العبرة في الثلث الموصى به أو المعطى عند الموت
قال رحمه الله: [ويعتبر الثلث عند موته] .
إذا ثبت ما تقدم أن العبرة بالحالة الموجبة لحكمنا بكون الإنسان في حكم المريض مرض الموت، وبينا الأمراض والأحوال التي توجب الحكم على الشخص في ذلك، وما الذي يترتب على هذا الحكم، وأنه لا يصح تبرعه فيما زاد عن الثلث ولا تصح وصيته لوارث، فيبقى
السؤال هذا الثلث، هل العبرة فيه بالوقت الذي وصى أو أعطى فيه أم بوقت الموت؟ وفائدة هذا الخلاف: أنه ربما يكون الشخص -مثلا- عنده مائة ألف ريال، فيوصي بهذه المائة الألف ريال في أول محرم وهو مريض مرض الموت، فإذا كان مريضا مرض الموت وأصابه المرض في أول محرم وأعطى مائة ألف هبة أو عطية أو صدقة فما الحكم؟ نقول: إنه في حكم المريض مرض الموت، فلا ينفذ إلا ثلثها، هذا من حيث الأصل؛ لكن لو أنه توفي في الخامس عشر من محرم وقبل وفاته بأسبوع وهب مائة ألف، ثم توفي فورث مائتي ألف، فأصبح مجموع تركته عند الوفاة ثلاثمائة ألف، وأصل تركته عند العطية مائة ألف، فهل العبرة بوقت العطية أم العبرة بوقت الموت؟ العبرة بالموت، فإن كان الوقت الذي مات فيه تعادل عطيته الثلث فما دون صحت، ولو كانت قبل أكثر، والعكس بالعكس، فلو أنه أعطى مائة ألف وقد دخل المستشفى -مثلا- في بداية محرم، وحكم الأطباء أن هذا المرض مرض مخوف وأنه لا ينجو إلا إذا شاء الله سبحانه وتعالى، فلما أدخل المستشفى كانت تركته تعادل ثلاثمائة ألف، فقال لأولاده: هذه مائة ألف ريال، اجعلوها في المساجد وفي سبل الخير والبر، إذا: وصيته في حدود الثلث، ولا إشكال فيها، والمائة ألف تعادل الثلث من الثلاثمائة ألف، فلما مرض وأدخل المستشفى احتاج إلى علاج بمائة ألف، فأصبحت تركته ناقصة فلما توفي في منتصف محرم إذا تركته مائتا ألف، فهل العبرة بوقت ما أوصى ووقت ما أعطى وتصدق ووهب، أم العبرة بوقت الموت؟ بين رحمه الله أن العبرة بالوقت الثاني وهو الأخير، وألا ننظر إليه قبل ذلك فقرا ولا غنى، فإن العبرة بوقت الموت، فإن كان المال الذي وصى به أو أعطاه معادلا للثلث في ذلك الوقت حكمنا بكونه صحيحا، وإن نقص أو زاد على التفصيل الذي ذكرنا.
قال رحمه الله: [ويسوى بين المتقدم والمتأخر في الوصية] .
شرع المصنف رحمه الله في بيان الأمور التي يفرق فيها بين الوصية والعطية، وفي الحقيقة أن هذا الفصل -تصرفات المريض- هو وسط بين العطية وبين الوصية؛ ولذلك تتداخل أحكام الوصية والعطية، ويحتاج المصنف إلى بيان الأمور التي يفرق فيها بين الوصية والعطية.
