حكم مطالبة الولد والده بنفقته الواجبة عليه
قال رحمه الله: [إلا بنفقته الواجبة عليه] .
قوله: (إلا) : استثناء، والاستثناء: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، فأخرج من اللفظ الذي سبق حالة النفقة، فالنفقة من حق الولد أن يطالب والده بها، ومن حقه أن يطالب الوالد بذلك ولو بالقضاء؛ لأن هذا يضر بالولد كثيرا؛ فالله عز وجل أوجب على الوالد أن ينفق على ولده، وفرض عليه ذلك، وإذا كان ملزما بذلك؛ فلا يجوز له أن يضيع حق الله في ولده، قال صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول) ، يقول بعض مشايخنا رحمة الله عليهم: علوم الاجتماع كلها في قوله عليه الصلاة والسلام: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول) ، فلا يمكن لمجتمع أن يسعد إلا بهذا الحديث.
فلو أن كل من يعول قليلا أو كثيرا يقوم بحقوق الإعالة كما ينبغي لما حدثت مشكلة؛ لأن المشاكل كلها تقع بسبب تضييع حق الإعالة، سواء كانت زوجة أو أولادا، وحتى إنه يضيع من يعول بالسهر، فيضيع الإنسان حق زوجته، فيضيع حق أولاده في مراجعتهم ومذاكرتهم ومتابعتهم في دروسهم، وفي أصحابهم وقرنائهم، وكل المشاكل إنما نشأت من عدم القيام بحق من استرعاك الله عليهم، وحينما يقوم كل راع بحق رعيته تحل كل المشاكل، فما أبلغ قوله عليه الصلاة والسلام! وما أحسنه وما أجمله وما أجله وأكمله! (كفى بالمرء إثما) بمجرد أن تسمع هذه الكلمة إذا بالنفوس تقشعر والقلوب ترجف ومن الذي يتحمل أن يلقى الله بالإثم والوزر سواء كان في الدين أم في الدنيا؟! والإثم لا يزال سببا في هلاك الإنسان ودماره، حتى لربما تسبب في سوء خاتمته -والعياذ بالله-، ولربما تسبب في أن يكون قبر الإنسان حفرة من حفر النار -والعياذ بالله-، ولربما تسبب في شقائه الأبدي بدخول نار جهنم خالدا مخلدا فيها بالإثم أو الشرك أو الكفر ونحو ذلك مما يوجب الخروج من الملة، فالإثم سبب كل بلاء وعناء، ولذلك قال تعالى: {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [النساء:79] .
هذا الإثم يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول) ، فالوالد جعل الله عليه حق النفقة لأولاده، وجعله قائما على بيته، يأمرهم بما أمر الله وينهاهم عما نهى الله عنه، فمن حقوقهم المادية: أن ينفق عليهم بالمعروف، فإذا امتنع الوالد مع القدرة على الإنفاق فحينئذ ظلم وجار، ومن حق الولد أن يقول له: يا أبتي! أعطني حق النفقة؛ لأن الولد لو لم يطالب والده بحقه لربما وقع في الحرام، ولربما تعرض للسرقة، ولربما تعرض للفواحش بسبب عدم وجود النفقة -عياذا بالله- والسنة دلت على هذا، ومن ذلك قصة الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار، وفيهم الرجل الذي أراد الزنا بالمرأة فإنه لم يتمكن من الزنا إلا لما احتاجت إلى المال.
وهذه حكم نبهت عليها الشريعة، ونبهت عليها السنة الغراء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبين عليه الصلاة والسلام أن من أعظم الإثم إضاعة من يعول، فإذا ضيع الوالد ولده ولم ينفق عليه، كان من حق الولد أن يطالب والده بالنفقة.
وقوله: (إلا بنفقته الواجبة عليه) هناك نفقة واجبة ونفقة مستحبة، فإذا كان طعام الولد وشرابه وكسوته في حدود المائة، فلا مانع أن يزيد ويحسن إلى ولده، ومما يضع الله فيه البركة للإنسان، ويحسن به العاقبة في الأمور كلها دائما ألا يبقى على قدر الفرض الواجب الدائم؛ بل يسمو إلى الكمال، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرءا سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا قضى، سمحا إذا اقتضى) .
