عرض مشاركة واحدة
  #506  
قديم 14-05-2025, 05:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,190
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الوصايا)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (405)

صـــــ(1) إلى صــ(18)





شرح زاد المستقنع - كتاب الوصايا [2]
الوصية قبل الموت تتنوع بحسب حالها، فقد تكون الوصية واجبة إذا كانت متعلقة بحق لله أو بحقوق للمخلوقين واجب، وقد تكون مستحبة إذا قصد بها سبل الخير، وقد تكون محرمة إذا كانت تأمر بعقوق أو بقطيعة رحم، أو أن يصرف بعض المال في دعم أفعال محرمة أو مبتدعة، وقد تكون مكروهة.
ولا تجوز الوصية بأكثر من الثلث، والأفضل أن يوصى بأقل من الثلث، فإن كان ولابد فالثلث والثلث كثير.
أنواع الوصايا
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [يسن لمن ترك خيرا] .
شرع المصنف رحمه الله في بيان الأحكام والمسائل المتعلقة بالوصية، فابتدأ بمسألة حكم الوصية، فبين رحمه الله أن من السنة واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصي المسلم وتكون وصيته بعد موته، وهذا هو الذي دل عليه كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد عبر المصنف رحمه الله بقوله: (يسن) ، ومعنى ذلك: أن الوصية ليست بواجبة، وهذا هو قول جمهور العلماء رحمهم الله، أن الوصية تعتريها عدة أحكام؛ فتارة تكون واجبة لازمة، وتارة تكون مندوبة مستحبة، وتارة تكون محرمة ممنوعة، وتارة تكون مكروهة يثاب تاركها، ولا يعاقب فاعلها.
فهذه أربعة أحكام تتعلق بالوصية، لكن الأصل العام أنها مسنونة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سن لأمته سنن الهدى، ومن ذلك الوصية التي يكتبها المسلم، فيأمر فيها بما أمر الله، أو ينهى فيها عما نهى الله عز وجل عنه، أو يجمع بين الأمرين.
الوصية الواجبة
أما كونها واجبة: فإن أي شخص تعلقت به حقوق لله عز وجل أو لعباده، فإنه يجب عليه أن يكتب وصيته، وأن ينبه على هذه الحقوق، والدليل على ذلك: أن الله فرض علينا أداء هذه الحقوق والواجبات، فقال سبحانه وتعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء:58] ، فلو كانت عند الإنسان حقوق ومظالم للناس، ولا طريق للوصول إلى أدائها إلى أهلها والتحلل منها إلا بالوصية؛ صارت الوصية واجبة.
ومن أمثلة ذلك: لو استدان شخص مبلغا من المال وكتب عليه صاحب المبلغ سندا وأشهد فلا إشكال؛ لأن صاحب الحق محفوظ حقه بوجود البينة.
لكن لو أنه يحبك وتحبه وبينكما مودة، وحصل شيء من الاستحياء أو الثقة، فلم تكتبا، فاطمأن إليك؛ فالواجب عليك أن تكتب في وصيتك أن لفلان علي مبلغا من المال؛ لأنك لو لم تكتب ذلك لأدى إلى ضياع حقه وحرمانه مما له عليك، والله قد أمرك بأداء هذه الأمانة، وأداء هذا الواجب متوقف على الوصية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
إذا: كل شخص عليه حق لله أو حق للمخلوق، فينبغي عليه أن يكتب وصيته، وأن ينبه على هذا الحق؛ صيانة لحقوق الناس، وأداء للأمانات ووفاء بها.
أما حقوق الله تعالى فتشمل الكفارات، كأن تكون عليه كفارات، أو تكون عليه فدية في حج أو عمرة، كما لو وقع في بعض المحظورات ولزمته الفدية ولم يؤدها؛ فالواجب عليه ألا يبيت إلا وقد كتب في وصيته أن عليه فدية من كذا وكذا، أو عليه كفارة كذا وكذا، أو عليه صيام، على القول بأن الولي يصوم عن وليه إذا كان صيام نذر أو كان صيام كفارة، فإذا كان صياما عن قضاء فيكتب هذا وينبه عليه؛ لأن الله فرض عليه أن يقوم بحقه، وقد جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: (إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم.