فالوصية: عهد من الميت لورثته أو لمن يقيم على وصيته من بعد موته، فهي إسناد لما بعد موته، كقوله: إذا مت فابنوا لي مسجدا، أو احفروا بئرا، أو افعلوا كذا وكذا من الأمور التي يرجو بها الثواب والأجر بعد موته، فهذه هي الوصية، فإذا وقعت من الإنسان بعطية أو بمال، فإن كانت من شخص واحد فلا إشكال، لكنه لو أعطى ثلاثة أشخاص، كأن أعطى محمدا وزيدا وعمرا، فوصى لمحمد بمائة ألف، ثم بعد يوم وصى لزيد بمائة، ثم بعد يوم وصى لعمرو بمائة، فهذه ثلاثمائة ألف ريال أوصى بها، وكانت تركته مثلا تسعمائة ألف ريال، إذا: هي في حدود الثلث ولا إشكال، لكن عند موته أصبحت تركته -مثلا- أربعمائة ألف ريال، فنقصت فلم تعادل الثلث أو نقصت عن الثلث، فما الحكم؟ ننظر إلى المال الذي خلفه عند موته ونأخذ ثلثه ونقسمه أثلاثا، لمحمد الثلث، ولزيد مثله، ولعمرو مثله، فننظر نسبة ما وصى به لكل واحد ويسوى بينهم، فيسوى بين المتقدم وبين المتأخر، فعلى هذا الوصية يشرك فيها بين الأوصياء، فنقدم متى وصى لزيد ومتى وصى لمحمد، فمحمد متقدم ثم بعده زيد ثم بعده عمرو، في الوصية: لا تنظر إلى التاريخ فتقدم من هو مقدم ونؤخر من هو مؤخر، فلا يجتمع الكل عند الموت؛ لأن الوصية في الأصل لا ينتقل الاستحقاق فيها إلا بعد موت الشخص، فهي مسندة لما بعد الموت، فما قبل الموت يكون قد قدم هذا أو أخر هذا فلا تأثير له؛ لأنهم عند الموت اشتركوا جميعا في كونهم موصى إليهم.
قال رحمه الله: [ويبدأ بالأول فالأول في العطية] .
العطية عكس الوصية، فمثلا: لو أن الذي حدث في الوصية حدث في العطية، ففي الوصية قال: إذا أنا مت فأعطوا محمدا مائة ألف، وبعد يوم قال: إذا أنا مت فأعطوا زيدا مائة ألف، وقال لعمرو مثل ذلك، لكن في العطية جاء قبل وفاته أو في مرض الموت وقال: يا محمد! خذ مائة ألف من مالي، (خذه) هذه حالة ما أسندها إلى بعد الموت، بل قال: خذ، أو أعطوا محمدا مائة ألف من مالي، وهذا الكلام وقع في أول النهار، وبعد ساعة دخل عليه زيد، فقال: أعطوا زيدا مائة ألف من مالي، ثم بعد ساعة دخل عليه عمرو فقال أيضا: أعطوا عمرا مائة ألف من مالي، فهذه عطية لثلاثة أشخاص، ولكنها لم تقع في وقت واحد، فحينئذ يقدم المقدم ويؤخر المؤخر، فلو أنه كان في وقت قوله: (أعطوا) ، تعادل الثلاثمائة ألف ثلث ماله، ثم تأخروا في القبض ولم يقبضوها حتى أصبح ماله -مثلا- ثلاثمائة ألف، فحينئذ لا تستطيع أن تعطي كل واحد منهم مائة ألف، وأصبح الثلث مائة ألف، فهل تقسم الثلث بينهم؟
الجواب لا، في العطية نبدأ بالمقدم، وهو أول من أعطاه، فحينئذ يعطى المائة الألف، وأما الآخران فلا شيء لهم؛ لأنه زائد عن الثلث، فهذا بالنسبة لمسالة التسوية في الوصية والمفاضلة في العطية.