فإذا أراد أن ينفق على أولاده فالنفقة واجبة ومستحبة، والنفقة الواجبة التي يكون بها السداد ويحصل بها سد الحاجة والكفاية، والنفقة المستحبة إذا وسع الله عليك وسعت على ولدك.
ولا يجلس الإنسان يدقق في ولده ويحاسبه على الصغير والكبير، قد تكون المحاسبة في حدود معقولة، لكن إذا رأى أن الله بسط عليه وأحسن إليه، فكما أحسن الله إليك تحسن، ولذلك قيل لـ قارون: {وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين} [القصص:77] .
فتحسن إلى ولدك، ومن المجرب المعروف ما ذكره العلماء بالتجربة: أنك لن تجد رجلا في بيته يعامل زوجته وأولاده بالسماحة واليسر، ولا يشعرهم بالتضييق والعناء، سمحا إذا أعطى، وسمحا إذا أخذ، وسمحا إذا أمر، وسمحا إذا نهى، وسمحا إذا جاد؛ إلا وجدت أموره ميسرة مكفيا من الله سبحانه وتعالى، فكما تدين تدان، ومثلما عاملت الناس يعاملك الله، فلا تجد منه سبحانه إلا الرفق والإحسان والحلم؛ بل أضعاف أضعاف ما ترجوه.
فالنفقة المستحبة: هي الفضل والزيادة على النفقة الواجبة.
فلو أن والدا أعطى ولده المائة، وهي سد الحاجة والكفاية، والولد يريد أن يدرس ويريد الزيادة فقال: أريد مائة وعشرين، أو أريد مائة وخمسين، فإنه يطالب فوق المائة بالعشرين والخمسين، وهي في قدر المستحب وليس في قدر الواجب، فهذا ليس من حقه أن يطالب به، لكن إذا أراد أن يتفاهم مع والده على أن والده يكرمه ويزيده؛ فهذه شئون بين الولد ووالده، فيلاطفه ليحاول أن يعطيه القدر الزائد، فمثلا: ولد أعطاه والده مائة وهو يريد مائة وعشرين، فتلطف مع والده حتى يعطيه العشرين، وبحث عن أمور مؤثرة والمفاتيح التي تفك قفل والده، فهذا ليس بالمحرم.
أما النفقة المستحبة فالأمر فيها واسع، فإن الإنسان إذا كان بينه وبين أحد ود ومحبة وأراد أن يوسع عليه، وكان بينهما من الأخوة، وبين الوالد وولده من الصفاء والنقاء ما يطلب فيه الولد الأكثر دون أن يعنت الوالد، فلا بأس بذلك.
قال رحمه الله: [فإن له مطالبته بها] .
أي: بالنفقة الواجبة.
الأسئلة
حكم استدانة الولد لتلبية متطلبات والده الضرورية
السؤال أحيانا يطلب مني الوالد أكثر مما أطيق، كأن يطلب زيادة على ما أعطيه، ولا أجد قدرة على ذلك، فهل أستدين وألبي رغبته؟
الجواب هذا الحقيقة فيه تفصيل، فمن حيث الأصل لست بملزم، لكن هناك ظروف تطرأ على الوالد، وهذه الظروف صعبة؛ كعلاج ضروري، وهذا العلاج بخمسمائة ريال، وحدود النفقة التي تعطيها أنت للوالد مثلا مائتا ريال، لكن العلاج هو محتاج إليه الآن، ولو أنك استدنت الخمسمائة وفرجت -بعد الله- كربة أبيك، ثم استعنت بعد ذلك على سدادها من راتبك دون أن تقع في حرج وضيق، فهذا من أفضل وأكمل ما يكون، وتحتسب ذلك عند الله.
فمن حيث الأفضل والأكمل أقول لك: لن تعدم من الله عز وجل الخير والبركة ما دمت بارا لوالدك، وأكمل ما يكون البر في الشدائد، أما من حيث الواجب فلا يجب عليك الشيء الزائد عن حاجتك، والزائد عن قدرتك، والذي لا تستطيع: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة:286] .
