حكم من كان وارثا أو غير وارث قبل الوصية ثم تغير حاله
قال رحمه الله: [وإن أوصى لوارث فصار عند الموت غير وارث؛ صحت، والعكس بالعكس] .
قوله: (إن أوصى لوارث) نستطيع أن نمثل لهذه المسألة بمثال يكون أصلا لغيره، فمثلا: الأخ لا يرث مع وجود الابن الذكر؛ لأن كلا منهما يرث بالعصبة، فعصبة الأخوة بعد البنوة.
فإذا أردت أن تجعله في حال الوصية وارثا، وتجعله عند الموت غير وارث، فتجعل الرجل بدون ابن، ثم يوصي لأخ، فحينئذ الأخ وارث، فإذا ولد له الولد صار غير وارث عند الموت، فإذا وصى لأخ على أنه وارث، مع أنه كان وارثا أثناء الوصية، ثم ولد له ابن ذكر، وتوفي، فقد أصبح الوارث -وهو الأخ- غير وارث بعد الموت، فتصح الوصية؛ لأن العبرة في الوصية بما بعد الموت، ولذلك يستطيع أن يلغيها ويستطيع أن يرجع فيها، ولا عبرة بالقبول قبل الموت، وكل شيء موقوف فيها على ما بعد الموت، فنحن لا ننظر إلى ما كان عليه هذا الشخص، وهو أن الأخ قبل الموت وأثناء كتابة الوصية أو التلفظ بها كان وارثا، لكن المهم هو ما كان عند الموت، فلما توفي الرجل إذا به قد أصبح غير وارث، ويكون هذا عند حال الشك، فتكون زوجته مثلا حاملا فيوصي، فإذا كانت أنثى فالأخ له الباقي؛ لأنه عصبة، وإذا كان ذكرا، فحينئذ ليس للأخ من شيء.
وفي بعض الأحيان الأفضل للأخ أن يكون ذكرا، وبعض الأحيان يكون العكس، فمثلا: قد يكون وارثا ويوصي له، مثل الأخ، فقد يكون غير وارث ثم يصبح وارثا، فقال: أعطوا أخي فلانا عشرة آلاف ريال من ثلثي وصية، وعنده ولد ذكر، فالأخ غير وارث مع وجود الولد الذكر، فأخذ الموصي بالسنة فوصى لقريب لا يرث، فشاء الله أن تكون منية الابن الذكر قبل أبيه، فتوفي بحادث وجاء الخبر لوالده فمات، فحينئذ الأخ الذي لم يكن وارثا أصبح وارثا؛ لأنه لما توفي الابن في هذه الحالة تقدمت درجة الأخوة، وأصبح الأخ في هذه الحالة من الوارثين، لكنه عند الوصية كان غير وارث، فالعبرة بما بعد الموت، فحينئذ تكون وصية لوارث، وعلى هذا فيكون الحكم واحدا؛ لأنه من حيث الأصل هو الذي وصي له، وهو الذي يرث المال، بمعنى: هو الذي يوصي له، وهو الذي يكون مسئولا عما زاد إذا لم يترك غيره.
وقوله: (والعكس بالعكس) .
أي: إن كان غير وارث فأصبح وارثا، أو وارثا ثم أصبح غير وارث، فالحكم بما بعد الموت، ولا تأثير لما تقدم على ذلك.
الإيجاب والقبول من أركان الوصية
قال رحمه الله: [ويعتبر القبول بعد الموت وإن طال لا قبله] .
الوصية لها أركان وهي: الموصي، والموصى إليه: وهو الوصي، والموصى به: وهو الشيء أو محل الوصية، والصيغة.
فهذه أربعة أركان للوصية: فالشخص الذي يوصي، والشخص الذي يوصى إليه، والمحل الذي يوصي به (الشيء الذي يوصي به) والصيغة.
والصيغة: هي الإيجاب والقبول، الإيجاب بالنسبة للميت الذي كان حيا حينما وصى، ويشترط فيه شروط سيأتي إن شاء الله بيانها، والذي يوصى إليه أيضا يشترط فيه شروط لابد من توفرها، فلا بد من وجود الصيغة من هذا الشخص الذي وصى.