قال: فدين الله أحق أن يقضى) .
فمن كانت عليه حقوق لله عز وجل؛ من صيام، أو وجب عليه الحج ولكنه قصر في ذلك مع قدرته واستطاعته؛ فالواجب أن يخرج من تركته وماله ما يحج به عنه، أو يقوم بعض ورثته بذلك مجزيا من الله بأعظم الجزاء وأحسنه، وهذا بالنسبة لحقوق الله عز وجل.
أما حقوق المخلوقين: فمثل الدين، والودائع والأمانات، كأن تكون استعرت كتابا من أخيك، فالواجب أن تكتب في وصيتك، وأن تنبه على هذا الكتاب والحق الذي لأخيك المسلم، حتى لا يضيع؛ لأنك لو لم تكتب ذلك ولم تنبه عليه لربما ضاع هذا الحق، ولربما ضم الكتاب إلى كتبك، فإذا استعار طالب العلم كتابا فينبه أو يكتب في وصيته أن الكتاب الفلاني لفلان، وكذلك لو استعار شيئا من أخيه؛ كالأدوات والآلات ونحو ذلك من الأشياء التي هي حقوق للناس؛ فالواجب أن يكتب ذلك في وصيته، وينبه عليه إذا توقف أداؤه على مثل هذا.
إذا: فالوصية واجبة إذا كانت بحق لله أو حق للمخلوقين ويدخل في هذا الوصية بالأمر بما أمر الله به والنهي عما نهى الله عنه، فإذا كان يعلم أن ورثته من بعده قد يقعون في بعض المحرمات والأمور التي لا ترضي الله عز وجل؛ فعليه أن يكتب في وصيته أنني أوصيكم بتحري السنة في تغسيلي وتكفيني وتجهيزي والصلاة علي، وإذا كان يعلم أنهم سيبالغون في البكاء فيوصيهم بأن لا يفعلوا ذلك، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) ، وقال بعض العلماء: إن هذا في حالة علم الميت أنه سيبكى عليه ويبالغ في البكاء حتى يوصل إلى الحد المحرم، فسكت على ذلك ولم ينه عنه.
إذا: لابد أن تشتمل الوصية على إحقاق الحق وإبطال الباطل، فمتى ما توقف إحقاق الحق وإبطال الباطل على ذلك؛ فإنه يجب عليه أن يكتب الوصية بذلك فإنها واجبة، وهكذا إذا علم حقوقا بين الناس، كأن يعلم أن هناك حقا لفلان على فلان، فيكتب ذلك وينبه على ذلك.
المهم أن الوصية تكون واجبة إذا توقف عليها أداء الحقوق وردها لأهلها وأصحابها.
الوصية المستحبة
ثانيا: تكون الوصية مستحبة إذا قصد الإنسان منها سبل الخير، وطلب بها مرضاة الله سبحانه وتعالى في الأمور غير الواجبة عليه، مثل أن يوصي بالصدقات، أو يوقف شيئا من أملاكه، أو يوصي بعمل بر من بعد موته غير واجب عليه، فإذا وصى بمثل هذا؛ فإن الوصية تكون أفضل وأعظم استحبابا وأجرا وثوابا عند الله سبحانه وتعالى عندما تكون لأقرباء الإنسان الذين لا يرثون، فيوصي -مثلا- لعمه، أو لخاله، أو لأولاد عمه، أو لأولاد خاله، ويوصي لخالته، ولعمته، عندما يعلم أن هناك زيادة في المال، وأن العم والعمة والخال الخالة وجميع آله وقرابته محتاجون للمال لقضاء دين أو تفريج كربة؛ فيكتب في وصيته: أن أخرجوا من مالي مبلغ كذا لعمي، أو اجعلوا المبلغ الفلاني لأعمامي، أو اجعلوه لإخواني الذين لا يرثون؛ لأنه قد يكون عنده أبناء يحجبون الإخوة، فهو يريد أن يصل إخوانه وأخواته، ويعلم أن أخته مديونة، أو أن أخاه مديون، فأراد أن يفرج كربته؛ فأوصى أن يقضى دين أخيه، أو يقضى دين أخته، أو يوصي وصية عامة ويقول -إذا أحب أن يوصي بالثلث-: ثلث مالي يتصدق به على أقربائي في قضاء ديونهم، أو يكون ثلث مالي لأيتام أخي، أو يكون ربع مالي من بعد موتي لأيتام أختي، ونحو ذلك من الوصايا التي يقصد بها البر وطاعة الله سبحانه وتعالى.
