«عون الرحمن في تفسير القرآن»
الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم
تفسير قوله تعالى:﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ... ﴾
قوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾[آل عمران: 45 - 51].
قوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾.
قوله: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ ﴾ أي: اذكر حين قالت الملائكة: «يا مريم».
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ ﴾: «البشارة»: الإخبار بما يسر.
﴿ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ﴾ أي: بولد يكون وجوده بكلمة منه - عز وجل - أي: بقوله تعالى:
﴿ كُن ﴾ فيكون من غير أب، و«من» في قوله: ﴿ مِنْهُ ﴾ ابتدائية أو بيانية، أي: خلقه - عز وجل - بكلمة صادرة منه سبحانه وتعالى، وهي قوله تعالى: ﴿ كنْ ﴾.
﴿ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ «اسم»: مبتدأ، وضمير «الهـاء» مضاف إليه راجع إلى «كلمة»، وذُكِّر مراعاة للمعنى؛ لأن المراد منها مذكَّر، و﴿ الْمَسِيحُ ﴾: خبر أول، و﴿ عيسى﴾: بدل منه أو عطف بيان أو خبر ثانٍ أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو عيسى، ﴿ ابن مريم ﴾: صفة له؛ أي: اسمه الذي يميز به لقبًا «المسيح»، وعَلَمًا «عيسى»، وكُنية «ابن مريم».
﴿ الْمَسِيحُ ﴾: «فعيل» بمعنى (فاعل)، وسُمِّيَ عيسى عليه السلام ولُقِّب بــ«المسيح»؛ لأنه لا يمسح ذا عاهة إلا برأ بإذن الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿ وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ﴾ [المائدة: 110]، وقيل: لمسحه الأرض، أي: كثرة سياحته فيها، وقيل: هو «فعيل» بمعنى (مفعول)؛ لأنه مسح بالبركة واليمن، أو لأنه كان مسيح القدمين لا أخمص لهما، والأقرب القول الأول.
﴿ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ﴾: نسبة إلى أمه مريم؛ لأنه لا أب له.
﴿ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾ «وجيهًا»: حال، أي: حال كونه وجيهًا في الدنيا والآخرة، أي: ذا وجاهة وجاه عظيم عند الله في الدنيا والآخرة، كغيره من أولي العزم من الرسل، كما قال تعالى عن موسى عليه السلام: ﴿ وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ﴾ [الأحزاب: 69].
و«الوجيه»: ذو الجاه، أي: ذو الشرف والقدر والمكانة، مأخوذ من الوجه الذي هو أفضل الأعضاء.
﴿ فِي الدُّنْيَا﴾: بالنبوة، وإنزال الكتاب عليه، وإيتائه الآيات الشرعية والآيات الكونية الخارقة، وقبول دعائه، وجعله من أفضل الرسل وهم أولوا العزم؛ كما قال تعالى: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ﴾ [الشورى: 13]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [الأحزاب: 7].
﴿ والآخرة ﴾ أي: ووحيها في الآخرة بقبول شفاعته، وعلو مقامه عند الله بأعلى درجات الجنة مع أولي العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام.
﴿ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾: معطوف على ﴿ وجيهًا﴾ في محل نصب على الحال عطفًا على «وجيهًا»، أي: وحال كونه من المقربين عند الله تعالى، الذين هم أقرب الخلائق إلى الله تعالى في الدنيا والآخرة، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ﴾ [الواقعة: 10، 11]، وهذه أعظم البشارات.
قوله تعالى: ﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾.
قوله: ﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ ﴾ «الواو»: عاطفة، فالجملة في محل نصب عطفًا على الحال السابقة، أي: ويكلم الناس حال كونه في المهد.
و«المهد»: الفراش الذي يوطَّأ للصبي؛ لينام فيه، والمعنى: أنه عليه السلام يكلم الناس وهو صبي في الفراش.
وهذه آية عظيمة دالة على كمال قدرة الله تعالى، وعلى صدق عيسى، وبراءة أمه مما يظن بها من الظنون السيئة، ورحمةً بهما وبالخلق.