والسبب في هذا: أن الموجب -يسمونه العلماء: الموجب أو السبب- يختلف في الوصية والعطية، فالعطية تلزم بالقبول وعقدها معتبر، فإذا قال: أعطيتك مائة ألف، وقال الآخر: قبلت، فحينئذ تم العقد، والعقد الأول مقدم على العقد الثاني، بمعنى: أن العطية الأولى والعدة بها مقدمة على العدة الثانية وهكذا الثانية بالنسبة للثالثة بخلاف الوصية، أما الوصية فإنها موقوفة على الموت، فإذا كان الإنسان حيا فإنه لا يحل لأحد استحقاق المال، فهؤلاء الثلاثة كانوا كلهم في حال حياته ولو قبل موته بلحظة كلهم في كونهم موصى إليهم، فهم جميعا مشتركون، بخلاف العطية، فالعطية لا تنتظر الموت، بل العطية مباشرة؛ لأنه لم يعلقها على موت ولم يعلقها على شرط، وعلى هذا فإنه يقدم في العطية الأول فالأول.
وأما في الوصية فيسوى بينهم ويشرك، على خلاف بين العلماء في قضية التشريك، فبعضهم يقول: على قدر حصته، بمعنى: ينظر إلى نسبة المبلغ الذي أعطاه مع شركائه كما ذكرنا، فإذا كانوا متساوين في المبالغ، فيعطى كل واحد منهم الثلث إذا كانوا ثلاثة -أي: ثلث الثلث- وأما إذا قال: أعطوا محمدا -مثلا- خمسمائة ألف، وأعطوا زيدا مائتين وخمسين ألفا، وأعطوا عمرا مائتين وخمسين ألفا، فعند ذلك نعطي الأول سهمين منها -وهو النصف- ونعطي الثاني ربع الثلث، ونعطي الثالث ربع الثلث، وهذا إذا كان يفاضل بينهم، فحينئذ النسبة بين الخمسمائة والمائتين والخمسين للآخرين نسبة النصف، فمجموع عطيته مليون، فلو ترك قدرا لا يعادل ثلثه المليون، بل يكون الثلث نصف مليون، فإذا كان قد أعطى محمدا خمسمائة وأعطى زيدا مائتين وخمسين وعمرا مائتين وخمسين، فإذا كان الثلث خمسمائة ألف فيعطي مائتين وخمسين لمحمد ومائة وخمسة وعشرين لكل واحد من الآخرين، وهذا بالنسبة للقسمة عند المفاضلة في الوصايا إذا ضاقت عن الثلث.
وقد تقدم في المجلس الماضي أن الوصية تخالف العطية في جملة من المسائل، وذكرنا بعض هذه المسائل التي أشار إليها المصنف رحمه الله، ثم شرع في بيان مسألة من هذه المسائل التي تخالف فيها الوصية العطية، وهي: أنه لا يملك الرجوع في العطية، بخلاف الوصية.
فلو أن مريضا مرض الموت أعطى عطية وقبلها المعطى، وحكم بلزومها، فإنه لا يملك المريض الرجوع فيها، ولا يحق للورثة أن يطالبوا المعطى بما أعطاه مورثهم؛ لأنها أصبحت لازمة، وحينئذ تكون ملكا للذي أعطي، فلو أعطاه سيارة مثلا، أو أعطاه أرضا، أو أعطاه نقودا، وحكم بلزوم العطية؛ فإنه حينئذ لا يملك صاحب العطية الرجوع فيها، وهكذا ورثته ليس من حقهم أن يطالبوا بنقض هذه العطية ورد المال إليهم.
قال رحمه الله: [ولا يملك الرجوع فيها] .
أي: بخلاف الوصية، فإن الوصية من حقك أن تبدل فيها وتغير؛ لأن الوصية تصرف لما بعد الموت، وحينئذ من حقك أن تغير في هذا التصرف، وقد وسع الله على عباده في تغيير الوصية، فلو كانت الوصية لا يملك الإنسان الرجوع فيها لحصل في ذلك من الضرر والمفاسد على العباد شيء كثير.
