل في الفارين))[24].

قال بعض السلف: ذاكر الله في الغافلين كمثل الذي يحمي الفئة المنهزمة، ولولا من يذكر الله في غفلة الناس، لهلك الناس[25].

رأى جماعة من المتقدمين في منامهم كأن ملائكةً نزلت إلى بلاد شتى، فقال بعضهم لبعض: اخسفوا بهذه القرية، فقال بعضهم: كيف نخسف بها وفلان قائم يصلي؟! ورأى بعض المتقدمين في منامه من ينشد، ويقول[26]:
لولا الذين لهم وِرد يصلونا
وآخرون لهم سرد يصومونا
لدكدكت أرضكم من تحتكم سَحرًا
لأنكم قوم سوء ما تطيعونا


وفي مسند أبي يعلى عن أبي هريرة مرفوعًا: ((مهلًا عن الله مهلًا؛ لولا شباب خُشَّع وشيوخ رُكَّع، وأطفال رُضَّع وبهائم رُتَّع، لصُب عليكم العذاب صبًّا))[27].

ولبعضهم في المعنى:
لولا عباد للإله ركع
وصبية من اليتامى رضع
ومهملات في الفلاة رتع
صُب عليكم العذاب الموجع


وقد قيل في تأويل قوله تعالى: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ﴾ [البقرة: 251]: إنه يدخل فيها دفعه عن العصاة بأهل الطاعة[28].

وجاء في الآثار: إن الله يدفع بالرجل الصالح عن أهله وولده وذريته ومن حوله[29].

وفي بعض الآثار يقول الله عز وجل: "أحب العباد إليَّ المتحابون بجلالي، المشَّاؤون في الأرض بالنصيحة، الماشون على أقدامهم إلى الجمعات"، وفي رواية: "المتعلقة قلوبهم بالمساجد، والمستغفرون بالأسحار، فإذا أردت إنزال عذاب بأهل الأرض، فنظرت إليهم، صرفت العذاب عن الناس"[30].

وقد قيل في صوم شعبان معنى آخر: إن صيامه كالتمرين على صيام رمضان؛ لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل قد تمرن على الصيام واعتاده، ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته؛ فيدخل في رمضان بقوة ونشاط.

وقال سلمة بن كهيل: "كان يُقال: شهر شعبان شهر القرَّاء".

وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته، وتفرغ لقراءة القرآن.

قالت لؤلؤة مولاة عمار: "كان عمار يتهيأ لصوم شعبان كما يتهيأ لصوم رمضان"[31].

وقد قيل: "تُقطع الآجال من شعبان إلى شعبان، حتى إن الرجل ينكح، ويُولد له، وقد خرج اسمه في الموتى"[32].

فيا أيها الغافل، تنبه لرحيلك ومسراك، واحذر أن تُسلب على موافقة هواك.
قد آن بعد ظلام الجهل إبصاري
الشيب صبحٌ يناجيني بإسفارِ
ليل الشباب قصير فاسرِ مبتدرًا
إن الصباح قصارى المُدلج الساري




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 29.29 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 28.66 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.14%)]