فأفضل الصلة عندما تكون للرحم، وقد اختلف العلماء رحمهم الله: هل الرحم تتساوى مراتبها من حيث العموم فكل ما كان للرحم فله فضله من دون تفصيل أم أن هناك تفصيلا؟ فاختار بعض الأئمة وبعض المحققين رحمهم الله أن الوصية المستحبة تتفاوت درجاتها ومراتبها بحسب تفاوت القرابة والرحم، فأول من تقدم القرابة من جهة النسب، ثم يليهم القرابة من جهة الرضاعة، ثم يليهم القرابة من جهة المصاهرة، ثم الولاء.
فأما بالنسبة للقرابة من جهة النسب فقالوا: تقدم المحارم على غير المحارم، فمثلا: وصيته لعمه وعمته أفضل من وصيته لابن عمه وابن عمته؛ لأن المحرمية في العم والعمة، فإذا وصت لعمها أو وصى لعمته؛ فإن العم والعمة من المحارم، فالوصية لهم أفضل وأعظم أجرا عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله جعل مرتبتهم مقدمة على مرتبة غيرهم.
كذلك أيضا لو كان له أبناء عم، وبعضهم أقرب من بعض، فمثلا: ابن العم الشقيق الوصية له أفضل من ابن العم لأب، وابن العم الشقيق الوصية له أفضل من ابن العم لأم ونحو ذلك، فالقرابة من جهة النسب تتفاوت مراتبهم.
والذي اختاره جمع من العلماء: أن الوصية للأرحام الذين يكونون من الذكور والإناث أفضل وأعظم ثوابا عند الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك جعل الشرع لهم من الحق ما لم يجعله لغيرهم، وقال: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} [الأنفال:75] ، فقدموا الرحم - أي: المحرمية- من هذا الوجه.
ثم يأتي بعد القرابة الوصية للأقرباء من جهة الرضاعة، كأمه التي أرضعته -سواء كانت محتاجة أو غير محتاجة- ويوصي لأقربائه من جهة الرضاعة؛ كأمه وأخته وعمته من الرضاعة، ونحو ذلك من القرابات من جهة الرضاعة، ويقدم محارمه على غيرهم، وتكون صلة وبرا يعظم من الله عز وجل أجرها وثوابها.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم عظم أمر الرضاعة، وأن لها حقا على المسلم، ولما خرج عليه الصلاة والسلام إلى الطائف، وقاتل هوازن، وغنم الغنائم، اتقى الله فيهم ورعى الرحم، فلم يقسم غنائم حنين مباشرة، وكان صلى الله عليه وسلم ينتظر أن يكلموه حتى لا تسبى ذراريهم، ولا تقسم أموالهم شفقة عليهم منه صلوات الله وسلامه عليه، وحفظا للرضاعة من حليمة السعدية التي أرضعته صلوات الله وسلامه عليه.
فلما ذهب إلى الطائف وفتحها وبعد رجوعه ونزوله بالجعرانة قسم صلى الله عليه وسلم الغنائم، فلما قسمها تألمت هوازن، وجاءه عليه الصلاة والسلام وفدها، وقام خطيبهم وقال له: يا رسول الله! إن اللاتي بالحظائر ما هن إلا عماتك وخالاتك من الرضاعة، فتأثر عليه الصلاة والسلام أثرا بليغا، وقال له عباس بن مرداس السلمي في أبياته المشهورة والتي منها: امنن على نسوة قد كنت ترضعها إذ فوك تملؤه من محضها الدرر إلى غير ذلك مما كان من الأبيات التي ذكرته حق الرضاعة، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما كان لي ولبني هاشم فهو لكم) ، وقالت الأنصار مثل ذلك، وهذا كله يدل على حفظه صلى الله عليه وسلم لحق الرضاعة.
