شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: رَمي جَمْرة العَقَبة مِنْ بَطْنِ الْوَادِي والتكبيِرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ
- أفعالَ الحجِّ تَوقيفيَّةٌ لطُولِها وعِظَمِ قَدْرِها وكَثرَةِ ما تَحوي مِن الأحْكامِ
- كان الصَّحابةُ حريصين على تَعليمِ النَّاسِ وتَذْكيرِهم بسُنَّةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم
عَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ: سَمِعْتُ الحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ يَقُولُ- وَهُوَ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ-: أَلِّفُوا القُرْآنَ كَمَا أَلَّفَهُ جِبْرِيلُ، السُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا البَقَرَةُ، والسُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا النِّسَاءُ، وَالسُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا آلُ عِمْرَانَ. قَالَ: فَلَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِهِ، فَسَبَّهُ وقَالَ: حَدَّثَنِي عبدالرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ: أَنَّهُ كَانَ مَعَ عبداللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَأَتَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ، فَاسْتَبْطَنَ الوَادِي، فَاسْتَعْرَضَهَا فَرَمَاهَا مِنْ بَطْنِ الوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، قَالَ: فَقُلْتُ يَا أَبَا عبدالرَّحْمَنِ: إِنَّ النَّاسَ يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا؟ فَقَالَ: هَذَا والَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ؛ مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ البَقَرَةِ؛ وعَنْ عبدالرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ: أَنَّ عبداللَّهِ لَبَّى حِينَ أَفَاضَ مِنْ جَمْعٍ، فَقِيلَ أَعْرَابِيٌّ هَذَا؟ فَقَالَ عبداللَّهِ: أَنَسِيَ النَّاسُ أَمْ ضَلُّوا؟ سَمِعْتُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، يَقُولُ فِي هَذَا المَكَانِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، الحديثان رواهما مسلم في الحج (2/942) باب: رَمي جمرة العقبة مِنْ بَطْنِ الوَادِي، وتكونُ مكة عنْ يساره، ويُكبّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاة.
شرح الحديث الأول
في الحديث الأول يَذكُرُ التابعيُّ الأعمَشُ سُليمانُ بنُ مِهْرانَ، قال سمعت: «الحجّاج بن يوسف يقول، وهو يخطبُ على المنبر» وكان الحجّاج بن يوسف الثقفي واليًا على العراق من قِبل عبدالملك بن مروان، وكان معرُوفًا بالظُّلم وسفك الدّماء، وانْتقاص السّلف، وتعدّي حُرمات الله بأدْنى شبهة، وقد أطْبق أهل العلم بالتاريخ والسّير: على أنّه كان مِنْ أشدّ الناس ظُلمًا، وأسْرعُهم للدّم الحَرَام سَفْكًا، ولمْ يَحفظ حُرْمات أصْحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا وصيّته في أهل العِلم والفَضل والصّلاح منْ أتباع أصحابه. قال ابن كثير: «وقد رُوي عنه ألفاظ بشعة شنيعة، ظاهرها الكفر، فإنْ كان قد تابَ منها، وأقلعَ عنها، وإلا فهو باقٍ في عُهدتها، ولكن قد يُخشى أنّها رويت عنه بنوعٍ من زيادة عليه». موقف العلماء من الحجاج
