عرض مشاركة واحدة
  #568  
قديم 28-02-2025, 03:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,400
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النجم
المجلد الخامس عشر
صـ 5556 الى صـ 5565
الحلقة (568)







القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 6 الى 7]
ذو مرة فاستوى (6) وهو بالأفق الأعلى (7)
ذو مرة بكسر الميم. أي متابة وإحكام في علمه، لا يمكن تغيره ونسيانه.
والعرب تقول لكل قوي العقل والرأي ذو مرة من (أمررت الحبل) إذا أحكمت فتله فاستوى وهو بالأفق الأعلى قال الزمخشري: فاستقام على صورة نفسه الحقيقة، دون الصورة التي كان يتمثل بها، كلما هبط بالوحي. وكان ينزل في صورة دحية.
فالفاء- كما قال شراحه- سببية، لأن تشكله يتسبب عن قوته وقدرته على الخوارق. أو عاطفة على علمه أي علمه على غير صورته الأصلية، ثم استوى على صورته الأصلية.
وقيل: (استوى) بمعنى (استولى) بقوته على ما أمر بمباشرته من الأمور- حكاه القاضي-.
قال الشهاب: الأفق الناحية، وجمعه آفاق. والمراد الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر، لا مصطلح أهل الهيئة. انتهى.
وقال ابن كثير: وقوله تعالى: فاستوى يعني جبريل عليه السلام- قاله الحسن ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وهو بالأفق الأعلى يعني جبريل استوى في الأفق الأعلى. قاله عكرمة وغير واحد.
ثم قال ابن كثير: وقد قال ابن جرير هاهنا قولا لم أره لغيره، ولا حكاه هو عن أحد. وحاصله أنه ذهب إلى أن المعنى فاستوى، أي هذا الشديد القوى وصاحبكم محمد صلى الله عليه وسلم، بالأفق الأعلى، أي استويا جميعا بالأفق الأعلى، وذلك ليلة الإسراء- كذا قال- ولم يوافقه أحد على ذلك. ثم شرع يوجه ما قاله من حيث العربية فقال:
وهو كقوله: أإذا كنا ترابا وآباؤنا [النمل: 67] ، فعطف بالآباء على المكني في كنا من غير إظهار (نحن) فكذلك قوله: فاستوى وهو. قال: وذكر الفراء عن بعض العرب أنه أنشده:
ألم تر أن النبع يصلب عوده ... ولا يستوي والخروع المتقصف
وهذا الذي قاله من جهة العربية متجه، ولكن لا يساعده المعنى على ذلك، فإن هذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء، بل قبلها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض، فهبط عليه جبريل عليه السلام، وتدلى إليه، فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح. ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، يعني ليلة الإسراء، وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة، بعد ما جاءه جبريل عليه السلام أول مرة، فأوحى الله إليه صدر سورة (اقرأ) ثم فترة الوحي فترة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم فيها مرارا ليتردى من رؤوس الجبال، فكلما هم بذلك ناداه جبريل من الهواء: يا محمد! أنت رسول الله حقا، وأنا جبريل، فيسكن لذلك جأشه، وتقر عينه. وكلما طال عليه الأمر، عاد لمثلها حتى تبدى له جبريل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح في صورته التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح، قد سد عظم خلقه الأفق، فاقترب
منه، وأوحى إليه عن الله عز وجل ما أمره به، فعرف عند ذلك عظمة الملك الذي جاءه بالرسالة، وجلالة قدره، وعلو مكانته عند خالقه الذي بعثه اليه. انتهى.