فالمرضعة والأقرباء من جهة الرضاعة يوصلون بالوصية، وتكون الوصية مستحبة في حقهم؛ لأنهم لا يرثون.
ثم بعد الرضاعة القرابة من جهة المصاهرة، فلو لم يكن له أقرباء لا من جهة النسب، ولا من جهة الرضاعة؛ فحينئذ ينظر إلى أصهاره، وهم أقرباؤه من جهة زوجته أو زوجة والده أو زوجة ولده؛ فهؤلاء يصلهم لتكون رحما وصلة يرجو ثوابها من الله سبحانه وتعالى.
هذا بالنسبة للوصية المستحبة التي تكون لغير الوارث، وتكون صلة وبرا للأقرباء، وهي أفضل وأعظم ما تكون أجرا وثوابا من الله سبحانه وتعالى، وقد قرر العلماء أن الوصية للأقرباء أعظم أجرا من الوصية لغير الأقرباء؛ لثبوت النصوص بذلك، ولذلك لما دخل عليه الصلاة والسلام على أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنه وقالت: (يا رسول الله! هل شعرت أني أعتقت فلانة -أي: أعتقتها لوجه الله- فقال صلى الله عليه وسلم: أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك) .
مع أن العتق أمره عظيم، وإذا أعتق الإنسان فإنه يعتق بكل عضو من المعتق عضو منه من النار، ومع هذا يقول لها (لو أنك أعطيتها أخوالك) أي: لو أبقيتها على العتق ووصلت بها القرابة لكان أعظم لأجرك عند الله سبحانه وتعالى.
الوصية المحرمة
ثالثا: وقد تكون الوصية محرمة، وهذا هو النوع الثالث من الأحكام المتعلقة بالوصية، وتكون الوصية محرمة إذا اشتملت على حرام، وقد مثل العلماء لذلك بأن يوصي لكنيسة، أو يوصي بنسخ التوراة أو الإنجيل أو الكتب المحرفة، أو الكتب التي تشتمل على الضلالات والبدع والأهواء التي تضل الناس وتخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فمثل هذه لا ترضي الله ولا ترضي رسوله عليه الصلاة والسلام.
وكذلك إذا وصى بحرام؛ كأن يغضب الأخ على أخيه فيقول: لا يشهد فلان جنازتي، ولا يحضر تغسيلي ولا تكفيني، ولا يفعل كذا ولا كذا فهذه قطيعة للرحم، وأمر بمعصية، وأمر بما لا يحبه الله ولا يرضاه، فإن الله يحب من القريب أن يشهد قريبه، ويترحم عليه، ويدعو له، والأقرباء أبلغ شفقة من غيرهم، فإذا وصى أنه لا يدخل بيته ولا يشهد تغسيله ولا يحضر جنازته، فهذه من القطيعة، وقد يكون هذا بين الوالد وولده والعياذ بالله! فهذه -نسأل الله السلامة والعافية- من الوصايا المحرمة.
حتى ذكر العلماء رحمهم الله أن الوصية المحرمة من علامات سوء الخاتمة -والعياذ بالله- للإنسان؛ لأنه يختم ديوانه وعمله -والعياذ بالله- بالقطيعة وبعقوق الوالدين وبالمظلمة، وإذا ختم له بعقوق الوالدين أو عقوق الأولاد أو قطيعة الرحم؛ فإن هذه كبائر توجب دخول النار ما لم يغفر الله الذنب، فيختم له بخاتمة سيئة تكون سببا في دخوله النار تعذيبا إذا كان من الموحدين، ثم يخرج منها بفضل الله وهو أرحم الراحمين، وهذا ممن يعمل بعمل أهل الجنة فيسبق عليه الكتاب في بعض العمل إذا لم يكن مخلدا في النار فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها مطهرا من ذنب كبير.