فقد يوصي الإنسان بشيء بناء على أن أولاده صغار، ثم يتغير الحال فيصبح أولاده كبارا، وقد يوصي لشخص يعرفه بالأمانة والديانة والاستقامة والصلاح وحسن النظر في الأمور، ثم يتغير حاله فيكبر سنه، أو تأتيه ظروف تغير من حاله بحيث يكون من الصالح لورثته من بعده وذريته ألا يليهم مثل هذا، وبناء على ذلك وسع الله عز وجل على عباده في الوصية، وجعل لهم حق الرجوع فيها والتغيير والتبديل، ولذلك قال بعض الأئمة رحمهم الله: إن الله رحم العباد بجواز التغيير في الوصية، فلولا ذلك لما أقدم أحد على الوصية خوفا من أن يلزم بشيء لا يملك الرجوع فيه من بعد.
فالشاهد: أن الوصية والعطية بينهما خلاف، فالعطية لا يملك الرجوع فيها، والوصية يملك الرجوع فيها، ولا شك أن الإلزام بالعطية مستقيم مع مقاصد الشريعة العامة وأصولها التي تعتبر العطية بمصالحها المترتبة عليها.
بخلاف الوصية فإن الحكم يختلف فيها، ولذلك جاز الرجوع فيها.
الأمر الثاني: أن الوصية معلقة على الموت، فالتصرف فيها بعد الموت كما ذكرنا، فأنت لست بملزم بشيء، ويجوز لك فسخها، فما دام أنه لم يقع الموت فمن حقك أن تغير وتبدل، وتقدم وتؤخر، فلا حرج عليك في ذلك.
فمثلا: لو أنه أوصى أن يعطى ربع ماله إلى قريب، ثم نظر في هذا القريب فوجد أموره قد تحسنت، كأن كان فقيرا حينما كتب الوصية، وكان محتاجا حينما كتبت له الوصية، ثم بعد سنة أو سنتين -والوصية موجودة- تغير حال هذا القريب فأصبح أغنى حتى من الموصي، فحينئذ يتدارك الموصي، وينظر من هو أحوج منه، ولربما كان ورثته وذريته أحوج، فيبطل الوصية ولا يوصي لأحد، ويبقي المال لورثته؛ لأنه يرى في ذلك أنه أعظم لأجره وأحسن عاقبة لذريته وولده.
فمن حقه أن يبدل ويغير، ويقدم ويؤخر في الوصية كما ذكرنا؛ لوجود المصالح المترتبة على هذا التغيير؛ ولأن الناس بحاجة إليه، فوسع الله على عباده في ذلك.
وقوله: [ويعتبر القبول لها عند وجودها] .
أي: ويعتبر القبول للعطية عند وجودها، فإذا قال له: أعطيتك سيارتي، أو أعطيتك أرضي، وكانت دون الثلث في مرض الموت، وقال: قبلت، فإنه إذا قال: قبلت، تمت الصيغة بإيجابها وقبولها، وحينئذ يكون له ما أعطي؛ لأنه قبل في حياة المعطي، فلابد أن يكون القبول حين العطية، بخلاف الوصية، فالوصية يمكن أن يتأخر قبولها إلى ما بعد الموت؛ لأنها في الأصل مسندة ومضافة، والتصرف فيها معتبر لما بعد الموت، فأعطي كل عقد من هذين العقدين حقه.
وقوله: [ويثبت الملك إذا] .
أي: ويثبت الملك للمعطى، وقوله: (إذا) : التنوين عوض عن كلمة، أي: إذا قبله، أي: إذا قبل فإنه يثبت له الملك حينئذ، وأما إذا لم يقبل فحينئذ تلغى العطية لأنها متوقفة على قبول المعطى.
وقوله: [والوصية بخلاف ذلك] .
أي: أنها ضد العطية في الأحكام التي ذكرت، وبناء على ذلك: لا تكون الوصية كالعطية، فيسوى بين المتقدم والمتأخر في الوصية، ولكن يراعى الأقدم فالأقدم في العطية، ولا يملك الرجوع في العطية، ويملك الرجوع في الوصية.
الأسئلة
مسألة إعتاق ثلث العبيد
السؤال بناء على أن الرقاب من الأموال، هل من أعتق عبيده يرد هذا العتق إلى الثلث أم أن العتق أقوى؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالرقاب هي من الأموال، وإذا وصى فيجزأ عبيده ويقرع بينهم وينظر في الثلث مما يقرع بينهم، وهذا فيه قضاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي أعتق عبيده ولا مال عنده غيرهم، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم وجزأهم أثلاثا وأقرع بينهم، فمن خرجت قرعته عتق ومن لم تخرج قرعته فإنه لا يصح عتقه؛ لأن المال الذي أعتق منه هذا السيد ليس بملك له؛ لأن الزائد عن الثلث يصبح ملكا للورثة، فإذا أعتق ما زاد عن الثلث من عبيده ومواليه فإنه قد أعتق في مال غيره، كما لو أعتق عبد غيره ومولى غيره فإنه لا يصح عتقه، والله تعالى أعلم.
حكم جعل صدقة جارية من تركة الميت قبل تقسيمها
السؤال هل يجوز أن نضع صدقة جارية للوالد من التركة قبل تقسيمها دون رضا الورثة؟
الجواب هذه مسألة مهمة، وهي أن بعض الورثة تغلبهم العاطفة ويحدثون في تصرفاتهم بعد وفاة الميت أمورا غير شرعية، ومن ذلك: أنهم يأخذون من المال ويصرفون منه بنية صالحة على سبيل الإحسان إلى الميت، وهذا لا يجوز إلا بإذن الورثة، فالمال للورثة، وينبغي استئذان الورثة، فإذا أذن الجميع وكان الصرف الذي صرفوه مشروعا وأذن الله به، فإنه لا إشكال في جوازه واعتباره، وتكون عطية من الورثة وبرا منهم لوالديهم.
أما أن يأتي شخص ويأخذ من تركة الشخص مالا ويقول: نعطيه لطلاب العلم، أو للفقراء أو للمساكين، أو ننفقه في بناء المساجد دون استئذان من الورثة، فهذا غير صحيح ولا يلزم مثل هذا، بل يرد المال إلى أهله الورثة ويستأذنون، ولا ينفذ هذا التصرف؛ لأن مالكه الحقيقي لم يأذن به، ولا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفسه، وإذا وقع شيء بين الورثة باتفاق منهم أن يبنوا مسجدا أو يبروا والدهم شيئا من البر والخيرات، فهذا من بر الوالدين، ومما يضع الله فيه البركة للورثة في مالهم الموروث من ميتهم ومورثهم.
لكن هنا مسألة نحب أن ننبه عليها وهي: أن بعض الإخوة يحرج أخواته وأقرباءه في الصدقة، فيأتي -مثلا- عند قسمة المال ويقول: يا إخوان! نريد أن نخرج مائة ألف صدقة عن والدنا، أو نريد أن نخرج كذا وكذا عن والدنا، فحينئذ كل من الورثة عندما يقال له مثل ذلك الكلام فإنه يستحي ويجامل، وهذا الحياء والمجاملة يقتضي أنه قد نزع منه المال بدون طيبة نفس منه، فعلى كل أخ كبير أو وصي قائم على مال أن يتقي الله عز وجل في حقوق الورثة، والذي أوصي به أن ينظر -أولا- إلى حال الورثة، فقد تكون هناك الأخت المديونة المعسرة، وقد تكون عندها ظروف في أولادها وأطفالها أحوج من أي صدقة، وصرف هذا المال إليهم أفضل من إعطائه لأي قريب، وترك مال أبيهم وأمهم وجد الأولاد لهم يكون أجره للوالد الذي ترك أعظم من الصدقة للغريب، وهذا أمر لا يدركه الكثير، بمعنى: أن العاطفة تغلب على البعض فيقول: نتصدق به، ولماذا نتركه لأولاده؟ وكأنهم يظنون أن المال لو بقي للأولاد فإنه لا أجر فيه، والصحيح هو العكس، فبقاء المال لإخوانك وأخواتك من والدك ووالدتك أعظم أجرا لهما من الصدقة به لغيرهم؛ لأنه صدقة من الوالد على فلذة كبده وعلى قريبه، وخاصة إذا كانت أختك معسرة أو محتاجة، أو أولادها بحاجة، أو هناك زوجة محتاجة وتريد أن تتجمل معها، وتريد أن تحسن إليها وتكفيها حاجتها.