أقول: قد وافق القاشاني ابن جرير في تأويل الآية، وعبارته:
فاستوى فاستقام على صورته الذاتية، والنبي بالأفق الأعلى، لأنه حين كون النبي بالأفق المبين لا ينزل على صورته، لاستحالة تشكل الروح المجرد في مقام القلب، إلا بصورة تناسب الصور المتمثلة في مقامه، ولهذا كان يتمثل بصورة دحية الكلبي وكان من أحسن الناس صورة، وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذ لم يتمثل بصورة يمكن انطباعها في الصدر، لم يفهم القلب كلامه، ولم ير صورته. وأما صورته الحقيقية التي جبل عليها فلم تظهر للنبي صلى الله عليه وسلم إلا مرتين: عند عروجه إلى الحضرة الأحدية ووصوله بمقام الروح في الترقي، وعند نزوله عنها ورجوعه إلى المقام عند سدرة المنتهى في التدلي. انتهى.
وكذا المهايمي وافقهما وعبارته:
فاستوى وهو أي صاحبكم عند استواء نفسه، صار بالأفق الأعلى الروحاني. انتهى.
وكذا الفخر الرازي وعبارته:
المشهور أن (هو) ضمير جبريل، وتقديره: استوى كما خلقه الله بالأفق الشرقي، فسد المشرق لعظمته. والظاهر أن المراد محمد صلى الله عليه وسلم. معناه: استوى بمكان، وهو بالمكان العالي رتبة ومنزلة في رفعة القدر، لا حقيقة في الحصول في المكان.
فإن قيل: كيف يجوز هذا والله تعالى يقول: ولقد رآه بالأفق المبين [التكوير: 23] ، إشارة إلى أنه رأى جبريل بالأفق المبين؟ نقول: وفي ذلك الموضع أيضا نقول كما قلنا هاهنا، أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل بالأفق المبين. يقول القائل: رأيت الهلال، فيقال له: أين رأيته؟ فيقول: فوق السطح. أي: إن الرائي فوق السطح، لا المرئي. و (المبين) هو الفارق، من (أبان) أي فرق. أي هو بالأفق الفارق بين درجة الإنسان، ومنزلة الملك، فإنه صلى الله عليه وسلم انتهى، وبلغ الغاية، وصار نبيا، كما صار بعض الأنبياء نبيا يأتيه الوحي في نومه، وعلى هيئته، وهو واصل إلى الأفق الأعلى، والأفق الفارق بين المنزلتين.
فإن قيل: ما بعده يدل على خلاف ما تذهب إليه، فإن قوله: ثم دنا فتدلى إلى غير ذلك، وقوله تعالى: ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى كل ذلك يدل على خلاف ما ذكرته؟ نقول: سنبين موافقته لما ذكرنا إن شاء الله تعالى في مواضعه، عند ذكر تفسيره.
فإن قيل: الأحاديث تدل على خلاف ما ذكرته، حيث ورد في الأخبار أن جبريل عليه السلام أرى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على صورته، فسد المشرق. فنقول: نحن ما قلنا إنه لم يكن وليس في الحديث أن الله تعالى أراد بهذه الآية تلك الحكاية، حتى يلزم مخالفة الحديث، وإنما نقول إن جبريل أرى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه مرتين، وبسط جناحيه، وقد ستر الجانب الشرقي وسده، ولكن الآية لم ترد لبيان ذلك.
انتهى كلام الرازي.
وفي القرطبي حكاية أقوال أخر، وعبارته:
فاستوى أي ارتفع جبريل، وعلا إلى مكانه في السماء، بعد أن علم محمدا صلى الله عليه وسلم- قاله سعيد بن المسيب وابن جبير-.
وقيل: فاستوى أي قام وظهر في صورته التي خلق عليها.
وقول ثالث: أن معنى فاستوى أي استوى القرآن في صدره. وفيه على هذا وجهان:
أحدهما- في صدر جبريل حين نزل به عليه السلام.
الثاني- في صدر محمد صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه.
وقول رابع: أن معنى فاستوى فاعتدل. يعني محمدا في قوته، والثاني في رسالته- ذكره الماوردي-.
وعلى الأول يكون تمام الكلام ذو مرة، وعلى الثاني شديد القوى.
وقول خامس أن معناه فارتفع، وفيه على هذا وجهان:
أحدهما- أنه جبريل ارتفع إلى مكانه، على ما ذكرناه آنفا.