وهذا هو أحد الأوجه عند العلماء رحمهم الله في قوله عليه الصلاة والسلام: (وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة) ، فيكون عبدا صالحا ثم يغضب على ولده أو على قريبه، ثم يكتب هذه الوصية الجائرة الظالمة التي تشتمل على عقوق أو تشتمل على قطيعة، فيختم له -والعياذ بالله- بهذه الخاتمة السيئة، نسأل الله السلامة والعافية.
فلا يجوز أن يوصي بالمحرمات، فإذا وصى بمثل هذه الوصايا فهي وصية باطلة، ولا يجوز للورثة أن يطيعوا، ولا يجوز حتى للقريب أن يطيع قريبه في قطيعة الرحم، ولو قالت الأم: لا تزر خالك، أو لا تزر عمك، أو لا تزر قريبك؛ فلا تطاع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الطاعة في المعروف) ، وهذا ليس بمعروف، ولأن الله أمرك بصلة الرحم، وغيرك نهاك عنها؛ فتقدم أمر الله على سائر الأوامر، وطاعة الله على سائر الطاعات، فلذلك لا تنفذ مثل هذه الوصايا، ولا يجوز العمل بها.
الوصية المكروهة
رابعا: وقد تكون الوصية مكروهة، مثل أن يكون الشخص قليل المال وورثته محتاجون لهذا المال فيوصي بصدقة، فإن هذه الصدقة تضيق على ورثته في الإرث، فمثلا: لو كان الورثة محتاجين لهذا المال، أو كان عنده ولد، والولد مديون مكروب، وترك ألفا أو ألفين قد لا تفي بسداد دينه، فجاء ووصى بثلثها، فهذا يضيق على ولده ويضيق على وارثه إلى درجة أنه قد لا ينتفع النفع المرجو من التركة، فحينئذ كره العلماء رحمهم الله مثل هذه الوصية، وبينوا أن الوصية في حق الفقير أو قليل المال مكروهة إذا كانت تضيق على الورثة وتوجب لهم ما ذكرنا من الحرج.
هذا بالنسبة لأحوال الوصية الواجبة، والمندوبة المستحبة، والمحرمة، والمكروهة، فما عدا ذلك من حيث الأصل العام فالوصية سنة، أي: سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله شرع لهذه الأمة سنن الهدى، وذلك بأقواله وأفعاله بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، التي جعلها الله أسوة للمؤمنين، وقدوة للأخيار والصالحين، فلا أكمل من هديه بأمي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
اختلاف العلماء في حكم الوصية
قال رحمه الله: [يسن لمن ترك خيرا] .
الخير: هو المال الكثير كما فسره المصنف رحمه الله.
وقوله: (المال) لا يشترط السيولة، إنما المال كل شيء له قيمة، فلو لم يترك نقودا، وإنما ترك (عمائر) ، فلو ترك عشر عمائر فهي مال، وإن لم يترك أي ريال في محفظته أو في رصيده، فهو يعتبر ممن ترك خيرا، فلا يشترط أن تكون هناك سيولة بالنقد، إنما العبرة بقيمة المال؛ سواء كان من الأعيان أو من غيرها.
فقوله: (يسن لمن ترك خيرا) أي: من بعد وفاته، ولذلك العبرة بما يكون في حال مرض الموت ويغلب على ظنه أنه يموت فيه، فلو أنه وصى وهو غني ميسور، ثم أصابته أمراض، أو جاءت كربات أو نكبات على أمواله فخسر؛ فالعبرة بحاله عند مرض الموت لا عندما كتب الوصية.
