شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في الحَلْق والتّقصير
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِلْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ولِلْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه،ِ ولِلْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: «ولِلْمُقَصِّرِينَ». (1302/320)، الحديث رواه مسلم
في هذا الحديثِ يَحكي ابنُ عمَرَ -رضي الله عنهما- أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كرَّرَ الدُّعاءِ للذينَ يَحلِقون شَعْرَهم في مَناسِكِهم، أنْ يَرحَمَهم اللهُ -تعالى-، وكان ذلك في حَجَّةِ الوداعِ في السَّنةِ العاشرةِ مِن الهِجرةِ، أو في عامِ الحُديْبيَةِ، أو فيهما جميعًا، فسَأَلَه الصَّحابةُ أنْ يَدْعو للمُقصِّرين مِثلَ ما دَعا للمُحلِّقين، فأجابَهُم لذلك وقال: «والمُقصِّرين»، لكن بعد المرَّةِ الثالثةِ. والحلْقُ: هو إزالةُ شَعرِ الرَّأسِ بالكُلِّيةِ، والتَّقصيرُ: هو قصُّ أطْرافِ شَعرِ الرأسِ، فدلَّ ذلك على مَشروعيَّةِ الأمرَين، إلَّا أنَّ الحلْقَ أفضَلُ مِن التَّقصيرِ بالنِّسبةِ للرِّجالِ، لأنَّه فِعلُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أولاً، ولأنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- قدَّمَه في كِتابِه فقال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} (الفتح: 27). والحلق أبلَغُ في العِبادةِ، وأبيَنُ للخُضوعِ والذِّلَّةِ، وأدلُّ على صِدْقِ النيَّةِ، والذي يُقَصِّرُ يُبقِي على نفْسِه شَيئًا ممَّا يَتزيَّنُ به، بخلافِ الحالِقِ، فإنَّه يَشعُرُ بأنَّه تَرَكَ ذلك للهِ -تعالى-، وفيه إشارةٌ إلى التجَرُّدِ للهِ -عزَّ وجلَّ-. والحلْقُ يكونُ للرِّجالِ فقطْ، أمَّا النِّساءُ فليس لهم إلَّا التَّقصيرُ. والحلْقُ أو التَّقصيرُ في الحجِّ شَعيرةٌ مِن شَعائرِ الحجِّ، وبه يَتحلَّلُ المُحرِمُ مِن إحْرامِه، ويكونُ بعْدَ رمْيِ جَمرةِ العقَبةِ، وبعْدَ ذَبْحِ الهدْيِ إنْ كان معه، وقبْلَ طَوافِ الإفاضةِ. وفي العُمرةِ يكونُ بعْدَ السَّعيِ بيْن الصَّفا والمَروةِ. فوائد الحديثِ
- مشروعية الدُّعاءُ بالرحمةِ للأحياءِ، وأنَّ ذلك ليسَ مقصورًا على الأمواتِ، بل تكونُ الرحمةُ للأحياءِ والأمواتِ.
- بيَّنَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَناسِكَ الحجِّ بأقوالِه وأفعالِه، ونَقَلَها لنا الصَّحابةُ الكرامُ -رضي الله عنهم- بكلِّ تَفاصيلِها، حتى يكونَ الناسُ على بيِّنةٍ مِن أمْرِ عِبادتِهم.
باب: الرّمي ثمّ النّحْر ثمّ الحَلق والبداية بالحَلْق بالجانبِ الأيمن
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْبُدْنِ فَنَحَرَهَا، والحَجَّامُ جَالِسٌ، وقَالَ بِيَدِهِ عَنْ رَأْسِهِ، فَحَلَقَ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ، فَقَسَمَهُ فِيمَنْ يَلِيهِ، ثُمَّ قَالَ: «احْلِقْ الشِّقَّ الْآخَرَ» فَقَالَ: أَيْنَ أَبُو طَلْحَةَ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ.