الثاني- أنه النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع بالمعراج.
وقول سادس: فاستوى يعني الله عز وجل. أي استوى على العرش- على قول الحسين- انتهى.
هذا ما وقفنا عليه الآن من الأقوال في الآية، وسيأتي في أول التنبيهات إيضاح ما اخترناه منها، وإنما أخرنا ذكره لارتباطه بالآيات الآتية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 8 الى 9]
ثم دنا فتدلى (8) فكان قاب قوسين أو أدنى (9)
ثم دنا أي ثم بعد استوائه، اقترب جبريل من محمد صلى الله عليه وسلم فتدلى أي إليه.
قال ابن جرير: هذا من المؤخر الذي معناه التقديم، وإنما هو ثم تدلى فدنا، ولكنه حسن تقديم قوله دنا إذ كان الدنو يدل على التدلي، والتدلي على الدنو.
كما يقال: زارني فلان فأحسن، وأحسن إلي فزارني.
وقال الشهاب: التدلي مجاز عن التعلق بالنبي بعد الدنو منه، لا بمعنى التنزل من علو، كما هو المشهور. أو هو دنو بحالة التعلق، فلا قلب ولا تأويل ب (أراد الدنو) - كما في الإيضاح-.
فكان قاب قوسين أو أدنى أي كأن مسافة ما بينهما مقدار قوسين. أي بقدرهما إذا مدا أو أقرب. أو الضمير لجبريل. أي كأن قربه قدر ذلك.
قال الشهاب: وقاب القوس وقيبه: ما بين الوتر ومقبضه. والمراد به المقدار، فإنه يقدر بالقوس، كالذراع.
وقد قيل: إنه مقلوب، أي قابى قوس، ولا حاجة إليه. فإن هذا إشارة إلى ما كانت العرب في الجاهلية تفعله. إذا تحالفوا أخرجوا قوسين. ويلصقون إحداهما بالأخرى، فيكون القاب ملاصقا للآخر، حتى كأنهما ذوا قاب واحد، ثم ينزعانهما معا ويرميان بهما سهما واحدا، فيكون ذلك إشارة إلى أن رضا أحدهما رضا الآخر، وسخطه سخطه، لا يمكن خلافه- كذا قال مجاهد، وارتضاه عامة المفسرين- انتهى.
قال السمين: وقوله تعالى: أو أدنى كقوله: أو يزيدون [الصافات:
147] ، لأن المعنى: فكان بأحد هذين المقدارين في رأى الرائي. أي لتقارب ما بينهما، يشك الرائي في ذلك. فهو تمثيل لشدة القرب، وتحقيق استماعه لما أوحى إليه بأنه في رأى العين، ورأى الواقف عليه، كما مر في أو يزيدون فإن المعنى:
إذا رآهم الرائي يقول هم مائة ألف أو يزيدون.
وقيل: (أو) بمعنى (بل) أي بل أدنى.
و (أدنى) أفعل تفضيل، والمفضل عليه محذوف. أي: أو أدنى من قاب قوسين. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 10]
فأوحى إلى عبده ما أوحى (10)
حى إلى عبده ما أوحى (10) فأوحى أي جبريل إلى عبده
أي عبد الله تعالى، وهو النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما أضمر اسمه تعالى لعدم اللبس، وغاية ظهوره. أو: فأوحى الله عز وجل بواسطة جبريل الذي تدلى إليه ما أوحى
أي مما أمره به. وفيه تفخيم للموحى به، إذ الإبهام يفيد التعظيم، كأنه أعظم من أن يحيط به بيان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 11]
ما كذب الفؤاد ما رأى (11)
ما كذب الفؤاد ما رأى أي ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه من الملك الذي جاءه بالوحي من ربه. يعني: أنه رآه بعينه، وتيقنه بقلبه، ولم يشك في أن ما رآه حق وصدق وقرئ ما كذب بالتشديد. أي صدقه ولم يشك أنه ملك رباني، لا خيال شيطاني، كما قال وما هو بقول شيطان رجيم [التكوير: 25] . وقد ذكر ابن كثير أن هذه الرؤية في أوائل البعثة، كما تقدم النقل عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 12]
أفتمارونه على ما يرى (12)
أفتمارونه على ما يرى أي أفتجادلونه وتلاحونه على ما يراه معاينة من رؤية الملك المنزل عليه.