﴿ وَكَهْلًا ﴾ «الواو»: عاطفة، و- كهلًا- حال معطوفة على ما قبلها، و«الكهل» من بلغ سن الكهولة وهي من إحدى وثلاثين، أو ثلاث وثلاثين فما بعدها إلى أربعين، وقيل: إلى الستين، أي: ويكلم الناس حال كهولته تكليم النبوة والدعوة إلى الله بعد بعثته، وكان عيسى عليه السلام بُعِثَ وهو ابن نيِّف وثلاثين سنة.
وخصَّ حال كونه في المهد، وحال كونه كهلًا؛ لأن الكلام في الحال الأولى آية على صدقه، وإرهاصًا لنبوته، وفي الحال الثانية بعثته ودعوته إلى الله تعال.
وفي عطف «كهلًا» على قوله: ﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ ﴾ مع أن (الكهل) ليس مستغربًا أن يتكلم؛ دلالة على أن كلامه في المهد فصاحة وبلاغة وبيانًا مثل كلامه كهلًا بعد مبعثه، كما قال تعالى: ﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 27 - 33].
﴿ وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾: معطوف على الأحوال السابقة، أي: والحال أنه من الصالحين، أي: من جملة الصالحين الذين بلغوا الغاية في الصلاح باطنًا وظاهرًا، إخلاصًا لله تعالى في قلوبهم، ومتابعة لشرعه في أقوالهم وأعمالهم.
قوله تعالى: ﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾؛ كقوله تعالى في سورة مريم: ﴿ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 20، 21].
قوله: ﴿ قَالَتْ رَبِّ ﴾ أي: قالت مريم: «يا رب».
﴿ أَنَّى ﴾: الاستفهام للتعجب، أي: من أين، أو كيف يكون لي ولد؟! كقول زكريا: ﴿ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 40]، ليس للاستبعاد أو الاستنكار أو الشك، وإنما هو للتثبت وزيادة الطمأنينة، كما قال إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [البقرة: 260]، وإلا فمريم عليها السلام مصدقة ببشارة الله تعالى لها بالولد.
﴿ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾ «الواو»: حالية، أي: والحال أنه لم يمسسني بشر، أي: لم يجامعني بشر، أي: لم أكن ذات زوج، و«المس» يُطلق في القرآن الكريم على الجماع ويُكنى به عنه؛ كما قال تعالى: ﴿ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 236]؛ أي: ما لم تجامِعوهنَّ، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ﴾ [النساء: 43]، أي: أو جامعتُم النساء.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «(المس): الجماع، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء»[1].
و﴿ بشرٌ ﴾: يُطلق على الواحد والجمع، والتنكير للعموم، و«البشر» هم بنو آدم.
﴿ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾؛ كقوله تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 40]؛ أي: مثل ذلك الخلق العجيب.
وهو حصول الولد لك دون أن يمسسك بشر، يخلق الله ما يشاء، فـ«الكاف» على هذا في محل نصب صفة لمصدر محذوف أو خبر لمبتدأ محذوف، أي: الأمر كذلك.
والمعنى: أنه سيكون لك ولد ولو لم يمسسك بشر.
﴿ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾: قدَّم اسم الجلالة على الفعل في قوله: ﴿ اللَّهُ يَخْلُقُ﴾ لتقوية الحكم، وتحقيق الخبر.
وعبر هنا في قصة مريم وعيسى بقوله: ﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾، وفي قصة زكريا ويحيى عبر بقوله: ﴿ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 40]، والحكمة- والله أعلم- أن عيسى عليه السلام خُلِقَ من غير ما جرت به العادة، فناسب التعبير بقوله: «يخلق» الدال على الإبداع، وهذه حكمة كونية، وأيضًا في قوله: «يخلق» إبطال لقول النصارى: إن عيسى هو الله، وأن الله ثالث ثلاثة؛ كما قال تعالى عنهم: ﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المائدة: 117]، وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 73]، وهذه حكمة شرعية.
ومعنى ﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾ أي: يُوجِد الذي يريد من المخلوقات على أي كيفية ونوعية وكمية شاء، سواء كان ذلك وفق الأسباب المعتادة المعلومة، أو على خلاف ذلك.
