وهي أصل الكتب التي أُنزِلت على بني إسرائيل وأعظمها، وبها حكم أنبياؤهم، وهي أفضل كتب الله تعالى بعد القرآن الكريم؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44].
﴿ والإنجيل ﴾: هو الكتاب الذي أنزل الله تعالى على عيسى، وهو متمم ومكمل للتوراة، قال تعالى: ﴿ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [آل عمران: 50]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44].
قوله تعالى: ﴿ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾.
قوله ﴿ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ «الواو»: عاطفة، و«رسولًا»: مفعول به لفعل محذوف تقديره: يجعله رسولًا إلى بني إسرائيل.
و«الرسول»: من أُوحِيَ إليه بشرع وأُمِرَ بتبليغه. فعيسى عليه السلام رسول إلى بني اسرائيل، ورسالته مكملة لرسالة موسى عليه السلام.
﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾؛ أي: قائلًا لهم: ﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ أي: أُرسِلت إليكم بآية، أي: بعلامة من ربكم دالة على صدقي.
﴿ قَدْ﴾: للتحقيق، والباء في قوله: ﴿ بِآيَةٍ﴾للملابسة، أي: مقارنة للآية الدالة على صدقي في هذه الرسالة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [الزخرف: 63].
﴿ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ ﴾:قرأ نافع وأبو جعفر بكسر الهمزة: «إِني» على أن الكلام استئناف لبيان « آية »، وقرأ الباقون بفتحها: ﴿ أَنِّي ﴾ على أنه بدل من قوله: ﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ ﴾.
وهذا وما بعده بيان للآية التي جاء بها عيسى عليه السلام بقوله: ﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾.
﴿ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ﴾: قرأ أبو جعفر بالإفراد «كهيئة الطائر»، وقرأ الباقون: ﴿ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ﴾، والطير: اسم يقع غالبًا على الجمع، وقد يقع على الواحد، والكاف بمعنى: مثل، وهي صفة لموصوف محذوف، أي: أخلق لكم شيئًا كهيئة الطير، أي: كصورة الطير.
﴿ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا ﴾: قرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب بالإفراد «فيكون طائرًا»، أي: فيكون طائرًا تشاهدونه يطير، وقرأ الباقون: ﴿ فَيَكُونُ طَيْرًا ﴾، أي: طيرًا حيًّا بعد أن كان صورة على هيئة الطير، والمعنى: فيكون هذا الذي خلقت لكم من الطين على هيئة الطير، ونفخت فيه الروح طيرًا حياًّ يطير بجناحيه؛ لأن القراءتين بمثابة آيتين يُكمل بعضهما بعضًا.
﴿ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ أي: بأمره الكوني الشرعي، فلولا أنَّ الله تعالى قدَّر ذلك كونًا، وأقدر عيسى عليه ما حصل ذلك، ولولا أن الله تعالى أذن لعيسى أن يُصوِّر على هيئة الطير ما فعل ذلك؛ لأن تصوير ذوات الأرواح لا يجوز؛ لما فيه من مضاهاة خلق الله تعالى؛ كما قال تعالى في الحديث القدسي: «ومَن أظلم ممَّن ذهب يَخلق كخَلْقي»[3].
وفي قول عيسى عليه السلام: ﴿ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ إظهار كمال عبوديته لله تعالى، واحتراس من أن يظن أنه يخلق استقلالًا.
﴿ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ﴾: معطوف على ﴿ أَخْلُقُ ﴾، و«أُبرئ» من (البرء) وهو الشفاء، أي: وأشفي، قيل: يبرؤهما بالدعاء.
و﴿ الْأَكْمَهَ ﴾: الذي وُلِدَ أعمى، وقيل: الأعمى مطلقًا.
﴿ وَالْأَبْرَصَ ﴾: من به برص، وهي بقع بيضاء شديدة البياض تظهر على الجلد، وقد تنتشر حتى تعُم الجلد كله، وهو مرض مستقذر.
كما في قصة الثلاثة: الأبرص والأقرع والأعمى: «فجاء الملك للأبرص، فقال له: أي شيء أحب اليك؟ قال: «لون حسن وجلد حسن، قد قذرني الناس»[4].
وخصَّ إبراء الأكمه والأبرص؛ لأنهما أمران مُعضلان أعجزا الأطباء مع كثرتهم في زمنه وحذقهم؛ ولهذا أراهم الله تعالى المعجزة من جنس الطب، وقرن ذلك بالخلق وإحياء الموتى.
﴿ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾: معطوف على ﴿ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ﴾، أي: وأُحيي الذين ماتوا بإذن الله الكوني، و(أل) في «الموتى» للجنس، أي: جنس «الموتى» بأن يقف على أي ميت فيأمره فيحيى، وليس المراد بذلك ميتًا بعينه كما قيل إنه أحيا سام بن نوح أو غيره من أناس بأعيانهم؛ فهذا لا دليل عليه.
﴿ وَأُنَبِّئُكُمْ ﴾ أي: أخبركم.
﴿ بِمَا تَأْكُلُونَ ﴾ «ما»: موصولة، أو مصدرية في الموضعين، أي: بالذي تأكلونه اليوم، أو بأكلكم في يومكم.
﴿ وَمَا تَدَّخِرُونَ ﴾ أي: والذي تدَّخرونه، أو ادخاركم ﴿ فِي بُيُوتِكُمْ ﴾: لغد، أو لما بعده، مما لم أطلع عليه.
وهذا من جملة الآيات التي أعطاها لعيسى؛ لأن هذا من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ومن ارتضى من رسله، كما قال تعالى: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ﴾ [الجن: 26، 27].