يَرْوي أنسُ بنُ مالكٍ - رضي الله عنه - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا رمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ الكُبْرى في مِنًى، وذلك صَبيحةَ يومِ عِيدِ الأضْحى في يومِ العاشرِ مِن ذي الحِجَّةِ، وذلك في حُجَّةِ الوَداعِ في السَّنةِ العاشرةِ مِن الهِجرةِ، قال: «ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْبُدْنِ فَنَحَرَهَا» أي: ذبَحَ ذَبِيحَتَهُ وهَدْيَه. قوله: «والحجام جالس» والحجّام يطلق على مَنْ امتهن الحِجَامة، وهي استخراج الدم الفاسد عن طريق الامتصاص، وهذا قديماً، وأما اليوم فلها طرق أخرى للحجم، وكان غالب من يمتهن الحجامة سابقًا الحَلاق. قال النووي رحمه الله: «واختلفوا في اسم هذا الرجل الذي حَلَق رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، فالصّحيح المشهور أنه: معمر بن عبدالله العدوي - رضي الله عنه -». (شرح النووي). قوله: «وقَالَ بِيَدِهِ عَنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ»
أي: لمّا أراد حَلْقَ شَعَرِه، ناولَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الحالِقَ شِقَّهُ الأيمَنَ، فَحَلَقَه، لأنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كان يُحِبُّ التَّيَمُّنَ في كُلِّ شَيْءٍ، «فَقَسَمَهُ فِيمَنْ يَلِيهِ» يعني: بيْن أصْحابِهِ. قوله: ثُمَّ قَالَ: «احْلِقْ الشِّقَّ الْآخَرَ» فَقَالَ: أَيْنَ أَبُو طَلْحَةَ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ». أي: ثُمَّ ناوَلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الحلاقَ الشِّقَّ الأَيْسَرَ مِن رأْسِه، ثم دَعا أبا طَلْحَةَ الأَنْصارِيَّ وهو زَوجَ أُمِّ سُلَيمٍ والدةِ أنَسٍ -رضي الله عنهم-، فَأعْطاهُ الشَّعرَ المحْلُوقَ، وخَصَّهُ به، لمَكانَتِهِ، ولعلَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَسَمَ شَعرَهُ بيْنهم، ليكونَ برَكةً باقيةً بيْن أظهُرِهم، وتَذكِرةً لهم، وكأنَّه أشار بذلك إلى اقتِرابِ أجَلِه - صلى الله عليه وسلم - وانقضاءِ زَمانِ الصُّحبةِ. وفي رِوايةِ لأحمَدَ: أنَّ أبا طَلحةَ أعطاهُ لأُمِّ سُليمٍ- وهي زوجتُه- فَكَانَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ تَخلِطُه في طِيبِهَا، وقدْ ثبَتَ أنَّ بعضَ الصَّحابَةِ كان يَأخُذُ مِن عَرَقِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ويَجعَلُه في طِيبِه، وآخَرَ يَلتمِسُ أثرَ أصابِعِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الطَّعامِ، ليَأكُلَ مِن مَكانِه منه، وثالِثًا يَشْرَبُ مِن سُؤْرِه وبَقايا شَرابِه، هذا بالإضافةِ إلى تَتبُّعِهم السُّنَنَ والهَدْيَ النَّبوِيَّ، حبًّا للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وتبرُّكًا بآثارِه الشَّريفةِ، وهذا خاصٌّ بآثارِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - العَينيَّةِ. فوائد الحديث
- التَّبرُّكُ بشَعَرِه - صلى الله عليه وسلم -، واقتِناؤُه.
- وفيه: مُساواةُ الإمامِ والكبيرِ بيْنَ أصحابِه وأتْباعِه، فِيما يُفرِّقُه عليهم مِن العَطاءِ والهَديَّةِ.
- وفيه: البَدْءُ في الحلْقِ بالأيمنِ مِن جانِبَي الرَّأسِ.
- وفيه: فَضيلةٌ ظاهرةٌ لأبي طَلْحةَ - رضي الله عنه -، بتَوفيرِ نَصيبِه، ثمَّ إعطائِه النِّصفَ الآخَرَ، وإكرامِه بأنْ أمَرَه بتَفريقِه بيْن النَّاسِ.
- وفيه: المواساةُ بيْن الأصحابِ في العطيَّةِ والهديَّةِ، وأنَّ المواساةَ لا تَستلزِمُ المُساواةَ.
- كان أصحابُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَتسارَعونَ إلى أخْذِ آثارِه، يَتبرَّكون بها، وفي هذا الحَديثِ مَشهَدٌ مِن تلك المَشاهِدِ.
- لا يثبت وجود شيء من آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - الآن، ومن ادعى وجود شيء من ذلك فلا دليل معه عليه، وعلى ذلك: فلا يجوز لأحدٍ أنْ يَدّعي أن بحوزته شيئاً من آثار النّبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بدليل قاطع، وأنّى له ذلك؟
- قال العلامة المؤرخ أحمد باشا تيمور: «فما صحّ من الشّعرات التي تداولها الناس بعد ذلك، فإنّما وصل إليهم ممّا قسم بين الأصحاب -رضي الله عنهم-، غير أنّ الصُّعوبة في معرفة صحيحها من زائفها».
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي