شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الوصايا)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (407)
صـــــ(1) إلى صــ(13)
شرح زاد المستقنع - كتاب الوصايا [4]
من المسائل المتعلقة بالوصايا: أن من قبل الوصية ثم ردها لم يصح هذا الرد، ومنها أنه يجوز للموصي أن يتراجع عن وصيته، وتراجعه قد يكون باللفظ وقد يكون بالفعل، ومنها أنه يجب على الورثة إخراج الحقوق والواجبات التي في ذمة الميت قبل القسمة؛ لأن نفس الميت معلقة بتلك الحقوق، وينبغي على المسلم أن يبتعد عن الاستدانة قدر المستطاع؛ وذلك لأن أمر الدين عظيم، ومن استدان وهو يريد قضاء دينه أدى الله عنه.
حكم قبول الوصية ثم ردها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومن قبلها ثم ردها لم يصح الرد] بين المصنف رحمه الله في هذه الجملة أن من وقع منه قبول الوصية، وتم هذا القبول بعد وفاة الموصي؛ فإنه حينئذ لا يصح رده لها، ولا رجوعه عن ذلك القبول، والسبب في ذلك: أنه إذا أوصى شخص إلى شخص آخر بوصية، فقبلها على الوجه المعتبر؛ فإن ملكيته تثبت لتلك الوصية.
فلو قال زيد من الناس: أوصيت لعمر بعشرة آلاف، ثم قال عمرو لما أخبر أن زيدا توفي وأوصى له بعشرة آلاف: قبلت، فإذا قال: قبلت بعد وفاة الموصي، فقد ثبتت ملكية العشرة آلاف له، فإذا قال بعد ذلك: رجعت عن القبول؛ فقد رجع عما يملك، ورجوع الإنسان عما يملكه لا يعتد به، فلو أن شخصا يملك بيتا فقال: هذا البيت لي، وليس المراد به على وجه الإقرار، وإنما المراد أنه يريد أن يخرج ملكيته عنه لا على وجه الهبة ولا على وجه الصدقة ولكن هكذا، فإنه لا يصح رجوع المالك عن الملكية بعد ثبوتها على الوجه المعتبر.
وحينئذ نقول: إن قبولك بعد وفاة الموصي يثبت ملكيتك لهذا الشيء الذي وصي به إليك، وحينئذ إما أن تتصدق به، أو تهبه، أو تتصرف فيه، أما الرجوع فلا يعتد به، وهذا كما ذكرنا شبه قول جماهير العلماء رحمهم الله، أن الرجوع بعد ثبوت الملكية ليس من حقه.
وهناك من العلماء من قال: له أن يرجع؛ لأن الإنسان حر في نفسه، فله أن يختار في وقت يرى من المصلحة أن يقبل، وله أن يختار الرد في وقت يرى من المصلحة أن يرده.
جواز رجوع الموصي في وصيته حال حياته
قال رحمه الله: [ويجوز الرجوع في الوصية] .
يقول المصنف رحمه الله: (ويجوز) أي: يباح للمسلم إذا وصى بوصية أن يرجع عنها، وذلك لأن الإجماع منعقد على أن الوصية ليست بعقد لازم في أول الحال، وقد تقدم معنا أن العقود منها ما هو لازم، ومنها ما هو جائز، والذي يوصف باللزوم إما أن يكون لازما للطرفين، إما أن يكون لازما لأحد الطرفين، وقد بينا هذا وفصلناه في مقدمات البيوع، وعند الكلام على باب الخيار.
والوصية في الأصل أنها عقد جائز في حق أحد الطرفين، لازم في حق الآخر؛ لأن الموصي من حقه أن يغير ويقدم ويؤخر ويبدل في وصيته ما لم يمت، وهذا حق من حقوقه، وعلى هذا شبه إجماع بين العلماء رحمهم الله، وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى؛ لأنه لو ضيق على الإنسان في وصيته لما أمكنه أن يتدارك كثيرا من المصالح، ولما أمكنه أن يدرأ عن نفسه كثيرا من المفاسد، ولو أن الشريعة ضيقت على الموصي أن يرجع عن وصيته لتحاشى الناس الوصية؛ لأنهم يعلمون أن أي وصية يقومون بها سيلزمون بها.