إذا: هي الإيجاب والقبول، الإيجاب من الموصي، والقبول من الوصي أو الموصى إليه، وإذا وقع الإيجاب فإنه ينقسم إلى قسمين: الأول: أن يكون الإيجاب باللفظ.
الثاني: أن يكون بغير اللفظ.
فالإيجاب يكون صريحا إذا كان باللفظ، مثل قوله: وصيت بعشرة آلاف لفلان، فهذا لفظ صريح، ويعتبر إيجابا واضحا في الدلالة ليس فيه أي احتمال.
والألفاظ الضمنية التي تدل على الوصية ضمنا ما جرى به العرف من الألفاظ المعروفة، كقوله: أعطوا فلانا من ثلثي كذا وكذا، فنعتبرها وصية، رغم أنه ما قال: وصية مني، بل قال: أعطوا فلانا، لكن (أعطوا) تدل ضمنا على أنه يريد الوصية، فهذا هو اللفظ الصريح واللفظ غير الصريح.
وهناك أمور أخرى تدل على الوصية من الأفعال، مثل الكتابة، فلو كتب وصيته وأشهد عليها عدلين صحت الوصية، لو كان أخرس لا يتكلم لكن عنده إشارة مفهومة ومعروفة؛ فالإشارة في هذا تنزل منزلة العبارة، أو كان يسمع ولكنه لا يستطيع الكلام، فقيل له: هل تريد أن توصي؟ فأشار برأسه أن نعم، فقيل له: السنة ألا تزيد على الثلث، فهل تريد أن توصي بالثلث كله؟ فهز رأسه بنعم، أو قال: لا، فقيل له: الخمس مثلا، فأشار بنعم، فهذه إشارات ليس فيها لفظ فتعتبر من الصيغة الدالة على الوصية، فالإيجاب يكون من الوصي، والقبول يكون من الشخص الذي وصى إليه.
ومن حيث الأصل عند العلماء رحمهم الله لا بد من وجود الصيغة؛ لأنها ركن الوصية، وإذا وقعت الصيغة يكون الإيجاب فيها والقبول.
والعقود تنقسم إلى قسمين: هناك عقود يشترط فيها أن يقع القبول بعد الإيجاب مباشرة، بحيث لو دخل بين الإيجاب والقبول أي فاصل مؤثر فإنه يسقط الإيجاب ولا يعتد بذلك القبول، مثل: البيع، والإجارة، والصرف، والسلم، والنكاح.
فلو قال شخص لشخص: زوجتك بنتي فلانة بعشرة آلاف، فسكت ولم يجب، ولم يفعل أي فعل دال على القبول، ثم ذهب إلى الغرفة ورجع، وبعد أن افترقا قال: قبلت، فهذا الفاصل يقطع الإيجاب الأول، ولا يصح العقد بهذا، فلابد من إيجاب جديد؛ لأن القبول وقع متراخيا مع وجود فاصل مؤثر، والفاصل يكون بالأقوال ويكون بالأفعال.
ولو قال له: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، فقال له: كيف حالك؟ عساك طيب، فتكلم بكلام أجنبي، فهذا الكلام الأجنبي يخرج الإيجاب؛ لأنه لو كان قابلا لقال مباشرة: قبلت، فلما قال: كيف حالك؟ كيف فلان؟ كيف الوالد؟ كيف مريضك؟ فمعناه: أنه خرج بالكلية، وأعرض عن الإيجاب، فسقط الإيجاب ولم يعتبر.
إذا: العقود تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: عقود لابد فيها من وجود القبول مترتبا على الإيجاب بدون فاصل.
القسم الثاني: عقود يغتفر فيها الفاصل.
ومن العقود التي يغتفر فيها الفاصل: عقد الوصية، فإذا قال: أعطوا فلانا عشرة آلاف ريال -من ثلث ماله- فهذه وصية، وفلان مسافر، وتوفي الرجل، ولم يأت إلا بعد عشر سنوات، فقيل له: يا فلان! إن فلانا قد وصى لك بعشرة آلاف من ثلثه، فقال: قبلت، فهنا صحت الوصية ونفذت، مع أن القبول كان بعد فاصل طويل جدا، فلو طال الزمان فإنه يصح القبول.