لكن كن على علم ويقين أن الله لن يضيعك، وأن الله سيفتح لك من أبواب البركة والخير ما لم يخطر لك على بال، فما وجدنا البر سيئ العاقبة أبدا؛ بل إن البار في أحسن الأحوال وأكمل ما يكون عليه المآل في الدنيا والآخرة، ولذلك تجد البار ما يسلك طريقا إلا سهله الله له، ولن يقرع بابا إلا فتحه الله في وجهه ميسرة أموره.
وأنت إذا أخذت الأمر بالدقة وقلت: أنا لا أستطيع! أنا لا أريد! لا تحملني ما لا أطيق! وكفحته في وجهه، وأنت ترى ظرفا قاهرا وأمورا تحتاج منك أن تكون الابن الأكمل والأفضل، وأن تسمو بنفسك إلى معالي الأمور، وتحس عندها أن الله يسمعك، وأن الله يراك، وأن من أعظم ما يكون من الخير سرور تدخله على مسلم، فكيف بوالديك؟!! فإذا ألزمت نفسك الشدة وأنت متوكل على الله، مفوض أمرك إلى الله؛ فإن الله لن يخيبك، فسيفتح الله لك من اليسر والمعونة والتوفيق، ويربط على قلبك وييسر لك من أمرك ما لم يخطر لك على بال، والله حتى ولو أصبحت في ضيق لكن الله سيبارك لك في عيشك، وليقرن الله عينك عاجلا أو آجلا، وليجمعن الله لك بين حسن العاقبة من برك وحسن النظر في أهلك وولدك غدا، فمن بر والديه بره أبناؤه وبناته، وقر الله عينه بالبر حيا وميتا.
فلا يظن الإنسان أنه إذا وقف عند الحدود الواجبة أنه يعدل عند الله المعونة إذا خاطر بماله ووقته لا؛ بل إن الله يعينه ويوفقه.
وأيا ما كان فليس بفرض، ولكن الأفضل والأكمل أن تحتسب، ونسأل الله عز وجل أن يمدنا وإياكم بعونه وحوله، والله تعالى أعلم.
تفسير قاعدة (العادة محكمة)
السؤال نرجو منكم توضيح هذه القاعدة: العادة محكمة؟
الجواب العادة محكمة هي إحدى القواعد الخمس التي قام عليها الفقه الإسلامي، وهي: الأمور بمقاصدها، والمشقة تجلب التيسير، والضرر يزال، واليقين لا يزال بالشك، والعادة محكمة.
والعادة مأخوذة من العود؛ لأن الإنسان إذا اعتاد شيئا رجع إليه مرة بعد مرة، ولذلك سمي العيد عيدا؛ لأنه يتكرر ويعود إليه الإنسان في كل عام مرتين.
والمراد بالعادة: ما اعتاده أهل العرف الإسلامي، وعند العلماء ضوابط، فليس كل عادة في بلد يحتكم إليها، وليس كل شيء يعتاده الناس يحتكم إليه ويعمل به، فالشريعة جاءت بأشياء حكم فيها بأحكام معينة، وحددت هذه الأحكام، وفصلت فيها، فمثلا: بينت مقادير الزكوات، وفرضت على الناس أداءها، فبينت زمانها والأصناف التي تجب فيها، ومن تدفع إليه الزكاة، والأوقات التي تجب إلى آخره.
لكن هناك أشياء أوجبتها وتركت تقديرها لأعراف المسلمين، وهناك أشياء دعت إليها واستحبتها وتركت تقديرها لأعراف المسلمين، والسبب في هذا: أن العقول جعلها الله نورا للناس، ولذلك جعل الله نور العقل ونور الوحي، فالشخص تكمل عليه نعمة الله إذا جمع بين نور الشرع ونور العقل الذي وهبه، كما قال تعالى: {نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء} [النور:35] .