وحينئذ كان من رحمة الله تبارك وتعالى ولطفه بعباده كما قال العلماء: أن يسر على المسلم في رجوعه في وصيته، فيقدم ما حقه التقديم، ويؤخر ما حقه التأخير، على حسب اختلاف الأوقات والأزمنة والأحوال، فلربما كان في وقت يرى من المصلحة أن يوصي لغير الوارث، فيوصي بثلث ماله أو بربعه إلى قرابة له لا يرثون، ثم يشاء الله أن تكثر ذريته وتتغير الأحوال، وحينئذ تكون ذريته أحوج ما تكون إلى هذا المال، فيكون من المصلحة أن يلغي الوصية بالثلث، وأن يلغي الوصية بالربع، وأن يلغي الوصية لغير الوارث، وأن يقدم ورثته الذين هم أحوج، وهذا لا شك أن فيه رحمة من الله وتوسعة على العباد.
وممن أشار إلى هذا القرافي في كتابه (الذخيرة) ، فقد بين أن الله تعالى تدارك عباده برحمته حينما وسع عليهم في الرجوع عن الوصية، فلو لم يملك الإنسان الرجوع عن الوصية لصارت الوصية محل ضرر على الناس من جهة، ولتحاشي الناس الوصية من جهة أخرى.
قال: (يجوز) أي: يباح، فمن أوصى وصية ورأى من المصلحة أن يلغيها ويكتب غيرها، أو يلغي بعضها ويثبت بعضها؛ فالأمر عائد إليه، وعلى هذا شبه إجماع بين العلماء رحمهم الله، وفيه أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رواه الإمام البيهقي في السنن، أثبت مشروعية الرجوع عن الوصية.
الرجوع عن الوصية بالقول
والرجوع يكون بالقول، ويكون بالفعل، والرجوع بالقول يكون صريحا ويكون ضمنيا، فالرجوع القولي الصريح كقوله: رجعت عن وصيتي، وكذلك أيضا ما يدل على إلغائها: أبطلت وصيتي، وألغيت وصيتي، ولا تنفذوا وصيتي، ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على أنه قد رجع عما وصى به، فإذا قال ذلك فإن الوصية تبطل.
وأما الرجوع الضمني: فكأن يقول: يا محمد! أوصيت لك بهذه السيارة، ثم قال بعد ساعة، أو بعد يوم أو شهر: يا أولادي! السيارة بيعوها وسددوا بها ديني، فعلمنا أنه لا يريد تنفيذ الوصية الأولى، وإنما يريد أن يرجع عنها حينما جعلها في سداد الحقوق، فعلى هذا: إذا رجع صراحة، أو رجع ضمنا، كما ذكرنا في التصرفات كالبيع أو الهبة، فمثلا: كان قد وصى ببيت، وقال: هذا البيت يعطى لابن عمي فلان، وابن عمه ليس من الورثة، فوصى لغير وارث، ثم شاء الله عز وجل أن قال لهم بعد ذلك بزمان قصير أو طويل: هذا البيت بيعوه ثم افعلوا بثمنه كذا وكذا -خلافا لما أوصى به أولا- فنعلم أن هذا التصرف يدل على أنه قد رجع عن الوصية الأولى وألغاها.
الرجوع عن الوصية بالفعل
وأما الرجوع الفعلي فمثل أن يتصرف بالفعل، فبدلا من أن يبيع بالقول يتصرف بالمعاطاة، فمثلا يقول: يا محمد! هذا الكتاب وصية مني لك بعد موتي، ثم جاءه شخص بعد ذلك وقال له: يا فلان! بعني هذا الكتاب بهذه المائة، فأعطاه الكتاب مناولة وقبض المائة، فتصرفه ببيع المعاطاة يوجب إلغاء الوصية.
وهكذا لو فعل فعلا استنفذ ما وصى به، كأن يكون الموصى به طعاما، ثم أكله أو أعطاه أولاده ليأكلوه، أو تصرف فيه بالفعل؛ فإن هذا الفعل يوجب إلغاء الوصية الأولى، واعتبار الفعل الثاني سواء كان وصية أو كان غير ذلك.