قال القاشاني: أي أفتخاصمونه على شيء لا تفهمونه ولا يمكنكم معرفته وتصوره، فكيف يمكنكم إقامة الحجة عليه؟ وإنما المخاصمة حيث يمكن تصور الأمر المختلف فيه، ثم الاحتجاج عليه بالنفي والإثبات، فحيث لا تصور، فلا مخاصمة حقيقة. انتهى. وذلك لأن رؤية الملك وتنزله حالة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه الأنبياء عليهم السلام، لا يمكن لغيرهم اكتناهها، وإنما عليهم الإيمان بها، والإذعان لها، لقيام الدليل عليها. وبالجملة، فالمراد أنه لا يصح المجادلة في المرئي، لأنه لا يجوز الجدال في المحسوسات، لا سيما إذا تعددت المشاهدة لها كما قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 13 الى 18]
ولقد رآه نزلة أخرى (13) عند سدرة المنتهى (14) عندها جنة المأوى (15) إذ يغشى السدرة ما يغشى (16) ما زاغ البصر وما طغى (17)
لقد رأى من آيات ربه الكبرى (18)
ولقد رآه نزلة أخرى أي مرة أخرى من النزول، وتأكيد الخبر عن الرؤية الثانية هذه، لنفي الريبة والشك عنها أيضا. وأنه لم يكن فيها التباس واشتباه. عند سدرة المنتهى أي موضع الانتهاء، أو الانتهاء. ف (المنتهى) : اسم مكان، أو مصدر ميمي. وقد جاء في الصحيح أنها شجرة نبق في السماء السابعة، إليها ينتهي ما يعرج به من أمر الله من الأرض، فيقبض منها. وما يهبط به من فوقها، فيقبض منها.
قال القاضي: ولعلها شبهت بالسدرة، وهي شجرة النبق، لأنهم يجتمعون في ظلها. يعني أن شجر النبق يجتمع الناس في ظله، وهذه يجتمع عندها الملائكة، فشبهت بها، وسميت (سدرة) لذلك. فإطلاقها عليها بطريق الاستعارة. لكن ورد في الحديث أن كل نبقة فيها كقلة من قلال هجر، فهي على هذا حقيقة، وهو الأظهر- قاله الشهاب-.
عندها جنة المأوى أي التي يأوي إليها أرواح المقربين. إذ يغشى السدرة ما يغشى قال القاشاني: أي من جلال الله وعظمته. معناه أنه رأى جبريل عليه السلام عند سدرة المنتهى حينما كانت الأرواح والملائكة تغشاها، وتهبط عليها، وتحف من حولها. ما زاغ البصر أي ما مال بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما رآه. وما طغى أي ما تجاوز مرئية المقصود له، بل أثبت ما رآه إثباتا مستيقنا صحيحا لا شبهة فيه.
وفيه وصف لأدبه صلى الله عليه وسلم وتمكنه، إذ لم يتجاوز ما أمر برؤيته. لقد رأى من آيات ربه الكبرى يعني الملك الذي عاينه وأخبره برسالته. وفيه غاية التفخيم لمقامه، وأنه من الآيات الكبر.
قال الناصر: ويحتمل أن تكون الكبرى صفة لآيات، ويكون المرئي محذوفا لتفخيم الأمر وتعظيمه، كأنه قال: لقد رأى من آيات ربه الكبرى أمورا عظاما لا يحيط بها الوصف. والحذف في مثل هذا أبلغ وأهول.