قال: «وقد ذهب جماعة من الأئمة إلى كفره وإن كان أكثر العلماء لمْ يروا كفره وكان بعضُ الصحابة كأنس وابن عمر يُصلّون خَلفه، ولو كانوا يرونه كافرًا؛ لمْ يُصلّوا خلفه». (البداية والنهاية) (9/153)، وروى الترمذي في سننه (2220): عن هِشَامِ بن حَسَّانَ قَال: «أَحْصَوْا مَا قَتَلَ الحَجَّاجُ صَبْراً؛ فَبَلَغَ مِائَةَ أَلْفٍ، وعِشْرِينَ أَلْفَ قَتِيلٍ». قوله: «ألّفُوا القُرآن كما ألّفه جبريل»
قوله: «ألّفُوا القُرآن كما ألّفه جبريل، السورة التي يذكر فيها البقرة، ...» قال القاضي عياض: إنْ كان الحجّاج أراد بقوله: «كما ألّفه جِبريل» تأليف الآي في كلّ سُورة، ونظمها على ما هي عليه الآن في المُصْحف، فهو إجْماعُ المسلمين، وأجْمعوا أنّ ذلك تأليف النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وإنْ كان يُريد تأليف السورة بعضها في إثر بعض؛ فهو قولُ بعض الفُقهاء والقرّاء، وخالفهم المُحقّقون وقالوا: بل هو اجتهادٌ مِنَ الأئمّة، وليس بتوقيف، قال القاضي: وتقديمه هنا النّساء على آل عمران؛ دليلٌ على أنّه لمْ يُرد إلا نَظم الآي؛ لأنّ الحجّاج إنّما كان يتّبع مُصحف عثمان - رضي الله عنه . كما في رِوايةِ النَّسائيِ: سَمِعتُ الحَجَّاجَ يقولُ: «لا تَقولوا: سُورةُ البقرةِ، قُولوا: السُّورةُ التي يُذكَرُ فيها البقرةُ»، فذَكَر الأعمَشُ ما سَمِعَه مِن الحَجَّاجِ لإبراهيمَ النَّخَعيِّ استِيضاحًا للصَّوابِ، ولم يَقصِدِ الأعمشُ الرِّوايةَ عن الحَجَّاجِ؛ فلم يكُنْ بأهلٍ لذلك، وإنَّما أراد أنْ يَحْكِيَ القصَّةَ، ويُوضِّحَ خطَأَ الحَجَّاجِ فيها بما ثَبَتَ عن الصّحابة، فحدَّثَه إبراهيمُ أنَّ عبدالرَّحمنِ بنَ يَزيدَ أخبَرَه أنَّه حجَّ مع عبداللهِ بنِ مَسعودٍ - رضي الله عنه -، وكان معه حينَ رَمى جَمْرةَ العَقَبةِ يومَ النَّحرِ، وهو اليومُ العاشرُ مِن ذي الحجَّةِ، وهي الجَمْرةُ الكُبْرى، وتقَعُ في آخِرِ مِنًى تُجاهَ مكَّةَ، وليست مِن مِنًى، بلْ هي حدُّ مِنًى مِن جِهةِ مكَّةَ. فاسْتَبْطَنَ الوادِيَ
قال: «فاسْتَبْطَنَ الوادِيَ» أي: وقَفَ في وسْطِه، حتَّى إذا حاذَى الشَّجرَةَ وقابَلَها - وهذه الشَّجرةُ لَيست مَوجودةً الآنَ- جاءَها مِن عَرْضِها، فرَمَى الجمْرةَ بسَبْعِ حَصَياتٍ، يقولُ: «اللهُ أكبَرُ» مع كلِّ حَصاةٍ يَرمِيها، وفي رِوايةِ مُسلمٍ: «فقلتُ: يا أبا عبدالرَّحمنِ، إنَّ الناسَ يَرْمونها مِن فَوقِها» فقال: مِن هاهُنا- وأشار إلى بَطْنِ الوادي- قام الذي أُنزِلَت عليه سُورةُ البقَرةِ - صلى الله عليه وسلم -، وأقسَمَ ابنُ مَسعودٍ على ذلك باللهِ الذي لا إلهَ غيرُه، تَأكيداً لقَولِه ونَقْلِه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وتَخصيصُ ابنِ مَسعودٍ سُورةَ البَقَرةِ بالذِّكرِ في قَسَمِه دُونَ غَيرِها؛ قيل: يُشيرُ إلى إنَّ كَثيرًا مِنْ أفعالِ الحجِّ مَذكورٌ فيها، فكأنَّه قال: هذا