إذا: بين المصنف رحمه الله أنه يجوز الرجوع، وقال: (يجوز) ، فلا يجب ولا يحرم ولا يكره، فهذا الأمر إليك، فمتى ما رأيت المصلحة أن تقدم في الوصية أو تؤخر فيها فإن ذلك راجع إليك، سواء وجد السبب للرجوع أو لم يوجد؛ فالإجماع قائم على أن من حقك أن تغير في وصيتك، سواء وجد سبب يقتضي هذا التغيير أو لم يوجد سبب.
لكن ينبغي لمن أراد أن يرجع عن وصيته أن يحتاط، فعندنا وصية منسوخة ووصية متأخرة ناسخة، فالوصية المنسوخة إذا كانت موثقة في القضاء، أو موثقة بحكم قاض، أو موثقة بشهود، أو مكتوبة، فينبغي على من يرجع أن يحتاط في الرجوع فيشهد شاهدين عدلين، فيوثق هذا الرجوع كما وثق الوصية، وألا يعرض حقوق الورثة للضياع حينما لا يحتاط بتوثيق الرجوع، أو الدلالة عليه على وجه معتبر بحيث يرجع إليه بعد وفاته.
الوصية المعلقة بشرط
قال رحمه الله: [وإن قال: إن قدم زيد فله ما أوصيت به لعمرو، فقدم في حياته فله، وبعدها لعمرو] .
إن قال: (إن قدم زيد فله ما أوصيت به لعمرو) هذه وصية معلقة، كأن يقول مثلا: إن قدم زيد إن ذهب عمرو إن حصل كذا وكذا إن افتقر فلان فأعطوه، وإلا أعطوا فلانا، المهم أن هذه الوصية المعلقة مبنية على شرط، وينبغي علينا أن نتقيد بهذا الشرط.
فإذا قال: إن قدم زيد فله، أي: قد أوصيت له بما أوصيت به لعمرو، كأن يكون عنده عشرة آلاف ريال، وزيد هو ابن عمه القريب، وعمرو ابن عمه البعيد، فأراد أن يوصي للأقرب ثم الأقرب، فقال: هذا المال لزيد بشرط أن يقدم قبل وفاته، فإذا لم يقدم قبل وفاته قال: فإنه لعمرو، وهذا هو معنى قوله: (إن قدم زيد فله) (له) : بمعنى يملك، والوصية التي وصيت بها لعمرو من عقار ومن منقول له، أي: لزيد، فزيد لا يملك هذا الموصى به إلا إذا تحقق الشرط وهو: قدومه قبل الوفاة، كما أخبر: إن قدم زيد فله ما وصيت به لعمرو، أيا كان هذا الشيء الذي وصى به.
فقوله: (إن قدم زيد) أي: قبل وفاته؛ وهذا أمر واضح بأنه يرتب القدوم على أساس أنه يقدم قبل وفاته، فإن توفي ولم يقدم زيد؛ سقط استحقاق زيد وبقيت الوصية على ما هي عليه.
وبناء على ذلك: يفصل في هذه المسألة فنقول: إنه من حيث الأصل أراد المصنف بهذا التمثيل أن يبين أن الوصية المعلقة ينبغي علينا أن نتقيد بشروطها وبالتعليق الوارد فيها، كأن يقول: إن قدم زيد إن جاء الغد وقدم زيد إن انتهى الشهر إن انتصف الشهر إن جاءت الجمعة إن غابت الشمس، فهذه كلها وصايا معلقة، فتعلق بالزمان، أو بالمكان، أو بالأفعال، فأي شيء اشترطه الموصي، وكان شرطا معتبرا خاليا من الغرر والإبهام والجهالة، فإنه محتكم إليه؛ لأن من حق الموصي أن يوصي مطلقا، ومن حقه أن يوصي مقيدا، فمن حقه أن يقول: وصيت لعمرو بعشرة آلاف، ولا يعلق ولا يقيد ولا يشترط؛ ومن حقه أن يقول: وصيت لزيد بعشرة آلاف بشرط ألا يقدم عمرو قبل وفاتي، أو ألا يكون فلان محتاجا؛ لأنه في بعض الأحيان تجده يقول: هذه عشرة آلاف ريال تعطى لبني عمي من بني فلان إذا كانوا محتاجين وإلا فتعطى لبني فلان.