وكما أن في هذا آية من آيات الله التي منحها الله تعالى لعيسى؛ لأن هذا من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله؛ ففي ذلك حض لهم على الأكل والادخار مما أباح الله تعالى لهم، وتحذير مما حرَّمه الله عليهم؛ كما قال عيسى عليه السلام: ﴿ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [آل عمران: 50].
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ ﴾: الإشارة لما سبق من قوله تعالى: ﴿ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ﴾؛ أي: إن في ذلك المذكور لآية لكم، أي: لعلامة على صدقي فيما جئتكم به من الرسالة تدعو إلى الإيمان بذلك.
﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ أي: إن كنتم مصدقين بآيات الله، منقادين لشرعه؛ ففي ذلك آية لكم؛ لأنه لا ينتفع بالآيات إلا المؤمنون بخلاف أهل العناد والمكابرة، كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 99]، وقال تعالى: ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس: 101].
قوله تعالى: ﴿ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾.
قوله: ﴿ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ﴾ «مصدقًا»: حال، أي: وحال كوني «مصدقًا لما بين يدي من التوراة»، والمصدق: المخبر بصدق غيره، واللام في قوله: ﴿ لِمَا بَيْنَ ﴾: للتقوية، أي: تصديقًا مثبتًا محققًا، والمعنى: ومصدقًا لما تقدم قبلي وسبقني من التوراة، ببيان أنها حق من عند الله، وبكوني مِصداق ما أخبرت به، فأخبرت ببعثته عليه السلام قبل مبعثه، فكان مبعثه مِصداق ما أخبرت به، وأيضًا مصدقًا لها بكون ما جاء به غالبًا موافقًا لِما جاء فيها من أخبار وأحكام.
﴿ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ «الواو»: عاطفة، والجملة معطوفة على قوله: ﴿ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾، و«اللام»: للتعليل؛ أي: ولأجل أن أحل لكم بعض الذي حُرِّم عليكم في التوراة تخفيفًا عنكم، وقال في الآية الأخرى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [الزخرف: 63]، والمحرم عليهم ذكره الله تعالى في قوله: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ [الأنعام: 146]، وقال تعالى: ﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ﴾ [النساء: 160].
فبسبب بَغيهم وظلمهم، حرَّم الله تعالى عليهم هذه الطيبات، ثم أحل الله تعالى لهم بعضها على لسان عيسى؛ كما قال عليه السلام: ﴿ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ﴾.
و﴿ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ تأكيد لقوله: ﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، وليبني عليه قوله: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾.
﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ أي: اتخذوا وقاية من عذاب الله بفعل ما أمر الله به، وترك ما
نهى الله عنه.
﴿ وَأَطِيعُونِ ﴾: قرأ يعقوب بإثبات ياء المتكلم «وأطيعوني»، وقرأ الباقون بحذفها، و﴿ وَأَطِيعُونِ ﴾ معطوف على ما قبله، أي: وأطيعوني بفعل ما آمركم به، وترك ما أنهاكم عنه.
قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾: أمر عيسى قومه بتقوى الله تعالى وطاعته، ثم بيَّن عِلة أمره لهم بذلك، وهو أن الله عز وجل ربه وربهم، يجب عليهم جميعًا تقواه وطاعته وعبادته وحده.
قوله ﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ﴾: هذه الجملة تعليل للأمر بالتقوى والطاعة، أي: لأن الله ربي وربكم، فلكونه ربهم فهو حقيق بأن يتقوه جل وعلا، ولكونه رب عيسى وأرسله يقتضي تقواه وطاعة رسوله.
﴿ فَاعْبُدُوهُ ﴾ «الفاء»: للسببية، أي: فاعبدوه وحده، وفي هذا دلالة على أن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية.
وفيه أيضًا تنبيه وإشارة إلى أن عيسى مع ما أُعطيه من الآيات السابقة؛ فهو كغيره من الخلق مربوب لله تعالى، خاضع، منقاد له؛ ولهذا بدأ عليه السلام بنفسه بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي ﴾.
والعبادة في اللغة: التذلُّل والخضوع لله تعالى، وهي في الشرع: اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة؛ كالصلاة، والزكاة، وبر الوالدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإخلاص لله تعالى، والمحبة في الله تعالى والبغض في الله.. وغير ذلك.
كما تُطلق العبادة على فعل التعبُّد.
﴿ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾: الإشارة إلى ما سبق في قوله: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ﴾، أي: تقوى الله تعالى، وطاعة عيسى عليه السلام، وعبادة الله تعالى هي الصراط المستقيم.
ويُحتمل عود الإشارة إلى أقرب مذكور وهو قوله: ﴿ فَاعْبُدُوهُ ﴾.
﴿ هَذَا صِرَاطٌ ﴾ أي: هذا طريق واسع.
﴿ مُسْتَقِيمٌ ﴾: عدل، لا اعوجاج فيه، يؤدي إلى السعادة في الدنيا والآخرة، وإلى الله - عز وجل - وجنته بأقصر مسافة، وأقل وقت.
[1] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (7/ 65)، والبيهقي في «سننه» (1/ 125).
[2] أخرجه البخاري في «التفسير» تفسير سورة طه (4736)، ومسلم في «القدر» (2652)، وأبو داود في «السنة» (470)، والترمذي في «القدر» (2134)، وابن ماجه في «المقدمة» (80)، وأحمد (2/ 268) (392)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في «اللباس» (5953)، ومسلم في «اللباس والزينة» (2111)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في «أحاديث الأنبياء» (3464)، ومسلم في «الزهد والرقائق» (2964)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.