فهذا أمر ينبغي التنبه له، وعلى الخطباء والأئمة أن ينبهوا الناس على مثل هذه الأمور، لوقوع مظالم كثيرة وخاصة في ميراث النساء، فقد يخرجون النساء مع أنه قد يكون عند البنت من الذرية والأطفال والنسل من هو أحوج إلى إرثها؛ فعلى هذا ينبغي التنبيه على أن الواجب على الوصي أو من يقوم على توزيع التركة ألا يحرج إخوانه.
والحل الأمثل: أن يقولوا: إن هذا المال تركه والدنا، ومن أراد منكم أن يتصدق فليتصدق الصدقة الخفية التي هي أقرب للتقوى وأعظم للأجر، فينوي كل شخص بماله ويتصدق به على والده، أو يقول: يا إخواني! هذا مال تركه لكم أبوكم، فلا تنسوا فضل الوالد عليكم فتصدقوا عنه واذكروا والدكم بالصدقة؛ لأنه شرع التصدق عن الميت، كما في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا تصدق الابن عن أبيه غيبا دون أن يعلم إخوانه ودون أن يطلعوا على أنه أخرج من مال أبيه مالا، فهذا أتقى لله وأعظم أجرا، وينبغي تقديم الأقارب على غيرهم، فإن الصدقة عليهم أعظم والثواب فيهم أتم وأكمل، والله تعالى أعلم.
أفضلية الصلاة داخل الحجر
السؤال هل هناك أي ثواب خاص لصلاة النفل داخل الحجر؟
الجواب الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى داخل البيت) ، فإن تيسر للإنسان أن يصلي داخل البيت فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وفيه تأس بالسنة، وإن تعذر عليه وصلى في الحجر فهذا نوع من التأسي والاقتداء، وله فضل بالاهتداء برسول صلى الله عليه وسلم، والدليل على ذلك: أن عائشة رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن تصلي داخل البيت، فمنعها وأمرها أن تصلي في الحجر، وجعل الحجر من البيت، كما في الحديث الصحيح، على الخلاف في القدر الذي تركته ما بين ثلاثة أذرع وزيادة، فأخبرها عليه الصلاة والسلام أن صلاتها داخل الحجر كصلاتها في البيت، وقلنا: إن الإنسان يشرع له التأسي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى داخل البيت لتيسر ذلك، فإن لم يتيسر لك فـ عائشة لم يتيسر لها، لأنهم ذكروا عدة علل منها: أنه يقع زحام من الرجال للنساء داخل البيت، فإذا كان البيت مفتوحا فالأفضل أن يترك الحجر للنساء لوجود مجال للرجال أن يصلوا، فيترك الحجر للنساء، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عائشة، لكن إذا قفل البيت وما تيسر الدخول إلا في أوقات معينة؛ لأن هذا راجع إلى سادن البيت، وهذا حق من حقوقه، وهو أمر شرعي وله أصل في الشريعة، فإذا فتح البيت وأمكن للإنسان أن يصلي في داخله متأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بأس، ولكنه ليس بواجب ولا لازم، إنما له أجر لمتابعته للنبي صلى الله عليه وسلم، وكون النبي صلى الله عليه وسلم يتكلف ويدخل إلى البيت ويرقى حتى يدخل داخل البيت -حيث أنه كان الباب مرتفعا كما هو موجود الآن- فيصعد إليه ويتكلف الدخول إليه ليس هذا إلا لمعنى.
وعلى هذا: فإن تسير له ذلك فالحمد لله، وإن لم يتيسر له وصلى في الحجر فهو على خير، وفيه نوع من التأسي؛ لأنه لم يستطع الصلاة في داخل البيت، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة أن تصلي في الحجر عند تعذر دخولها إلى البيت، وهذا أصل عام، والله تعالى أعلم.
رطوبة فرج المرأة
السؤال السائل الذي يخرج من المرأة أثناء الحمل هل هو ناقض من نواقض الوضوء؟
الجواب السائل الخارج من فرج المرأة أو ما يسمى برطوبة فرج المرأة له حكم النجاسة على أصح قولي العلماء رحمهم الله.
وهذا السائل فيه حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان في أول الإسلام إذا جامع الرجل امرأته ولم تنزل لا غسل عليه ولا عليها، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طرق على أحد الأنصار، فخرج الأنصاري فجأة وكان ملما بأهله، فقال صلى الله عليه وسلم: (لعلنا أعجلناك، إذا أعجلت أو أقحطت فلا غسل عليك) ، وفي رواية: (لتغسل ما أصابك منها) ، فأمره إذا لم يقع الإنزال أن يغسل العضو؛ لأنه حكم بنجاسة ذلك السائل؛ لقوله: (لتغسل ما أصابك منها) ، والذي أصابه منها رطوبة الفرج.
فهذه المسألة مسألة واضحة، فالسنة فيها واضحة، ولا تحتاج إلى كلام طبيب ولا غيره؛ لأن هناك مسائل شرعية الحكم فيها واضح ليس فيها أي إشكال.
فقوله: (لتغسل ما أصابك منها) لا يصيبه منها إلا الرطوبة التي جعلها الله عز وجل مثل المذي في الرجل، وهذا شيء ذكره العلماء رحمهم الله المتقدمون وأشاروا إليه، أن رطوبة فرج المرأة بالنسبة للمرأة كالمذي بالنسبة للرجل، ويكون عند شدة الشهوة وزيادتها، وكل هذه الأمور واضحة لا لبس فيها، لا من جهة الأثر ولا من جهة النظر، فالقول بكونها نجسة لا إشكال فيه، وإذا ثبت كونها نجسة فحكمها حكم النجاسة، فاجتمع حينئذ خروجها من الفرج ووصف الخارج، وإذا اجتمع المخرج والخارج وصفا مؤثرا حكم بانتقاض الوضوء، وحينئذ تكون كالبول، فنقول: يجب الوضوء من رطوبة الفرج؛ لأنها سائل نجس أوجب الشرع في نصوص السنة الثابتة وجوب الوضوء من كل سائل نجس خارج من الفرج، بدليل المذي والبول والودي ودم الاستحاضة، فكلها سائلة، ودم الاستحاضة ليس ببول ولا غائط، لكنه سائل نجس خارج من الموضع.
فعلى كل حال: إذا ثبت المخرج والخارج وكان الخارج نجسا فإن هذا يؤثر؛ لأن مسألة انتقاض الوضوء فيها تفصيل عند العلماء: هل نعتبر المخرج ولا نلتفت للخارج؟ أو نعتبر الخارج ولا نلتفت للمخرج، أو نعتبر الأمرين؟ فإذا قلت: أعتبر الخارج ولا أعتبر المخرج، فحينئذ تقول: العبرة عندي بالنجاسة، فالمخرج ليس له تأثير، فلو خرج حصى أو خرج دود من القبل، وهذا الخارج طاهر -كالحصى- فحينئذ لا ينتقض الوضوء، وإذا خرج النجس وهو الدم من غير المخرج كالرعاف فينتقض الوضوء، وهذا مسلك الحنفية والحنابلة، ولذلك أوجب الحنابلة رحمهم الله الوضوء من الدم الكثيف إذا خرج من سائر البدن، فأوجبوه من الرعاف وأوجبوه من الحجامة؛ لأنه سائل نجس خارج من البدن، فلم يلتفتوا إلى مخرجه ولكن التفتوا إلى الخارج.