إذا: القبول في الوصية لا يشترط فيه أن يكون تابعا للإيجاب، وهو ما يسمى بالقبول المنجز، فالوصية تخرج من القبول المنجز، لكن النكاح والبيع والإجارة والصرف والسلم ونحوها من العقود لابد أن يكون القبول فيها منجزا.
وقوله: (ويعتبر القبول بعد الموت) القبول إما أن يقع في حياة الموصي، وإما أن يقع بعد موته، فإذا وقع في حياته فلا عبرة به؛ لأن الوصية لا تكون لازمة على الميت ويجب تنفيذها إلا بعد وفاته، أما قبل وفاته فإنه يستطيع أن يرجع عنها أو أن يبدل أو يغير فيها، وعلى هذا فإن العبرة بموت الموصي، فالقبول لا بد أن يكون بعد الوفاة، فإذا قال: قبلت، وكان ذلك بعد وفاته؛ صحت الوصية إذا كانت على الوجه المعتبر.
حكم سكوت الموصى له عن قبول الوصية ورفضها
وقوله: (وإن طال (، أي: وإن طال الزمان الفاصل بين الإيجاب والقبول.
لكن هنا مسألة وهي: لو أن شخصا وصى لشخص فقال: أعطوا فلانا عشرة آلاف ريال من ثلث مالي، ثم توفي الرجل الذي وصى، فجئنا إلى الموصى له وقلنا له: إن فلانا وصى لك بعشرة آلاف من الثلث، فلم يقل: نعم، أو قبلت، أو رضيت، ولم يقل: لا أقبل، فلم يقبل ولم ينف؛ بل سكت، أما إذا قبل فإننا نعطيه وتنفذ الوصية بالشروط التي ذكرناها، وإذا لم يقبل فحينئذ نرد المال للورثة ويقسم كإرث؛ لأننا لا نستطيع أن نجبر أحدا على أخذ المال، لكن لو سكت، فلم نعرف قبوله من رفضه، فهل يجبر على أن يقبل أم لا يجبر؟ قال بعض العلماء: إذا امتنع حكمنا بأنه لا يريد، ونرد المال إلى الورثة، فيكون امتناعه عن الرد وعن الإجابة موجبا للحكم عليه، كما يقول الشافعية والحنابلة رحمهم الله، ويعتبرونه موجبا لصرف المال للورثة، فيرد المال؛ لأنه لو كان قابلا لقال: قبلت، فيقولون: نعتبر دلالة الحال كدلالة المقال؛ لأنه لو كان راضيا لقال: قبلت، فكونه لم يقبل ولم ينص على القبول؛ فإن في هذه دلالة على أنه لا يريد، وحنيئذ يرد المال إلى الورثة ويقسم عليهم.
وقوله: (لا قبله (، أي: لا قبل الموت.
ثبات ملكية الموصى به بالقبول بعد الموت
قال رحمه الله: [ويثبت الملك به عقب الموت] قوله: (ويثبت الملك -والملك والملك- به) أي: بالقبول، بشرط أن يكون عقب الموت، ويكون الملك بعد موت الموصي، فتثبت ملكية العقار وملكية النقد والأثمان على ما هو معلوم في الوصايا.
وإذا ثبتت الملكية بعد القبول فتتفرع المسألة التي ذكرناها، وهي: أن المدة التي ذكرناها فاصلة، فبعض العلماء يقول: المال لا يستحق نماءه من وصي له، فلو مرض مثلا فقال: أعطوا فلانا ناقتي الفلانية وصية من الثلث، فحددها وقال: الناقة الفلانية تعطى من ثلث مالي لفلان، والناقة في مرض موت الموصي كانت حاملا ثم وضعت، ثم بعد وضعها مباشرة توفي الرجل، وقبل من وصي له، فإذا جئنا ونظرنا إلى وقت الوصية، فلو قلنا: يثبت الملك بمجرد ما وصى، فما دام أنه قبل الوصية فلنرجع إلى الزمان الذي تلفظ به الموصي، فيكون بذلك ولد الناقة تابعا للناقة، ومن ثم سيملكه، فقال المصنف: (يثبت الملك به) ، أي: بالقبول بعد الموت لا قبله، وحينئذ لا يستحق هذا النماء المنفصل، وإنما يكون للورثة، فيكون ولد الناقة ملكا للورثة؛ لأنه مستحق على مال مورثهم.
الأسئلة
حكم الوراثة بالرضاعة والوصية لهم
السؤال لو لم يكن للمورث إلا ابنا من الرضاعة، فهل يرث أم للمورث أن يوصي له بماله؟
الجواب الابن من الرضاعة ليس له ميراث، فليس هو من الوارثين بإجماع العلماء رحمهم الله، فالرضاعة لا توجب الميراث، وبناء على ذلك يجوز أن يوصي له، وعند العلماء رحمهم الله أن الشخص إذا أراد أن يوصي لغير الوارث فيبدأ بالأقرباء الذين لا يرثون، فأخوه من النسب مقدم على أخيه من الرضاعة، فلا يذهب ويوصي بثلث ماله لإخوانه من الرضاعة وإخوانه من النسب موجودون؛ لأن الإخوة من النسب إذا لم يكونوا وارثين؛ فإن الأجر فيهم أعظم والصلة بهم أبر؛ فيبدأ بهم.
ثم بعد النسب تأتي الرضاعة، وبعدها المصاهرة والرحم، فيوصي لقرابته من جهة الرضاعة، كأمه من الرضاعة، وأخته من الرضاعة، وبنته من الرضاعة، وابنه من الرضاعة، فيوصي لهم ويراعي قربهم، وهذا لا شك أن الله عز وجل يثيبه عليه، ثم المصاهرة، والمصاهرة مثل أن يوصي لأم زوجته، ووالد زوجته، وذي الرحم منه، فيصل رحمه، فهذا مما يكون فيه الأجر والمثوبة.
قال صلى الله عليه وسلم: (إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها) ، فهذا نوع من الرحم، فقرابة الزوجة ذو رحم منه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم ذمة ورحما) يقصد: مصر؛ لأن لهم رحما من جهة إسماعيل؛ لأن أمه هاجر، ولهم رحم من جهة مارية؛ لأن ابنها إبراهيم؛ فهذا يدل على أن القرابة من جهة الزوجة لهم حق، وإذا أراد الإنسان أن يصلهم فإنه يراعي مرتبهم في الصلة، ولا شك أن الله يأجره على ذلك، والله تعالى أعلم.
مسألة رفض الموصى له للوصية
السؤال أشكل علي في مسألة رفض الموصى له أخذ الوصية أنها ترجع إلى الورثة، ولم نصرفها في وجوه البر، خصوصا أن نية المورث في بذل الخير وأنه أراد الصدقة؟
الجواب أشققت عن قلبه؟! بعض الأحيان قد يوصي لشخص محاباة، وبعض الأحيان قد يوصي لشخص من باب المكافأة له على معروف بينه وبينه، وبعض الأحيان قد يوصي لشخص لدفع ضرره عن أولاده وذريته من بعده.
وأيا ما كان السبب، فغير مسلم أن نقول: إن هذا متعين أن قصده البر والصلة، فليس كل الناس يوصي لأشخاص معينين وقصده البر والصلة، وعلى هذا فالحكم الشرعي أن من أوصى لمعين وفات المعين؛ فاتت الوصية بفواته، على تفصيل عند العلماء في مسألة ما يشترط له القبض وما لا يشترط له القبض؛ لكن الكلام إذا لم يقع القبول وتوفي ولم يمكن إنفاذ الوصية، ففي هذه الحالة يرجع المال إلى الورثة، فهم أحق به وأولى، والله تعالى أعلم.
يلزم المأموم بالتأمين إذا أدرك موضع التأمين
السؤال أدركت الإمام بعد فراغه من قراءة الفاتحة وقبيل التأمين، فهل إذا أمن أؤمن معه، أم أن التأمين يكون لمن أدرك الفاتحة؟
الجواب يشرع التأمين لمن أدرك موضع التأمين، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا قال: {ولا الضالين} [الفاتحة:7] فقولوا: آمين) ، فأمر عليه الصلاة والسلام بالتأمين لكل من حضر موضع التأمين، وعليه فإنه يلزم المأموم بالتأمين إذا أدرك هذا الموضع، والله تعالى أعلم.
حكم حرمان الوالد لأبنائه من الميراث
السؤال إذا غلب على ظن الوالد أن أبناءه سيصرفون الإرث فيما لا يرضي الله، فهل له أن يوصي بأكثر من الثلث؟
الجواب باب الوصية باب عظيم، وفيه أمور مهمة جدا، والناس مأمورون بشرائع هي سنن الهدى، قد دلت عليها نصوص الكتاب والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما عليهم إلا أن يلتزموها، ويسيروا على نهجها، ويتركوا الأمور إلى الله سبحانه وتعالى، فالله جل وعلا أمر من يوصي ألا يتجاوز هذا الحد، وعليه أن يلتزم بذلك وألا يجتهد، وما يدريه فلعل هؤلاء الذين ينظر إليهم أنهم فاسدون أن يكونوا من خيار عباد الله الصالحين بعد موته، فكم من أناس كانوا على ضلال ثم اهتدوا بعد موت والدهم أو بعد موت والدتهم! وكم من أناس فجعوا بموت الأقرباء فأصبحوا من الأخيار والسعداء: {فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا} [النساء:19] قالوا: ومن هذا أن تأتي المصيبة لعبد فيقلب الله حاله من حال الشقاء إلى حال السعداء، وهذه رحمة من الله سبحانه وتعالى يتدارك بها عبده.
وقد ترى الرجل كأسوأ ما أنت راء في عقوق الوالدين وقطيعة الرحم، فما أن يموت والده حتى يتفطر قلبه ويكون من أرحم أولاده به بعد موته، وقد يكون الولد من أبر الناس بوالده في حال حياته، ثم يفتح الله عليه الدنيا بعد موت أبيه، أو يفتح الله عليه من الفتن فينشغل بأولاده وزوجته، حتى إنه لربما مر عليه اليوم والأسبوع وربما الشهر لا يذكر والده برحمة أو دعوة إلا قليلا، مع أنه كان من أبر الناس بوالده في حياته.
فالأمور لا يعملها إلا الله سبحانه وتعالى، فالله وحده هو المطلع على السرائر وعلى الضمائر، وهو الذي قدر كل شيء وفصله: {وكل شيء فصلناه تفصيلا} [الإسراء:12] ، فمسألة أن الإنسان يرى أولاده عصاة اليوم؛ فيريد أن يوصي بالمال كله حتى لا يعصوا الله تعالى به، فهذه أمور منوطة بالغيب، ولذلك فما عليه إلا أن يلتزم الأصل الشرعي، وهو الالتزام بالثلث، وما زاد على الثلث فلا يجاوزه؛ التزاما بالشرع، وتسليما لحكم الله سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم.
فضل قيام الليل
السؤال في قوله تعالى: {كانوا قليلا من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون} [الذاريات:17 - 18] هل يشترط قضاء وقت الليل بالصلاة للدخول في هذا الوصف؟ ولو عكف طالب العلم معظم الليل على طلب العلم فهل يدخل في هذا الوصف؟
الجواب هذه الآية الكريمة اشتملت على خصلة جليلة عظيمة جعلها الله للأنبياء والأخيار والصالحين، فما من عبد يفتح الله عليه باب قيام الليل إلا فتح له أبواب الرحمات، فهو شأن الصالحين، ودأب أولياء الله المتقين، كما ذكر الله في كتابه المبين، حتى إن الله سبحانه وتعالى لما أراد أن يبين عظيم منزلة قيام الليل، وأنه مفتاح كل خير للعبد، أول ما أمر الله به نبيه عليه الصلاة والسلام في صبيحة الوحي بقوله: {يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا} [المزمل:1 - 2] ، وهذا يدل على أن قيام الليل فيه أمور عظيمة تكون سببا في سعادة العبد في دنياه وآخرته.