فالذي عنده عقل سليم لا يفعل إلا الشيء السليم؛ لأن العقل يعقل ويمنع عما لا يحمد، فالمسلم من حيث الأصل أن الناس في الأعراف الإسلامية في الغالب يعتادون أجمل الأشياء وأكملها وأحسنها، فإذا جئنا -مثلا- إلى عرف بلد إسلامي فوجدناهم اعتادوا أمرا، وهذا الأمر نحتاجه لتقدير حكم أو ضبط شيء أمر الشرع بضبطه بعرف الناس؛ رجعنا إليه، فنجد النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) وهذا يعتبر من خوارم المروءة، فإذا جئت تبحث ما هي المروءة تقول: المروءة أن يكون الإنسان في أكمل وأحسن الأحوال التي تليق به في خاصته، فالعالم له وضع، وطالب العلم له وضع، وعامة الناس لهم وضع.
فمثلا: الأكل في المطعم أمام الناس، أو مثلا: الأكل في الشارع، فقد يأتي شخص ويأخذ طعامه ويضعه في فمه أمام الناس، فهذا لا يمكن أن يقبل من عالم أن يأتي أمام الناس ويأكل إلا في أمور مستثناة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب القدح أمام الصحابة، وأكل أمام الصحابة للتعليم في السفر، فهذه أمور مستثناة، لكن في داخل المدينة وبإمكانه أن يأكل في بيته، فيخرج طعامه أمام الناس في السوق أو في المجامع ويجلس أمامهم، فهذا يسقط المروءة، ومع أنه مباح وجائز، لكن الناس إذا رأوا هذا الشيء استهجنوه، وليس له حكم في الشريعة، فإن الشريعة لم تحرم علينا أن نأكل، فالأكل جائز، لكن الأكل أمام الناس بهذا الشكل أصله مباح: وما أبيح وهو في العيان يقدح في مروءة الإنسان فنقول: هذا مردود، ولا نقبله منك أيها العالم، ولا نقبله منك يا طالب العلم؛ لأن عادة المسلمين وعرفهم لا يقبلون هذا.
ولو خرج إنسان بملابسه الداخلية، أو بملابس النوم، فهو أمر مباح، فإنه يجوز للشخص أن يخرج بالقميص، ولا بأس به، لكن في عرفنا وما اعتاده الناس أن هذا يزري بالإنسان، ولا شك أن هذا الشيء من خوارم المروءة.
قالوا: لأن الإنسان الذي لا يبالي بالناس ليس عنده عقل، فكونه يخرج أمام الناس لابسا هذا اللبس الذي لا يليق إلا أن يلبسه داخل البيت، يدل على نقصان عقله، فانخرمت مروءته، لكن هذا الحكم ما أخذناه من نص من الكتاب والسنة، لكن أخذناه من أعراف المسلمين الكاملة الفاضلة.
وإذا جاء شخص وجلس أمام الناس وهو -مثلا- من أعيان الناس وكبارهم، فيحتاج إلى أن يكون على وقار وعلى سمت وعلى جلالة قدر تليق به؛ كالعالم، وطالب العلم، فجلس يضحك ويفعل الأمور التي لا تليق به، ويتهكم ويستخف، أو يأتي بالنكت ويسخر من هذا ويضحك من هذا، ويمزح مع هذا، فماذا نعد هذا؟! تجد عامة الناس العاقل منهم ينظر إليه نظرة غريبة، مع أنه لم يفعل محرما، فاللهو مباح، والضحك مباح، لكن من مثله في هذا المكان بهذه الصفة لا يليق، فيعتبر خارما للمروءة، لكن لما حكمنا بكونه لا يليق ليس بنص من الكتاب ولا من السنة، ولكن من عرف المسلمين وعادتهم الكريمة التي جبلوا فيها على أحسن وأكمل وأفضل ما يكون عليه الناس، ولأن الله اختار لهم أفضل الأديان وأحسنها، فاختار لهم أحسن العادات.
ومن هنا تتخرج مسألة لبس المرأة للقصير أمام النساء، فالذي يحدث من بعض من يلبس على الناس دينهم ومن أنصاف المتعلمين يقول: عورة المرأة مع المرأة كعورة الرجل مع الرجل، وعورة الرجل ما بين السرة والركبة، إذا تكشف المرأة ساقيها، ولها الحق أن تكشف عن صدرها وتلبس الملابس العارية؛ لأنها مباحة، ولا يوجد دليل على التحريم.