وهناك مذهب آخر يقول: الثابت عندنا بالمخرج لا بالخارج، فكل شيء خرج من المخرج أثر، ولا عبرة بنوعية الخارج؛ وبناء على ذلك وفي زماننا لو أدخل المنظار أو أدخلت آلة الكشف من القبل أو الدبر ثم أخرجت، نقضت الوضوء؛ لأنها خرجت من المخرج، والعبرة عندهم بالمخرج لا بالخارج، فسواء كان الخارج طاهرا أو نجسا فإن العبرة عندنا بالمخرج.
ودليل من ينظر إلى أن العبرة بالخارج لا بالمخرج: أن القيء قد أوجبت الشريعة الوضوء منه، كما في حديث ثوبان: (قاء فتوضأ) ، مع أنه لم يخرج من المخرج بل خرج من الفم، والفم ليس بمخرج نجس، لكنه لما كان القي نجسا أثر في الحكم، فدل على أن مناط الحكم هو الخارج النجس وليس المحل، وبناء على ذلك قالوا بانتقاض الوضوء منه واعتدوا بالخارج لا بالمخرج.
وأما الذين يرون العبرة بهما على تفصيل، فيعتبر مذهبهم من أقوى المذاهب؛ لأن الشريعة تشهد بالمخرج وتشهد بالخارج، لكن مسألة القيء وكونه ينقض الوضوء أجاب الأولون عنها وقالوا: إن الشريعة أوجبت الوضوء من القيء؛ لأنه نجس، لكنه نجس من الموضع الذي هو المعدة، فاستوى خروجه من الأعلى أو من الأدنى، وأيضا القيء لا يعتبر مؤثرا -وهذا بإجماعهم كلهم- إلا إذا استحال الطعام وتغير، قالوا: فإذا استحال الطعام وتغير كان في حكم الفضلة التي يستوي خروجها من أعلى البدن، أو من أسفل البدن، فنظروا إليه فضلة ولم ينظروا إليه في مسألة كونه نجسا، وقالوا: الدليل على هذا: أننا لو نظرنا إلى القيء لم يستحكم فيه التغير كالقلس أو لم يؤثر فيه تأثيرا قويا لا نحكم بانتقاض الوضوء به، ويؤكد هذا أنه لو فتحت في المعدة فتحة وكانت تحت السرة وخرج منها خارج، حكمنا بانتقاض وضوئه؛ فدل على تأثير المادة نفسها من الموضع وليس كونها نجسة أو طاهرة، وهذا المسلك فيه كلام طويل للعلماء رحمهم الله، وفيه خلاف مشهور بين جهابذة أهل العلم رحمهم الله.
أما مسألة الرطوبة وخروجها من الفرج فلا إشكال في قوة تأثير هذا النوع من الخارج ونقض الطهارة به، فإذا أصبح مسترسلا فحينئذ نقول للمرأة: عليها أن تضع القطن، فإذا كان يغلب القطن فإنها تشد الفرج، كما وصى النبي صلى الله عليه وسلم في الاستحاضة، وعندنا السنة واضحة، ومسائل التخفيف واضحة، فلو قال قائل: كيف تنقضون الوضوء وكيف تحملون النساء مسألة الوضوء كل دقيقة؟ قلنا: ما دام أنه نجس وينقض الوضوء فهذا لا يفصل بالمشقة؛ لأن عندنا المستحاضة أنه إذا غلبها رجعت إلى التخفيف، فجمعت جمع تأخير إن شاءت، أو جمعا صوريا إن شاءت، وإن شاءت توضأت بدخول وقت كل صلاة وصلت الفرض، وهذا ليس فيه مشقة، بدليل أن الشريعة قد حكمت بذلك في المستحاضة، فما الفرق بين المستحاضة التي غلبها الدم وبين التي معها رطوبة الفرج؟ لا فرق بينهما، فهذه أخرجت فضلة نجسة وهذه أخرجت فضلة نجسة، فوجب الحكم بالتخفيف في هذه كما وجب الحكم بالتخفيف لهذه ولا فرق بينهما، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.