فمعنى ذلك: أننا نصرفها إلى الأول الموصى إليه بشرط تحقق وجود الحاجة، ونصرفها إلى الثاني متى ما تخلف الشرط في الأول، وهذا أمر معتبر، أي: أنه يجب علينا أن نتقيد بشروط الموصي.
ومناسبة هذه المسألة: أنه ذكرها بعد الرجوع، وهذا فيه نوع من اللطف، وهو أن الرجوع تارة يكون رجوعا مطلقا، مثل أن يقول: وصيت لعمرو، ثم يقول: ألغوا الوصية، فهذا رجوع مطلق، وتارة يكون رجوعا بقيد؛ لأنه حينما قال: إن قدم زيد فله ما وصيت لعمرو؛ معناه: أنه رجع عن وصيته لعمرو بشرط قدوم زيد، فصار رجوعا معلقا.
فبعد أن فرغ -وهذا من دقته رحمة الله عليه- من الرجوع المطلق، شرع في الرجوع المعلق، وإلا فالأصل أن مسائل الأشياء التي يوصي بها -المعلقات- سيأتي بيانها والإشارة إليها.
وجوب سداد الحقوق التي على الميت بعد موته
قال رحمه الله: [ويخرج الواجب من دين وحج وغيره من كل ماله بعد موته وإن لم يوص به] قوله: (يخرج الواجب) ، أي: يجب على ورثة الميت أن يتقوا الله عز وجل في مورثهم، فيخرجوا من ماله الحقوق الواجبة، سواء كانت لله عز وجل، أو كانت للمخلوقين، فهم مسئولون أمام الله عز وجل عن إخراج هذا الحق، فالأصل يقتضي أننا نبدأ أولا بمئونة التجهيز، فيجهز، ويغسل، ويكفن، ويحمل، ويصلى عليه، ويدفن، وكل هذه الأمور إذا احتاجت إلى مئونة، فتكون من مئونة التجهيز.
ومن أهل العلم من قال: يقضى الدين قبل مئونة التجهيز، وهذا لا شك -إن تيسر- أنه من أبر البر للوالدين، ومن أعظم الصلة للقريب، ومن أفضل ما يقدم للميت؛ أن تبرأ ذمته وتقضى الحقوق عنه قبل أن يغسل وقبل أن يفعل به شيء؛ حتى إذا ترحم الناس عليه وسألوا الله له المغفرة يكون خالصا من حقوق الناس وبريئا من عهدهم، فهذا لا شك أنه من أفضل ما يكون؛ أن يقضى الدين، ويبادر به مبادرة تامة.
فإذا قضي ابتدئ بعد قضاء الدين بمئونة التجهيز على القول الذي ذكرناه، ثم بعد ذلك إذا لم يقض الدين وابتدئ بمئونة التجهيز، فينظر في أصحاب الحقوق وأصحاب الديون، وتسدد هذه الديون كاملة، ولا يجوز للورثة أن يؤخروا سداد الدين؛ لأن كل من مات حلت ديونه حتى ولو كان الدين على أقساط لعدة سنوات؛ لأن القاعدة تقول: إن من مات حلت ديونه، فلو أن شخصا اقترض مائة ألف على أن يكون سدادها على عشر سنوات، ثم توفي في السنة الأولى، فهنا تصبح المائة ألف حالة عليه، أي: يجب أن تسدد فورا، والسبب في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينة) أي: مرهونة به، نسأل الله السلامة والعافية، وكذلك بين نص الكتاب، فقال تعالى: {من بعد وصية توصون بها أو دين} [النساء:12] {من بعد وصية يوصي بها أو دين} [النساء:11] {من بعد وصية يوصى بها أو دين} [النساء:12] ، فقدم سبحانه وتعالى الدين والوصية على قسمة التركات وإعطاء الوارثين حقوقهم، فالواجب أن يبدأ بسداد الدين؛ لأن أمر الدين عظيم، فإذا جهز الميت نظر في ديونه العامة والخاصة، وديونه فيما بينه وبين الله عز وجل، وديونه التي بينه وبين العباد.
فديونه التي بينه وبين الله تبارك وتعالى مثل أن يكون عليه دم واجب لفوات واجب في حجه، أو عليه فدية أو كفارة ظهار، ونحو ذلك من الحقوق الواجبة على الميت لله سبحانه وتعالى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم.
قال: فدين الله أحق أن يقضى) .