فنقول: إن هذا الشيء من حيث الأصل العام أن عورة المرأة مع المرأة من جهة حد التحريم الأصلي، لكن لا يقتضي هذا الهجوم على عادات الناس ومكارم الأخلاق، وسل العادات الحميدة من النفوس الطيبة التي ألفت هذه العادات، وسن القدوة السيئة حتى يقتدى بها الغير والتي تفتح شرا على المجتمع، هذا هو الذي يعاتب عليه، وهذا الذي يمنع منه، فالمرأة التي تأتي كاشفة عن ساقيها ساقطة المروءة، سقطت عدالتها، وهذا ذكره العلماء، وبينوا أن الأمور المباحة إذا فعلت في العيان في الحفلات وفي مجامع الناس أوجبت سقوط المروءة، ودلت على نقصان عقل الإنسان، وقد تدل على نقصان دينه.
وعندما تجد الشخص يأتي ويقول لهم: هذا الفعل ليس فيه شيء، واتركوا بناتنا يفعلن هذا الشيء، واتركوا نساءنا يفعلن! هذا إنسان يريد أن يهدم المجتمع، ويريد أن يقوض العادات الكريمة المستقيمة.
والشاب الآن حينما يأتي وهو رجل فيأتي كاشفا عن فخذيه ويقول: هناك من العلماء من يقول: إن العورة هي السوءتان فقط، وأن الفخذ ليست بعورة، فيأتي أمام مجامع الناس لابسا هذا اللباس معتديا على حرمات المسلمين؛ لأن للمسلمين حرمة، فليس من حق أحد أن يكشف محاسنه فيفتن الغير بها؛ لأن هذا أمام الناس، ولو كان في بيته فهو حر في نفسه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مع هذا كله: (الله أحق أن يستحيا منه) حتى مع كون الإنسان وحيدا، وفي الحديث قيل للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! عورتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك، قالوا: يا رسول الله! أحدنا يكون خاليا، قال: الله أحق أن يستحيا منه) ، وقال في الحديث الصحيح: (إن معكم من لا يفارقونكم) ، وهم الملكان الكرام الكاتبون، الذين يعلمون ما تفعلون: (إن معكم من لا يفارقونكم فاستحيوهم وأكرموهم) .
ثم الشاب الذي يأتي فيكشف عن فخذه لا ينبغي أن يسكت عليه الغير، فحينما تراه تأتي وتنصحه بالتي هي أحسن.
وقد رأيت شابا ذات مرة بهذه الصفة فناديته وقلت: يا أخي! أولا: هذا الذي تفعله ليس من حقك شرعا، فليس من حقك شرعا أن تكشف شيئا مما يوجب الفتنة لغيرك.
ثانيا: أنا أريد أن أسألك سؤالا: لما رأيتني بالثوب ورأيتني بهذا اللباس ناشدتك الله هل ترى في ثوبي عيبا؟ قال: لا.
قلت: لبسك لهذا الشيء طعن في هذا الشيء، أنت في أمة كاملة وفي بلد قدوة للأمة كلها تنظر إليهم النظرة الفاضلة الكاملة، وتعتدي على مكارم العادات ومحاسن العادات! ومن ناحية شرعية: لا إشكال في كونه يقلد الغرب، وهذا سنأتي عليه، وقد بينته له بعد ذلك، وبينت له أن لبسك لهذا اللباس تبعا لغيرك يدل على انهزامك، وأنك تبع للغير، (من أحب قوما حشر معهم) وأنت خيرت بين لباسين: - لباس الكمال والفضيلة.
-
ولباس النقص والذي يقود إلى الرذيلة.
فهل هناك عاقل يرضى لنفسه أن يلبس هذا اللباس؟! إن هذا اعتداء على قيم الناس.
ثم الرجل الواحد والمرأة الواحدة التي تأتي في الحفلة وتلبس لباسا فيه نوع من الاشتهار، يدخل في لباس الشهرة، وقد جاء في الحديث: (ومن لبس لباس شهرة ألبسه الله ثوبا من نار) ، نسأل الله السلامة والعافية، ومن لبس لباس الشهرة شهر الله به في الدنيا والآخرة.