لقد جعل الله عز وجل في قيام الليل سداد اللسان، وإذا استقام اللسان استقامت الجوارح والأركان، قال تعالى: {إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا} [المزمل:6] .
وجعل الله قيام الليل سببا في هبات الآخرة، مع أنه سبب في صلاح دين العبد في دنياه، فإنه سبب في هبات الله ونعمه وخيره للعبد في الآخرة: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} [الإسراء:79] ، فجعل الله المقام المحمود مقرونا بقيام الليل، وهذا يدل على عظيم ما في قيام الليل، حتى إن بعض العلماء يقول: عجبت من الليل كيف جعل الله عز وجل فيه هذه الخيرات العظيمة! حتى إن فرضية الصلاة والإلزام بها وتقديرها وبيانها الذي شرف الله به نبيه عليه الصلاة والسلام جعل ذلك كله في الليل، فقال تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله} [الإسراء:1] ، وجعل الآيات العظيمة لنبيه عليه الصلاة والسلام في ذلك الليل، فأري عليه الصلاة والسلام من الآيات ما امتلأ قلبه بها إيمانا وتوحيدا لله جل جلاله، فالله أعلم حينما أصبح رسول الهدى بذلك الإيمان واليقين بعد أن أري آيات الله العظيمة، وكل ذلك جعله الله عز وجل في الليل.
ومن ذلك قال العلماء: إن قيام الليل من أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى، ولما سئل عليه الصلاة والسلام عن أفضل الأعمال بعد الطاعات والمكتوبات قال: (وركعتان يركعهما العبد في جوف الليل الآخرة) ، فهذا يدل على فضل قيام الليل.
لكن ما ورد في آية الذاريات من قوله: {وبالأسحار هم يستغفرون} [الذاريات:18] ثناء من الله عز وجل بذكر خاص بعد عام، والخاص هو الاستغفار؛ لأن قيام الليل يقوم على الذكر عموما، ومن أشرفه وأفضله: كثرة تلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والتمجيد والتوحيد لله عز وجل بالثناء عليه بأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، ومن ذلك: الاستغفار، فجعل الله عز وجل الاستغفار سببا في الرحمة: {وبالأسحار هم يستغفرون} [الذاريات:18] ، فهذا الوقت استحب العلماء رحمهم الله فيه لمن أصابه أن يكثر فيه من الاستغفار، وأن يسأل الله عز وجل فيه العفو والمغفرة؛ لأن الله سبحانه وتعالى اختاره فينزل الله فيه جل وعلا نزولا يليق بجلاله وعظمته وكماله، ويبسط لعباده الخير والرحمة، ينزل نزولا حقيقيا يليق بجلاله وكماله وعظمته، فيقول: (هل من داع فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟) علم سبحانه شدة حاجة عباده وفاقتهم إليه؛ فجعل لهم هذا الوقت المبارك للرحمة والعفو والمغفرة، والله أعلم في تلك الساعة كم من رقاب عتقت! وكم من ذنوب غفرت! وكم من درجات رفعت! وكم من فضائل ونوائل ورحمات أبوابها فتحت! فقيام الليل باب من أبواب الرحمة، وعلى العبد أن يحرص على السحر والاستغفار فيه، ولذلك سهام الليل في الأسحار، فما من عبد يدعو دعوته في السحر ويلازم دعاء السحر إلا شرح الله صدره.
وقد كان العلماء رحمهم الله والأئمة يوصون أهل الذنوب والذين كانوا في بداية هدايتهم وصلاحهم بلزوم الأسحار بكثرة الدعاء والاستغفار فيها، وهكذا من تغير حاله فضاقت عليه الدنيا، وأصابه الكرب والهم والغم، فليلزم الأسحار؛ لأنها ساعات رحمة؛ لثبوت السنة والخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتعرض لنفحات الله ورحماته التي يرحم بها عباده.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل لنا من ذلك أوفر حظ ونصيب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.