وقوله: (لمن ترك خيرا) أي: ينظر في حال مرضه للموت ودنو الأجل، فلو كتب وصيته قبل موته بسنة أو قبل موته بشهور، فإن هذا لا يعتد به؛ لأن العبرة بحاله عند موته، أو بما هو قريب من موته؛ وذلك لأن هذا سيؤثر على مصالح الورثة، والعبرة في المال الكثير والخير الكثير بما يكون سابقا للأجل لا بما قبل ذلك، فالورثة ماذا يستفيدون لو كان قبل وفاته بسنة عنده ملايين الأموال، ولما حضرته المنية لم يكن عنده إلا يسير من المال؛ فالعبرة بما يؤول إليه الأمر وينتهي إليه الحال، فقوله رحمه الله (لمن ترك خيرا) أي: بعد وفاته، وغلب على ظنه أنه سيكون بعد وفاته.
والخير كما قال: (المال الكثير) وهذا تأس بالكتاب؛ لأن الله نص على الوصية وألزم بها إذا ترك خيرا.
وقوله رحمه الله: (يسن) فيه رد على من يقول: إن الوصية واجبة، فقد ذهب بعض السلف كـ الزهري وأبي مجلد رحمة الله عليهما إلى أن الوصية واجبة، سواء كان الإنسان عليه حقوق أو لم تكن عليه حقوق، فيجب عليه أن يوصي، والأصل أنهم استدلوا بظاهر قوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين} [البقرة:180] ، و (كتب) بمعنى: فرض، وهذا القول عارضه قول جمهور العلماء رحمهم الله من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.
وهو قول طائفة من السلف كـ إبراهيم النخعي وسفيان الثوري وغيرهم من الأئمة -رحمة الله على الجميع- بأن الوصية ليست بواجبة من حيث الأصل.
وهناك قول ثالث في المسألة يقول: الوصية واجبة لأقربائك الذين لا يرثون، وهذا هو قول الظاهرية، وهو قول بعض السلف كـ مسروق صاحب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ورحم الله الجميع، وكذلك قال به طاوس بن كيسان وقتادة من تلامذة ابن عباس رضي الله عنهما، يقولون: إن الوصية واجبة للقريب الذي لا يرث، فمن كان عنده قريب لا يرث فيجب أن يكتب في وصيته له شيئا، ويرون أن الآية منسوخة بالنسبة للوارثين، وتبقى محكمة في غير الوارث: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية} [البقرة:180] قالوا: (كتب) بمعنى: فرض، فنسخ الله ذلك في أهل المواريث، فبقي الأقرباء الذين لا يرثون؛ فيجب عليك أن توصي لهم.
والصحيح هو ما ذهب إليه الجمهور، وهو: أن الوصية ليست بواجبة، والدليل على ذلك حديث ابن عباس الصحيح، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) ، وقد اختلف في الجملة الأولى هل هي مدرجة أو من كلامه صلى الله عليه وسلم؟ فقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) يدل من حيث الأصل على أن آية المواريث التي نزلت في سورة النساء وغيرها قد نسخت فرضية الوصية، فلم تكن هناك مواريث في أول الإسلام، وإنما الشخص يوصي ويكتب: أعطوا فلانا، وأعطوا فلانة، فيتولى قسمة تركته قبل موته، ولكن الله سبحانه وتعالى تولى قسمة المواريث من فوق سبع سماوات: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} [النساء:176] ، والكلالة: هي أن يموت الرجل وليس له والد ولا مولود، قال الناظم: ويسألونك عن الكلالة هي انقطاع النسل لا محالة لا والد يبقى ولا مولود انقطع الآباء والجدود فاستفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فقال الله تعالى: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} [النساء:176] ، فتولى جبار السموات والأرض قسمتها من فوق سبع سماوات قسمة العدل، فأعطى كل ذي حقه.
فإذا كانت النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم قد قسمت الحقوق، وأعطت كل ذي حق حقه؛ فحينئذ ليس من حق أحد أن يقول: إن هناك من الأقارب من له حق يجب عليك أن توصي له؛ لأنه لو كان هناك لبين الله تعالى كيف يقسم للأقارب الذين لا يرثون، وبناء على ذلك: فلا يعتبر القول بأنها محكمة في الأقارب الذين لا يرثون صحيحا من هذا الوجه.