فالحذر! والله لا ترضى المسلمة أنها تربت في بيت ترى فيه أمها كاشفة عن فخذيها، والمرأة التي تكشف عن فخذيها أمام بناتها وأمام المجتمع تسأل نفسها: لو أنها استفاقت يوما من الأيام وقد رأت أمها كاشفة فخذها هل ترضى ذلك لأمها؟! فكيف ترضاه لبناتها؟! فنحن لا ننظر إلى القدوة، مع أن القدوة لها أثر.
إذا: (العادة محكمة) قاعدة صحيحة، ويرجع إليها في تقدير النفقات، فالنفقة الزوجية يرجع فيها إلى العادة، ونقول: إذا كنت غنيا تقدر بنفقة الغنى، وإذا كنت فقيرا تقدر بنفقة الفقر، وإذا كنت متوسطا بنفقة الوسط، والمهور يرجع فيها إلى مهر المثل، وهذا من الرجوع إلى القاعدة والاحتكام إلى العادة، وقس على ذلك.
لكن الذي ينبه عليه: أنه لا يحتكم إلى العادة الخاطئة، ولذلك قالوا: لو تعارف الناس على أمر محرم انتشر بين المسلمين فأصبح عادة لم يرتبط به حكم شرعي، حتى قالوا: لو اعتادوا -مثلا- على حلق اللحى وأصبح عادة فإن هذا لا يحتكم إليه؛ لأن شرط العادة: أولا: أن تكون في المشروع، لا في الممنوع.
ثانيا: أن تطرد اطرادا في أغلب الناس أو أكثر الناس، خاصة إذا شملت المجتمع كله، فهذا مما يحتكم إليه ويثبت العمل به.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
حكم تصرف الوالد في مال ابنه من الرضاعة
السؤال هل يحق للوالد التصرف في مال ابنه من الرضاعة؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالرضاعة لا توجب ما ذكرناه من الحكم، ولذلك فليس من حق الوالد أن يتصرف بمال ولده من الرضاعة، فإنه يختص الحكم فيما يكون من النسب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب) ، فجعل الحكم بالمحرمية، فدل على أن بقية الأحكام لا تأخذ فيها الرضاعة حكم النسب، والله تعالى أعلم.
حكم أخذ الولد دينه لأبيه المتوفى من تركته
السؤال إذا مات الأب وللابن عنده دين فهل يسقط أم يطالب إخوته أم يأخذه من التركة؟
الجواب هذا على ما تقدم، من حيث الأصل: أن الوالد إذا أخذ الدين من ولده وهو يريد سداده، فالمنبغي على الورثة ما دام أن هذا هو الأصل وهو المستصحب أن يسددوا عن والدهم، خاصة وأنه يكون فيه نوع من التفضيل، ويتحمل فيه الولد الذي دين تبعة ذلك الدين أكثر من غيره، فحينئذ يسدد له الدين، وأما إذا كان الوالد قد امتنع عن السداد مع القدرة، وفهم منه عدم إرادته للسداد، فلا إشكال، وحكمه حكم ما ذكرناه، والله تعالى أعلم.
متى تسقط نفقة الوالد على ولده
السؤال النفقة تجب من الوالد لولده، فمتى يزول هذا الوجوب، هل بمجرد بلوغ الابن؟
الجواب إذا بلغ الولد وكان قادرا على الكسب، قادرا على أن يعول نفسه، ويقوم بكفايتها؛ سقطت النفقة عن الوالد، وحينئذ فلا يلزم الوالد بالنفقة على ولده، مثال ذلك: إذا بلغ ووجد وظيفة أو وجد عملا؛ فحينئذ تسقط النفقة عن الوالد ويقوم الولد بإعالة نفسه.
أو كان الولد عنده قوة ويستطيع أن يعمل عملا أو يتكسب بالعمل المباح، فحينئذ يتكسب، وللوالد أن يقول له: اذهب وتكسب، فإذا قصر وامتنع من التكسب كان من حق الوالد أن يمتنع من النفقة عليه ما دام قادرا على الكسب، فالشريعة لا تدعو إلى البطالة، ولا تعين على البطالة.