مَقامُ الذي أُنزِلَتْ عليه أحكامُ المَناسِكِ، منبِّهًا بذلك على أنَّ أفعالَ الحجِّ تَوقيفيَّةٌ. وقيل: لطُولِها وعِظَمِ قَدْرِها، وكَثرَةِ ما تَحوي مِن الأحْكامِ. ومُرادُ إبراهيمَ النَّخْعيِّ مِن هذا الحَديثِ: قَولُ ابنِ مَسعودٍ - رضي الله عنه -: «سُورةُ البَقَرةِ» ولم يَقُلِ: «السُّورةُ التي ذُكِرَت فيها البقرةُ» كما قال الحَجَّاجُ الثَّقفيُّ؛ ففي هذا رَدٌّ عليه ورفْضٌ لقَولِه ولقولِ مَن قالوا: لَا يُقالُ سُورةُ البقَرةِ، وإنَّما يُقالُ: السُّورةُ التي تُذكَرُ فيها البَقَرةُ. فوائد الحديث
1- رَميُ الجِمارِ مِن بَطْنِ الوادِي، والتُكبيِرُ مع كُلِّ حَصاةٍ. 2- وفيه: مَشروعيَّةُ الحَلِفِ لتَأكيدِ الكَلامِ. 3- وفيه: إنكارُ أهلِ العِلمِ على وُلاةِ الأمْرِ بالحِكمة والعلم. الحديث الثاني
في هذا الحَديثِ يُخبِرُ التَّابِعيُّ عبدالرَّحمنِ بنُ يَزيدَ أنَّ عبداللهِ بنَ مَسعودٍ - رضي الله عنه - لَبَّى حينَ أَفاضَ مِن جَمعٍ، وهيَ المُزدَلِفةُ، وهي ثالثُ المشاعِرِ المقدَّسةِ الَّتي يمُرُّ بها الحَجيجُ، وتقَعُ بينَ مَشعَرَيْ مِنًى وعَرَفاتٍ، ويَبيتُ الحجَّاجُ بها بعدَ نَفْرتِهم من عَرفاتٍ في آخِرِ يومِ التَّاسعِ من ذي الحِجَّةِ، ثُمَّ يُصلّون فيها صَلاتَيِ المغرِبِ والعِشاءِ جَمعاً وقَصرًا، ويجمَعونَ فيها الحَصى لرَميِ الجَمَراتِ بمنًى، ويمكُثُ فيها الحجَّاجُ حتَّى صباحِ اليومِ التَّالي يومِ عيدِ الأضْحى؛ ليُفيضوا بعدَ ذلك إلى منًى.
فلمَّا سَمِعَه النَّاسُ يُلبِّي في هذا المكانِ وهذا الوقتِ؛ أنْكَروا عليه تَلبيتَه، وظَنُّوا أنَّه أَعْرابيٌّ من سكَّانِ الصَّحاري الَّذين لا يَفقَهونَ ولا يَعلَمونَ أحْكامَ الدِّينِ، وأخرَجَ البَيهَقيُّ في الكُبرى «فقالوا: يا أعْرابيُّ، إنَّ هذا ليس بيومِ تَلبيةٍ، إنَّما هو التَّكبيرُ». فَقال عبداللهِ بنُ مسعودٍ - رضي الله عنه - مُنكِرًا على مَن أنكَرَ عليه التَّلبيةَ، حينَما أفاضَ من مُزدَلِفةَ: «أَنَسِيَ النَّاسُ أم ضلُّوا؟!» والمَعنى: هل نَسيَ هؤلاء سُنةَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في التَّلبيةِ في مثلِ هذا الموضِعِ؟ حتَّى أنْكَروا عليّ ذلك؟ أم هم تارِكونَ للسُّنَّةِ معَ عِلمِهم بها؟! ثُمَّ قال: «سَمِعتُ الَّذي أُنزلِتْ عليه سورةُ البَقرةِ» يقصِدُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ في هذا المكانِ: «لبَّيكَ اللَّهمَّ لبَّيكَ» أي: أُكرِّرُ إجابَتي لكَ في امتِثالِ أمْرِكَ بالحَجِّ، فأُلَبِّي أمرَكَ مرَّةً بعدَ مرَّةٍ، وإنَّما خَصَّ البَقرةَ؛ لأنَّ مُعظمَ أَحْكامِ المَناسكِ فيها، فكأنَّه قالَ: هذا مَقامُ مَن أُنزِلتْ عليه المَناسِكُ، وأُخِذَ عنهُ الشَّرعُ، وبَيَّنَ الأَحْكامَ؛ فَاعتَمِدُوه. فوائد الحديث
- مشروعيّة التَّلبية في مُزدَلِفةِ.
- وفيه: بيانُ ما كان عليه الصَّحابةُ من تَعليمِ النَّاسِ، وتَذْكيرِهم بسُنَّةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
- جواز قول: سورة البقرة، وسورة آل عمران، وهكذا.
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي