الوقف الإسلامي وصنائعه الحضارية – المكتبات الوقفيّة وشؤونها في التاريخ الإسلامي
- حفظت المكتبات الوقفية الكتب والمخطوطات ويسّرتها للمطالعين من غني وفقير ورجال ونساء وأحرار وعبيد ومماليك للتعلم والارتقاء حتى ذاع صيتهم بين الأمصار
- بنى الملك العادل نور الدين زنكي في دمشق البيمارستان الكبير المستشفى الذي كان من مفاخر ملوك الإسلام ووَقَفَ عليه خزانة كتب
نشر الوقف الإسلامي الكتب والمكتبات ما أدى لنشر الثقافة بين فئات المجتمع، الفقير منهم، والغني، والحر، والعبد المملوك، والأيتام، والإماء من النساء، حتى غدا بعضهم علماء وأعلام باقتنائهم الكتب النفيسة وصدق فيهم قول الشاعر: «ورفع العبد المملوك حتى أجلسه مجالس الملوك». ورعى طلبة العلم في المكتبات وهيأ لهم البيئة المرغبة في طلب العلم، والتأليف، والنسخ، والتحقيق، وكان يعطيهم الورق للنسخ أو الكتابة، ويعطيهم الوَرِق وهو المال ليصرفوا على أنفسهم، وهذا ما جعل إقبال الطلبة عليها من البوادي والحواضر، فالمكتبات الوقفية حفظت الكتب والمخطوطات ويسرتها للمطالعين من غني وفقير ورجال ونساء وأحرار وعبيد ومماليك، للتعلم والارتقاء حتى ذاع صيتهم بين الأمصار.
مكتبة أبي القاسم الشافعي المَوْصلي
وَقَفَها على طلبة العلم العلّامة جعفر بن محمد بن حمدان، أبو القاسم الفقيه الشافعي المَوْصلي (ت 323 هـ)، قال ياقوت الحموي: «قال ابن الزمكدم: وكانت له ببلده دارُ علمٍ قد جعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم وقفًا على كلِّ طالبٍ لعلم، لا يُمنع أحد من دخولها إذا جاءها غريبٌ يطلب الأدب، وإن كان معسراً أعطاه ورَقاً ووَرِقاً، تُفتح في كلّ يوم ويجلس فيها إذا عاد من رُكُوبه، ويجتمع إليه الناس فيملي عليهم من شعره وشعر غيره ومصنّفاته، مثل «الباهر» وغيره من مصنّفاته الحِسان، ثم يملي من حفظه من الحكايات المستطابة، وشيئًا من النّوادر المؤلّفة، وطرفًا من الفقه وما يتعلق به». المكتبة الظاهريّة بدمشق
قلّ أن تجدَ علمًا من أعلام الشّام منذ القرن السابع الهجري إلى يوم النّاس هذا، إلّا وله صلةٌ ما بهذه المكتبة، فما قصتها؟! هذا الاسم يُطلق في الأصل على مدرسة بناها الملك الظاهر غازي، ابن الملك الناصر صلاح الدين بن أيوب سنة 613هـ، وكانت هذه يقال لها الظاهريّة البرّانيّة، وهذه الآن «قد انطمست آثارها وخَفِيَ محلّها» كما قال الشيخ عبدالقادر بن بدران -رحمه الله-، واسمها هذا اكتسبته في مقابل الأخرى التي بناها الملك السعيد، ابن الملك الظاهر بيبرس، التي كان يقال لها الظاهريّة الجوّانيّة، سنة 676 هـ، ودُفن هو وأبوه فيها، رحم الله الجميع. ولعظمة تأثير هذه المدرسة وانتشار خيرها وتعاقب الأئمة على كراسيّ التدريس فيها، لم يكن المسلمون ليفوّتوا اغتنام الأجر بالوَقْف عليها، فوُقفت عليها