ومن هنا ننبه على أن من أفضل ما يكون للإنسان أن يربي الوالد ولده دائما على الكسب باليد؛ لأنه خلق الأنبياء الذين اختار الله لهم الكسب الطيب، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أكلوا من كسب أيديهم، فداود كان في الحدادة يأكل من كسب يده، وكذلك يحيى وزكريا عليهم الصلاة والسلام، فهذا كله لا ينقص قدر الإنسان.
والشاب الذي تجده يكدح ويتعب من أول شبابه، ويستفتح حياته بأن يكون متوكلا على الله، آخذا بالسبب؛ فإن الله يبارك له في صحته، ويبارك له في وقته، ويبارك له في ماله وكسبه، لكن إذا نشأ عالة على والده، يحمل والده النفقة، ولو كان الوالد راضيا بذلك، فإن هذا لا تحمد عقباه، وليس بالأكمل والأفضل.
بل على الإنسان دائما أن يسعى في طلب المباح، وقد أخبرني الوالد رحمه الله: أن جدي كان يحفظهم القرآن من وقت الحر إلى طلوع الشمس، فكان يوقظهم من السحر، وكان رحمة الله عليه كثير التهجد والعبادة، حتى إن العمات الآن يقلن: لا يأتي قبل الفجر بساعة ونصف إلا وهن مستيقظات؛ لأنه عودهن من الصغر رحمة الله عليه.
فمما كان من سيرته: أنه كان إذا صلى الفجر يجلس مع أولاده إلى الإشراق، وإذا أشرقت الشمس أخذ الألواح التي يحفظون بها -كانوا يكتبون القرآن فيجمعون بين حفظه بالكتابة والرسم والتلقي والسماع-، فإذا طلعت الشمس سحب هذه الألواح منهم وأمرهم أن يذهبوا لكسب العيش، فيذهبون، ومن المعروف أنهم كانوا في بادية، فيذهبون ويطلبون القوت، ولم تكن هناك أعمال لهم، فالذي يذهب يحتطب، والذي يذهب ويقوم على رعي الغنم ومراعي الإبل، المهم ألا يبقى عاجزا، وألا يبقى عالة.
وقد كان عنده من الخدم ما يسد حاجته، لكن لابد أن يكدح كل شخص منهم ويلتمس رزقه، ولا يكون عالة على غيره، فهذا هو الأكمل والأفضل؛ أن يعود الوالد ولده، وإذا نشأ الشباب على هذا الشعور فإنهم سيجدون المال الطيب بالكسب المباح الذي ليس فيه شبهة ولا حرام، ويبارك الله لهم في أوقاتهم.
ولذلك تجد الشاب الذي يتعود على البطالة وعلى والديه لم يهنأ له العيش، حتى إنك تجد الواحد منهم تصب في حجره عشرات الألوف وهو من أنكد الناس -نسأل الله العافية والسلامة- ومن أبأسهم حالا، وتجده في أشد ما يكون من الضيق والعناء.
ولذلك ينبغي البعد عن هذه البطالة، وعلى الإنسان أن يبحث عن الكسب الطيب الذي يصون به نفسه وماء وجهه عن سؤال الناس أو الحاجة إلى الناس، قيل لـ إبراهيم بن أدهم -وهو من عباد الناس الصالحين وقد كان في البحر في سفينة، فأصابتهم الريح، فمالت السفينة وكادت أن تغرق، ثم نجاهم الله عز وجل، فقيل: (يا إبراهيم! ألم تر إلى هذه الشدة وهذه الكربة؟ فقال رحمه الله: إنما الشدة الحاجة إلى الناس) .
فالذي لا يتعود على الكسب بيده، ولا يتعود على طلب رزقه، وسؤال الله المعونة، فإنه سيكون في أسوأ الأحوال، فليس هناك أشد من أن يقف الإنسان أمام الغير ليسأله حاجة من حوائج الدنيا، فنسأل الله العظيم ألا يجعل لنا ولكم إلى لئيم حاجة، والله تعالى أعلم.