تنبيهات:
الأول- قدمنا في تفسير قوله تعالى: فاستوى وهو بالأفق الأعلى ما قاله المفسرون من الأقوال العديدة. ولا يخفى ما في بعضها من التكلف والتعسف، كتوجيه ابن جرير والرازي ومن وافقهما، وبعض أقوال حكاها القرطبي. والأقرب في معنى الآية ما ذكره الإمام ابن كثير، كما نقلناه عنه، لكثرة الأحاديث الواردة فيما يفسرها بذلك ونحن نقول في تأييده إن القرآن يفسر بعضه بعضا، لتشابه آياته الكريمة وتماثلها. والآية هذه مشابهة لما في سورة التكوير تمام المشابهة، فقد قال
تعالى ثمة: إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين [التكوير: 19- 23] ، فترى هذه الآيات مشابهة للآيات هنا، وإن كان فيما هنا زيادة رؤية، وبيان دنو واقتراب لم يذكر في (التكوير) . وسر الزيادة هو ارتقاء النبي صلى الله عليه وسلم في معارج الكمالات وقتا فوقتا. وسورة النجم مما نزل بعد التكوير، كما حكاه في (الإتقان) عن ابن عباس وغير واحد من السلف، فلذلك كان في (النجم) زيادة هذا التكريم والتفضيل. وحاصل المعنى:
أن ما ينطق به من هذا القرآن ليس عن هواه، وإنما هو وحي علمه إياه ملك كريم، جم المناقب، لأنه شديد القوى، ذو مرة، رفيع المكانة بالأفق الأعلى. ثم لما شاء تعالى إنزال وحيه على نبيه تنزل من الأفق، ودنا إليه، وكان في غاية القرب منه، والتمكن من رؤيته، وتلقي الوحي عنه، وذلك كله حق وصدق لا مرية فيه. وكيف يماري من يرى ببصره ما يصدقه فؤاده فيه ولا يكذبه، لا سيما ولم تكن رؤياه له مرة واحدة، بل رآه نزلة ثانية، نزل إليه بالوحي في مكان معين لا يشتبه على رائيه، وهو سدرة المنتهى. وبالجملة، فتوافق هذه الآيات لآيات (التكوير) وتفسير بعضها بعضا، أمر لا خفاء به عند المتدبر، وكله رد على المشركين المفترين، وإقسام على حقيقة الوحي والتنزيل، وصدق ما يخبر به، لا سيما وهو صادق عندهم لا يكذبونه. فما بقي بعد التعنت والجحد إلا انتظار سنة الله في أمثالهم من الأمم الكافرة الجاحدة، كما أشار له في آخر السورة.
هذا ملخص معنى الآيات، وما عداه فتوسع وحمل اللفظ على ما تجوزه مادته. وكل ما يتسع له اللفظ هو المراد- والله الموفق-.
الثاني- ما قدمناه من رجوع الضمائر في قوله تعالى: ثم دنا فتدلى ...
إلخ إلى جبريل عليه السلام، هو الذي عول عليه عامة المفسرين، وقد أيدناه بما رأيت.
قال الإمام ابن تيمية: الدنو والتدلي في سورة النجم هو دنو جبريل وتدليه- كما قالت عائشة وابن مسعود- والسياق يدل عليه، فإنه قال علمه شديد القوى وهو جبريل، ذو مرة فاستوى. وهو بالأفق الأعلى. ثم دنا فتدلى فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوى، وهو ذو المرة أي القوة، وهو الذي استوى بالأفق الأعلى، وهو الذي دنا فتدلى، فكان من محمد صلى الله عليه وسلم قدر قوسين
أو أدنى، وهو الذي رآه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى، رآه على صورته مرتين، مرة في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى. انتهى.
وروى البخاري «1» في هذه الآيات عن ابن مسعود قال: رأى جبريل له ستمائة جناح.
وروى الترمذي «2» عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل، ولم يره في صورته إلا مرتين، مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في جياد- مكان بمكة- له ستمائة جناح، قد سد الأفق.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 47.74 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 47.12 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.32%)]