أوقاف كثيرة، قال النُّعيمي: «ومن وَقْف هذه المدرسة: الحصص بالقنيطرة، ثم كفر عاقب والصرمان بكمالها، والأشرفية قبليّ دمشق، ونصف قرية الاصطبل بالبقاع، ونصف الطرّة والبستان بالصالحيّة». أقول: هذا السلسبيل المتدفّق من الكتب والعلوم الذي كانت دائرته تتسع مع السنين، هو الذي أصبح يُعرف بـ (المكتبة الظاهريّة) التي أنتجت لهذه الأمّة إماماً مثل الشيخ العلّامة محمد ناصر الدّين الألباني -رحمه الله-، مجدّد علوم السنة النبويّة في القرن الماضي، وهكذا العمل الصالح، وهذه هي منافع الوَقْف، لا يحصيها إلّا الذي شرع لهذه الأمّة وسيلةً تدرّ عليهم الحسنات إلى قيام الساعة، وقد أَرِمَت أجسادُهم. المكتبة الظاهريّة بالقاهرة
هي المكتبة الملحقة بالمدرسة الظاهرية التي بناها الظاهر بيبرس سنة 662هـ في محلّة بين القصرين بالقاهرة، وقد كانت هذه المدرسة الوقفيّة مؤسّسة تعليميّة اجتماعيّة متكاملة، قال ابن تغري بردي: «ثم في هذه السنة شرع الملك الظاهر في عمارة المدرسة الظاهريّة ببين القصرين، وتمّت في أوائل سنة اثنتين وستين وستمائة، ورتّب في تدريس الإيوان القبليّ القاضي تقي الدين محمد بن الحسين بن رزين الشافعي، وفى تدريس الإيوان الذي يواجهه القاضي مجد الدين عبدالرحمن بن العديم، والحافظ شرف الدين الدّمياطي لتدريس الحديث في الإيوان الشرقي، والشيخ كمال الدين المحلّي في الإيوان الذي يقابله لإقراء القرآن بالروايات والطرق، ثم رتّب جماعة يُقرئون السبع بهذا الإيوان أيضاً بعد صلاة الصبح، ووَقَفَ بها خزانة كتب، وبنى إلى جانبها مكتباً لتعليم الأيتام، وأجرى عليهم الخبز في كلّ يوم، وكسوةَ الفصلَيْن، وسقايةً تعين على الطّهارة؛ وجُلس للتدريس بهذه المدرسة ثالث عشر صفر من سنة اثنين وستين»، وقال المقريزي: «ولم يقع الشروع في بنائها حتى رتّب السلطان وَقْفَها، وكان بالشام، فكتب بما رتّبه إلى الأمير جمال الدين بن يغمور، وأن لا يستعمل فيها أحداً بغير أجرة، ولا ينقص من أجرته شيئا». مكتبة الغازي خسرو بيك في سراييفو
هي أقدم وأعرق دور المخطوطات الشرقيّة بعد مخطوطات تركيا، هناك بالقرب من مسجد الغازي خسرو بيك في عاصمة البوسنة والهرسك، أسّسها الغازي خسرو بيك عام 944هـ، وتحوي آلاف المخطوطات العربية والتركية والفارسية، ومن أشهر مكتبات المدارس في البوسنة؛ المكتبة التي أقامها المحسن الكبير الحاج محمد بيك الشهير بقركوز بيك رحمه الله سنة 977هـ / 1569م في مدينة موستار، إلى جانب مدرسته الشهيرة في موستار، والتي عرفت باسمه أيضاً، وجعل نواتها كتبه الخاصة التي أوقفها على طلاب المدرسة، وسماها في وقفيته. مكتبات البوسنة