والذي يترجح: أن الوصية ليست بواجبة عليك إلا في الأحوال التي يتوقف عليها أداء حق الله عز وجل، أو إيصال حقوق الناس إليهم، على التفصيل الذي ذكرناه، وهذا القول هو قول الجمهور بقوة دليل السنة، على أن آية الوصية منسوخة وليست بمحكمة.
ومما يقوي هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عمر في الصحيحين: (ما حق امرئ مسلم عنده شيء يوصي فيه أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه) ، فهذا يدل على أن الوصية لو كانت واجبة لسكت النبي صلى الله عليه وسلم، وترك آية الوصية دالة على اللزوم؛ لكنه لما بين أن الوصية تكون واجبة في مثل هذه الحالة؛ دل على أن الأصل عدم وجوبها، وعلى هذا قال المصنف رحمه الله: (يسن لمن ترك) : أي للشخص الذي ترك، سواء كان رجلا أو امرأة، وسيأتي من هو الذي يوصي، وما هي الشروط المعتبرة في الأوصياء.
ضابط المال الكثير
قال رحمه الله: [وهو المال الكثير] .
الكثير: وصف للمال، وكيف نعرف أن هذا المال كثير أو أنه ليس بكثير؟ هذا يرجع فيه إلى العرف، وتجري في ذلك القاعدة المشهورة: العادة محكمة، فإذا كان العرف أن هذا المبلغ الذي تركه يعتبر كثيرا فهو كثير، فلو نظرنا قبل خمسين سنة فربما كانت العشرة ريالا تعتبر من المال الكثير جدا، والعشرة الريال ربما تعادل الآن أكثر من مائة ألف، مما يشتري بها الإنسان من رخص الأشياء وعزة المال وقلته وندرته، لكن اليوم لو كانت تركته مائة أو ألف ريال فقد تكون قليلة، فيرجع إلى العرف، وقد بين الله تعالى في كتابه وفي هدي رسوله صلى الله عليه وسلم أن عرف المسلمين محتكم إليه، ولذلك ردت كثير من القضايا والمسائل والأحكام والتقديرات إلى الأعراف، فما دل عرف المسلمين أو عرف الميت على أنه كثير فهو كثير، وما دل العرف على أنه قليل فهو قليل.
القدر الذي يوصى به من المال
قال رحمه الله تعالى: [أن يوصي بالخمس، ولا تجوز بأكثر من الثلث لأجنبي، ولا لوارث بشيء إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت فتصح تنفيذا] .
قوله: (أن يوصي بالخمس) : إذا كانت الوصية مسنونة، ومستحب للإنسان أن يوصي، فما هو القدر الذي يوصي به؟ من حيث الأصل: فإن الإجماع قائم على أنه لا يجوز للشخص أن يوصي فوق الثلث؛ لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يوصى فوق الثلث، كما في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، فإنه لما مرض بمكة، ودخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إني لا وارث لي إلا ابنة -أي: ليس لي وارث إلا ابنة واحدة- وعندي مال كثير، أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا، قال: أفأوصي بثلثيه؟ قال: لا.
قال: فبنصفه؟ قال: لا.
قال: فبالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) .
ثم قال له قولته المشهورة: (اللهم اشف سعدا، اللهم اشف سعدا، لعلك أن تخلف فينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون) ، فقد كان سعد يظن أن أجله قد حضر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اشف سعدا، اللهم اشف سعدا) فاستجيبت دعوته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فشفي سعد، ثم قال: (لعلك أن تخلف فينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون) ، فرفع لواء الجهاد في سبيل الله؛ فأعلى الله به كلمته، وكبت به أعداءه، وكان على يديه من الفتوح والخيرات على الإسلام والمسلمين ما الله به عليم، نسأل الله العظيم أن يجزيه بخير الجزاء وأعظمه وأسناه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لعلك أن تعمر -فمد له في عمره رضي الله عنه وأرضاه- فينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون) .
ثم قال: (اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم خاسرين، لكن البائس سعد بن خولة) يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة.
وهذا الحديث المشهور قد اشتمل على بعض معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وجملة من المسائل والأحكام، منها: مسألة الوصية، فإنه يعتبر قاعدة عند العلماء في باب الوصية.