فخلق عز وجل عيسى عليه السلام من أم بلا أب على خلاف العادة، كما خلق آدم من تراب بلا أب ولا أم؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]، كما خلق عز وجل حواء زوج آدم منه، أي: من أب بلا أم، كما خلق سائر الخلق من أب وأم.
﴿ إِذَا قَضَى أَمْرًا ﴾ «إذا»: ظرفية شرطية، ﴿ قَضَى ﴾ أي: قضى كونًا، ﴿ أَمْرًا ﴾ مفرد، جمعه «أمور» لا (أوامر)، أي: إذا قضى شأنًا من الشؤون، وشيئًا من الأشياء؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، والقضاء له معنيان: كوني، وشرعي.
والقضاء الكوني كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى: ﴿ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 4]، وقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴾ [سبأ: 14]، وقوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ﴾ [الأنعام: 2]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36]، وقوله تعالى: ﴿ وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 44]، والقضاء الشرعي؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ [الإسراء: 23]، والفرق بين القضاء الكوني والقضاء الشرعي: أن القضاء الكوني لابد من وقوعه، ولا يلزم أن يكون محبوبًا لله تعالى، مثل: الإرادة الكونية، والأمر الكوني، والحكم الكوني.. ونحو ذلك.
وأما القضاء الشرعي، فإنه لا يلزم وقوعه لكن لابد أن يكون محبوبًا لله تعالى، مثل: الإرادة الشرعية، والأمر الشرعي، والحكم الشرعي.. ونحو ذلك.
﴿ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ «الفاء» في قوله: ﴿ فَإِنَّمَا ﴾: رابطة لجواب الشرط، و«إنما»: أداة حصر، ﴿ فَيَكُونُ ﴾: «الفاء» عاطفة سببية، أي: فبمجرد أن يقول له: ﴿ كُنْ ﴾ يكون كما أمر الله تعالى وأراد، دون تأخر؛ كما قال تعالى: ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [البقرة: 117]، وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون ﴾ [غافر: 68]، وقال تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [مريم: 35]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [النحل: 40]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ﴾ [القمر: 50]، وقال تعالى: ﴿ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ﴾ [النازعات: 13، 14].
فكل شيء مُنقاد لأمره الكوني ولا يستعصي عليه شيء؛ كما قال تعالى: ﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [آل عمران: 83]، وقال تعالى: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [فصلت: 11].
قوله تعالى: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ﴾ [آل عمران:48].
قرأ نافع وأبو جعفر وعاصم ﴿ وَيُعَلِّمُهُ ﴾بالياء، وقرأ الباقون: «ونعلمه» بالنون.
والجملة معطوفة على قوله: ﴿ يُبَشِّرُكِ﴾أو على قوله: ﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ ﴾، والضمير في قوله: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ ﴾يعود على عيسى عليه السلام، أي: ويعلِّمه الله عز وجل الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل.
و﴿ الْكِتَابَ ﴾: بمعنى المكتوب؛ أي: يعلِّمه الكتابة وحسن الخط، ويعلِّمه الكتب السابقة، وعلى هذا فتكون ( ال ) في ﴿ الْكِتَابَ﴾ للجنس.
﴿ وَالْحِكْمَةَ﴾معطوفة على ﴿ الْكِتَابَ﴾، و( أل ) في «الحكمة» للعهد الذهني، أي: الحكمة التي آتاها الله عيسى، وهي الشريعة التي شرعها الله تعالى له، وسُمِّيت الشريعة بالحكمة؛ لأن كل ما شرعه الله تعالى متضمن للحكمة.
والحكمة أيضًا علم أسرار التشريع، وهذا كما قال تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [النساء: 113].
﴿ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ﴾: معطوف على ما قبله، وخص بالذِّكر التوراة والإنجيل لفضلهما، ولأن عيسى عليه السلام مُرسل بالحكم والعمل بهما.
و«التوراة»: الكتاب الذي أنزل الله تعالى على موسى، كتبها الله تعالى بيده، وأنزلها بألواح؛ كما قال تعالى: ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الأعراف: 145].
وقال صلى الله عليه وسلم: «قال آدم لموسى: أنت موسى، اصطفاك الله بكلامه، وكتب لك التوراة بيده»[2].
يتبع