وإلى جانب ما تقدّم ذكره عرفت البوسنة منذ وصول الإسلام إليها مكتبات عديدة من أشهرها: مكتبة مدرسة حسن ناظر، وقد أنشئت سنة 957 هـ/1550م في مدينة فوتشا، مكتبة المدرّس عثمان أفندي، وقد أسست في القرن الحادي عشر من الهجرة / السابع عشر من الميلاد في مدينة فوتشا، مكتبة عثمان شهدي أفندي، التي أسسها سنة 1173هـ / 1759 م في سراييفو، ومكتبة جامع أحمد باشا، المؤسسة في القرن الثاني عشر للهجرة، في بلدة (غرادتشانيتسا)، ومكتبة الحاج خليل أفندي بن أحمد الغرادتشانيتسوي القاضي في المحكمة الشرعية ببلغراد، وقد أسسها في القرن الثاني عشر للهجرة، ببلدته غرادتشانيتسا. دار الحديث بدمشق من مآثر القائد نور الدّين زنكي
قال أبو شامة: «وبنى بدمشق أيضًا دار الحديث، ووَقَفَ عليها وعلى من بها من المشتغلين بعلم الحديث وقوفاً كثيرة، وهو أول من بنى داراً للحديث فيما علمنا، وبنى أيضاً في كثيرٍ من بلاده مكاتبَ للأيتام، وأجرى عليهم وعلى معلِّميهم الجِرَايَاتِ الوافرة، وبنى أيضاً مساجدَ كثيرةً ووَقَفَ عليها وعلى من يقرأ بها القرآن، مرّ على دار الحديث الدمشقيّة النوريّة هذه أعلام وأئمّة، مثل علم الدّين البِرزالي، وكان نور الدين قد بناها أصلاً من أجل خاتمة حُفّاظ الوقت؛ أبي القاسم ابن عساكر -رحمه الله-، فكان هذا العَلَم أوّل شيوخها، ومنهم: أبو شامة المقدسي، وأبو الحجّاج المزّي، وعلاء الدين ابن العطّار، وآخرون يطول تعدادهم. مكتبة مستشفى أحمد بن طولون
قال الدكتور أحمد عيسى: «وقال السّخاوي: إن أحمد بن طولون بنى إلى جانب جامعة البيمارستان، وكان في أحد مجالس البيمارستان العتيق -أي بيمارستان أحمد بن طولون- خزانة كتب كان فيها ما يزيد على مائة ألف مجلد في سائر العلوم، يطول الأمر في عدّتها»، «وأمّا خزانة الكتب فكانت في أحد مجالس البيمارستان العتيق اليوم، كان فيها ما يزيد على مائة ألف مجلد في سائر العلوم، يطول الأمر في عدّتها». مكتبة مستشفى نور الدين زنكي بدمشق
بنى الملك العادل نور الدين زنكي في دمشق البيمارستان الكبير الذي كان من مفاخر ملوك الإسلام، ووَقَفَ عليه خزانة كتب، وانتدب له المنتخصّصين، فصار بالفعل كلّيّة طبٍّ متكاملةً كالمستشفى الطولونيّ المذكور آنفاً، وكان نور الدين -رحمه الله- قد وَقَفَ على هذا البيمارستان جملة كبيرة من الكتب الطّبيّة، وكانت في الخرستَانَيْنِ اللَّذَيْن في صدر الإيوان. مكتبة المستشفى المنصوري بالقاهرة
بناه الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي سنة 682هـ، وحسبك بهذا الصرح الطبيّ العالميّ في ذلك الوقت، أن يكون رئيس أطبّائه العلّامة ابن النّفيس، فريدُ عصره ووحيد دهر في علم الطِّبِّ في ذلك الوقت، وقد ألحقَ به الملك المنصور قبّةً كانت داراً للكتب في شتّى العلوم، ومدرسةً وكُتَّاباً للأيتام، وقد بلغ من شأن دار الكتب هذه وأهمّيّتها، أنّ العلّامة ابن النّفيس شيخ الأطبّاء قد وَقَفَ دارَه وكتبَه بع وفاته عليها وعلى المستشفى.
اعداد: عيسى القدومي