ولذلك قال له: (الثلث والثلث كثير) ، فلما قال: (أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا) ، وهذا يقتضي التحريم والمنع، فلما قال: (بالثلثين؟ قال: لا) ، وهذا يقتضي التحريم ومنع الوصية بالثلثين.
(فبنصفه؟ قال: لا)، وهذا يقتضي التحريم والمنع أيضا، ثم قال له: (بالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير) ، فسن عليه الصلاة والسلام الثلث من حيث الحد الأعلى.
فاتفق العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز للموصي أن يجاوز الثلث، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند موتكم زيادة في أعمالكم) ، فهذه رحمة من الله عز وجل بالإنسان أنه يتصدق ويوصي في حدود الثلث ولا يزيد، فيصل رحمه، ويكون له من الأجر والخير في تلك الصلة، فيتدارك بعض الأعمال الصالحة، ولا يزيد على الثلث.
لكن
السؤال هل يوصي بالثلث كاملا أو ينقص من الثلث؟ وإذا أنقص من الثلث فهل يقارب الثلث أو يبتعد عن الثلث؟ لكل ذلك تفصيل عند العلماء، فمن أهل العلم من قال: يوصي بالثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم) ، ولذلك قال عمر رضي الله عنه فيما رواه عنه البيهقي: (الثلث وسط، لا نقص فيه ولا شطط) .
فقول عمر رضي الله عنه: (الثلث وسط لا نقص فيه) ؛ بحيث إن الإنسان عندما ينقص من الثلث تقل حسناته وأجره، وقوله رضي الله عنه: (ولا شطط) ؛ لأنه ليس فيه تضييق على الورثة؛ فقد ترك للورثة ثلثي ماله؛ فحينئذ كان عدلا.
وقال بعض العلماء: إنه يغض من الثلث، أي: ينقص منه ولا يبلغ الثلث على الأفضل، وكلهم متفقون على جواز الوصية بالثلث، فإن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على أنها ماضية وصيته؛ لكن الإشكال: هل الأفضل أن تستغرق الثلث كاملا فتتصدق وتعمل الأعمال الصالحة وتبقى لك صدقات جارية بعد موتك، أم أن الأفضل أن تحد وتنقص من الثلث؟ قلنا: إن بعض السلف يرى أنه يستغرق الثلث، فيتدارك به الأعمال الصالحة، وقد تبقى أشياء، مثل: أن يحفر آبارا، وقد يبني مساجد، وقد يشيد أربطة ينتفع بها الفقراء والضعفاء، فتبقى له حسنات جارية من بعد موته، وهذا لا شك أن فيه تداركا لكثير من الخير، وقال بعض السلف: لا يصل إلى الثلث.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لو أن الناس غضوا من الثلث، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الثلث والثلث كثير) ، فقوله: (لو أن الناس غضوا) أي: لا يصلون إلى الثلث، بل يغضون منه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير) .
ومذهب أبي بكر وعلي رضي الله عنهما وطائفة من الصحابة أن المستحب هو الخمس، ولذلك وصى أبو بكر رضي الله عنه -مع أنه كان له مال- بخمس ماله، وقال في وصيته المشهورة: (إني رضيت بما رضي الله لنفسه) يقصد قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} [الأنفال:41] ، فقال: (رضيت بما رضي الله لنفسه) ، وهو الخمس، فجعل الوصية في الخمس.
وكذلك علي رضي الله عنه قال: (من أوصى بالسدس أحب إلي من الربع، ومن أوصى بالربع أحب إلي ممن أوصى بالثلث) ، وهم يريدون من ذلك أن يكون للورثة الحظ الأكثر.
قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل منعه لـ سعد بقوله: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) ، فهم يرون أن المال الذي يترك للورثة فيه صدقة على الورثة، والصدقة على القريب أعظم أجرا من الصدقة على الغريب، وعلى هذا قالوا: إنه يفضل ألا يبلغ الثلث، وألا يصل إلى الثلث؛ مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير) .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 46.90 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 46.28 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.34%)]