شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: رَمْيُ الجِمَارِ وِتراً
عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الِاسْتِجْمَارُ تَوٌّ، ورَمْيُ الجِمَارِ تَوٌّ، والسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ تَوٌّ، وَالطَّوَافُ تَوٌّ، وإِذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَجْمِرْ بِتَوٍّ»، الحديث رواه مسلم في الحج (2/945) باب: بيان أنّ حَصى الجِمَار سبعٌ.
يُخبِرُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الِاستِجمارَ- وهو إزَالةُ أثَر البَولِ والغَائطِ بالأَحْجَارِ- يكونُ تَوًّا، أي: وِتراً، وأقلّه ثلاثٌ، فإنْ لمْ يَتمَّ الإنْقاءُ بثَلاثٍ، وجَبَ عليه أنْ يَزيدَ عَلى الثَّلاثِ حتَّى يَحصُلَ الإنْقاءُ، فإنْ حصَلَ بوِترٍ فَلا زيادةَ، وإنْ حصَلَ بشَفعٍ، فعليهِ زِيادةُ مَسْحهِ للإيتَارِ، وكذلك رَميُ الجِمَارِ في الحجِّ، فإنّها تُرمَى بسَبعِ حَصَياتٍ، وهي وترٌ، والسَّعيُ بينَ الصَّفا والمروةِ سبْعُ مرَّاتٍ، وهي وِترٌ، والطَّوافُ حولَ الكَعبةِ سَبعةُ أَشْواطٍ، وهي وترٌ. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «وإذا استَجمَرَ أحدُكم فَلْيستَجْمِرْ بِتَوٍّ» قيلَ: إنَّ المُرادَ بما ذَكَرَ في أوَّلِ الحديثِ هو الفِعلُ، وما ذكره هنا هو عددُ الأَحْجارِ، أو أنَّ التَّكريرَ للحثِّ والاهْتمامِ بهذا الأمرِ خاصَّةً؛ لأنَّه قد يَتهاوَنُ فيه الناس معَ تَكرُّرِه اليَوميِّ، بخلافِ غيرِه، فالجُملةُ الأُولى أُريدَ بها الإخْبارُ، والجُملةُ الثَّانيةُ طَلَبيَّةٌ، أُريدَ بها الحثُّ والاهتمامُ، بأمْرِ الاسْتِجمار والتّطهّر، لتكراره اليومي، وتَهاون بعضُ الناس فيه، وقيلَ: المرادُ بالاسْتِجمارِ هنا: البَخُورُ والتَّبخُّرُ، ويَكونُ بوَضعِ العُودِ عَلى جَمرةِ النَّار، فيُوتِرُ فيه أَيضاً. فوائد الحديث
- بَيانٌ لِبَعضِ السُّننِ والآدابِ الإسْلاميَّةِ، والتَّعاليمِ الشَّرعيَّةِ.
- ففيه بيانُ أنّ عدّة أمُور هي فرديّة، وليستْ شَفعيّة، بل هي وِتْر، فرمْيُ الجِمار سبعُ حَصَيات، والطّواف سبعةُ أشْواط، وكلّ هذا على الوجُوب، وأيضًا الاسْتجمار، وقد تقدّم في (كتاب الطهارة) أنّ أقلّه ثلاث أحْجار، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ اسْتَجْمرَ فلْيُوتِر» والحديث متفق عليه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، والأمرُ يَقتضِي الوُجُوب، ولا صَارفَ له.
باب: حَلْق النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في حَجّه
عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَلَقَ رَأْسَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، الحديث رواه مسلم في الحج (2/947) باب: تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير، ورواه البخاري بلفظ: «حَلَقَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وطَائِفَةٌ مِن أصْحَابِهِ، وقَصَّرَ بَعْضُهُمْ».
في هذا الحَديثِ يَحكي عبداللهِ بنُ عُمَرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وجَماعةً مِن أصحابِه، حَلَقوا شَعرَ رُؤوسِهم، والبَعضَ الآخَرَ منهم قَصَّروا شَعْرَهم ولم يَحلِقوا، وكان ذلك في حَجَّةِ الوداعِ في السَّنةِ العاشرةِ مِن الهجرةِ، فدلَّ هذا على مَشروعيَّةِ الأمرَين، إلَّا أنَّ الحلْقَ أفضَلُ مِن التَّقصيرِ بالنِّسبةِ للرِّجالِ، لأنَّه فِعلُ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولأنَّ اللهَ -عزَّوجلَّ- قدَّمَه في كِتابِه فقال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} (الفتح: 27). كما أنّه أبلَغُ في العِبادةِ، وأبيَنُ للخُضُوعِ والذِّلَّةِ لله -تعالى-، وأدلُّ على صِدْقِ النيَّةِ، والذي يُقَصِّرُ يُبقِي على نفْسِه شَيئًا ممَّا يَتزيَّنُ به، بخلافِ الحالِقِ، فإنَّه يَشعُرُ بأنَّه تَرَكَ ذلك للهِ -تعالَى-، وفيه إشارةٌ إلى التجَرُّدِ للهِ -عزَّ وجلَّ-، والحلْقُ كما ذكرنا: إنّما يكونُ للرِّجالِ فقطْ، أمَّا النِّساءُ فليس لهنّ إلَّا التَّقصيرُ. والحلْقُ والتَّقصيرُ، شَعيرةٌ مِن شَعائرِ الحجِّ، وبه يَتحلَّلُ المُحرِمُ مِنْ إحْرامِه، ويكونُ بعْدَ رمْيِ جَمرةِ العقَبةِ، وبعْدَ ذَبْحِ الهدْيِ إنْ كان معه، وقبْلَ طَوافِ الإفاضةِ، وفي العُمرةِ يكونُ الحلق أو التقصير، بعْدَ السَّعيِ بيْن الصَّفا والمَروةِ. فوائد الحديث
ومما يستفاد من الحديث أنّ رَسولُ اللهِ -[- قد بيَّنَ للأمّة مَناسِكَ الحجِّ بأقوالِه وأفعالِه، ونَقَلَها لنا الصَّحابةُ الكرامُ -رَضيَ اللهُ عنهم- أجمعينَ.
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي