عرض مشاركة واحدة
  #512  
قديم 14-05-2025, 07:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,589
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الوصايا)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (408)

صـــــ(1) إلى صــ(17)






شرح زاد المستقنع - باب الموصى له
يشرع لمن ترك ذرية ضعفاء وخشي عليهم بعد موته، أن يختار شخصا مسلما عاقلا بالغا حرا عدلا، ويوصي إليه ليقوم بأمرهم، وبتفريق الأموال حسب الوصية، ويجوز للمرأة أن تكون وصية على اليتامى وعلى الأموال.
كما أن الوصية تصح لكل من يصح أن يملك، حتى وإن كان حملا تحقق وجوده، ولا تصح الوصية لملك من الملائكة أو لحيوان أو لميت؛ لأنه لا يصح تملكهم.

مشروعية الوصية بالذرية إلى من يقوم عليهم ويرعاهم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه وعلى أفضل رسله، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الموصى له] .
شرع المصنف رحمه الله في هذا الباب في بيان ركن من أركان الوصية، وهو الشخص الذي يوصى له ويعهد إليه، والوصية تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: يتعلق بالوصية بالأموال.
القسم الثاني: يتعلق بالوصية بالأيتام والضعفة الذين يخلفهم الإنسان من وراء ظهره، كقرابته الذين يحتاجون إلى رعاية وعناية.
فأما بالنسبة للأموال، فيوصى للشخص أن يأخذ ذلك المال، ويوصى للشخص أن يقوم بتفريق الأموال، ولابد في هذا الوصي -الذي أقيم لتفريق الأموال أو لرعاية اليتامى والقيام على حقوقهم والإحسان إليهم من بعد أبيهم- أن تتوفر فيه أمور، ومن خلال هذه الأمور يمكن أن تتحقق المصالح التي من أجلها شرع الله الوصية، وكذلك تندرئ المفاسد والشرور التي شرع الله الوصية لدرئها ودفعها، والله سبحانه وتعالى ما ترك خيرا إلا ودل عباده عليه، وما ترك شرا إلا وحذرهم منه.
والأصل في الوصية للأشخاص الذين يقومون برعاية اليتامى وبتفريق الأموال ممن يوثق بدينه وأمانته قول الله تبارك وتعالى: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا} [النساء:9] ، فبينت هذه الآية الكريمة أن على كل مسلم حضره الموت، أو كان في عافية ولكنه يخشى أن يدهم عليه الأجل -وليس هناك أحد يضمن عمره- أن يتقي الله في هؤلاء اليتامى.
والإنسان لا يضمن -ولو كان في عز شبابه واكتمال صحته وعافيته- أن ينزل به أمر الله في ليل أو نهار، ولذلك من ولد له فليتق الله في مولوده ولو كان صغيرا؛ لأنه لا يضمن أن يعيش له، فأمر الله تبارك وتعالى من خشي على ذريته من بعده: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم} [النساء:9] ، فوصف الذرية بأنها ضعيفة، ووصف الشخص بأنه يخاف، إذا: تكون الذرية ضعيفة إذا كانت من اليتامى، سواء كانوا ذكورا أو كانوا إناثا، واليتم في الأنثى أشد منه في الذكر، فلذلك قال تعالى: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا} [النساء:9] أي: أولادا ضعافا، بخلاف ما إذا كان هؤلاء الأولاد عندهم إخوة كبار، وهم بالغون وفيهم أمانة، فيمكنهم أن يقوموا مقام الآباء، ويسدوا مسده في رعاية إخوانهم القصار واليتامى.
فأولا: أن تكون الذرية ضعيفة لا تملك لنفسها حولا ولا قوة.
ثانيا: أن يخشى هذا الرجل على هذه الذرية، وفي بعض الأحيان تكون الخشية بسبب عدم وجود قريب يقوم عليهم، فيخشى على أموالهم أن تؤكل، ويخشى على حقوقهم أن تضيع؛ بل ربما خشي على أعراضهم أن تنتهك، وهذا لاشك أنه يتأكد خاصة عند فساد الزمان وتغير الناس.
بل قد يخشى الإنسان من أقرب الناس منه، فكم من عم وكم من أخ أكل أموال قرابته! وكم من أيتام ضاعوا بسبب اعتداء أعمامهم على أموالهم! وكم من أيتام ضاعوا بسبب اعتداء إخوانهم على تلك الأموال! فإذا كان الأب يعلم أن ابنه الأكبر أو أن أبناءه الكبار فيهم قسوة، وفيهم جرأة على حدود الله عز وجل، أو كراهية لإخوانهم القصار؛ فعليه أن ينتقل حتى ولو لشخص أجنبي غريب يأمنه.

شروط يجب توافرها في الوصي
ولا بد أن تتوفر في هذا الشخص الأمور التي ينبغي مراعاتها في كل من يقوم بهذه الولايات؛ من جهة الدين ومن جهة الدنيا، فهناك أمور من جهة دينية، وهناك أمور من جهة دنيوية.
أما من أوصي إليه بالقيام على اليتامى ونحوهم، فمن الأمور التي تشترط فيه من ناحية دينية: أولا: الإسلام، فلو أنه لم يجد في أبنائه الكبار من يحسن النظر لليتامى من أولاده، ووجد أخاه، ولكن أخاه كافر، فلا يجوز أن يقيم الكافر وصيا على الأيتام المسلمين، بأي حال من الأحوال؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} [النساء:141] ، والذي يوصي إلى الكفار قد جعل السبيل للكافر على المسلم بالولاية عليه، وقال سبحانه وتعالى: {لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر} [آل عمران:118] ، وما عرف أحد بعدو مثل تعريف الله جل جلاله لعباده المؤمنين بأعدائهم، ولذلك يقول في كتابه: {والله أعلم بأعدائكم} [النساء:45] .
فبين سبحانه وتعالى أن الكافر لا يراعي مصلحة المسلم مهما كان الأمر، إلا إذا كان هناك ضرر أكبر، أو كان هناك خديعة أو مكر، والله عز وجل {يقص الحق وهو خير الفاصلين} [الأنعام:57] .
فلن تجد أصدق منه حديثا، ولا أصدق منه قيلا، ولا أصدق منه حكما، ولذلك قال تعالى: {لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة} [التوبة:10] ، والإل: هو القرابة، والذمة: هي العهد، فالكافر لا يرقب في المؤمن إلا ولا ذمة، إلا إذا كانت له مصالح، فعندها يخاف من المصلحة أن تفوت، لا مراعاة للإل ولا للذمة، فليس عندهم عهد ولا ذمة، فالمقصود: أن الله تعالى لم يجعل للكافر على المؤمن ولاية لهذه النصوص.
ولما ولى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه كاتبا له نصرانيا -وكان بالشام- لأنه لم يجد في المسلمين من يحسن له الكتابة وتنظيم الكتابة، فعهد بذلك إلى نصراني من أهل الشام، فبلغ عمر ما فعله، فكتب إليه بهذه الآية: {لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم} [آل عمران:118] ، فقوله تعالى: {ودوا ما عنتم} [آل عمران:118] أي: ودوا عنتكم، وهذا يدل على أنه لا خير فيهم، فلا يجوز أن يكون الكافر وصيا على الأيتام، ولا قائما على شئونهم؛ لهذه النصوص.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يعلو ولا يعلا عليه) ، واليتيم المسلم كالمسلم؛ لأن هذا عند العلماء مقعد على القاعدة المشهورة التي ذكرها الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه: قواعد الأحكام، التي هي: (تنزيل المعدوم منزلة الموجود) ، فأيتام المسلمين محكوم بإسلامهم تبعا لوالديهم.
الشرط الثاني: العقل، فلا يعهد لأولاده وأيتامه وذريته من بعده ولا يوصي لشخص مجنون؛ لأن المجنون لا يحسن النظر لنفسه فضلا على أن ينظر في مصلحة غيره؛ ولأن الشريعة الإسلامية إنما جعلت الوصية على اليتامى من أجل طلب مصالحهم ودرء الشرور -بإذن الله- عنهم، وهذا لا يمكن أن يتحقق بمن فقد العقل، حتى لو كان جنونه متقطعا فإنه لا يقام وصيا؛ لأنه لا يؤمن منه الضرر.
الشرط الثالث: أن يكون بالغا؛ لأن الصبي لا يحسن النظر، وفيه كذلك قصور، قال تعالى في كتابه: {الذين لم يبلغوا الحلم} [النور:58] ، فبين أن الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم دون العقل والتمييز والإدراك للأمور، فلو أقيم صبي وصيا على يتامى، أو وصيا على أموال في تفريقها؛ فإنه لا يحسن النظر، ولربما خدع وضحك عليه لنقص عقله.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم-: الصبي حتى يحتلم) أي: حتى يكتمل عقله ويحسن النظر بفضل الله عز وجل، ثم بهذا العقل الذي يميز فيه بين الأمور صالحها وضارها.
الشرط الرابع: أن يكون حرا؛ لأن العبد المملوك بين الله تعالى أنه مشغول بخدمة سيده؛ ولأنه لا ولاية له على نفسه، فكيف يلي على غيره؟ الشرط الخامس -في الوصي الذي يوصى إليه بالقيام على أمور اليتامى-: أن يكون من أهل العدالة، والعدل هو الذي يجتنب الكبائر ويتقي في أغلب أحواله الصغائر، قال الناظم.
العدل من يجتنب الكبائر ويتقي في الأغلب الصغائر فالعدل هو الذي استقام على طاعة الله تبارك وتعالى، والتزم شرائعه، وفعل ما أمره الله به، وترك ما حرم الله عليه، والفاسق هو من يرتكب الكبائر -ولو كبيرة واحدة- أو يصر على صغيرة حتى تصل إلى مقام الكبيرة، فمثل هذا يقولون: كما أنه ضيع حق الله بفسقه؛ فإنه سيضيع حقوق اليتامى؛ لأن أصل الفسق: الخروج عن الشيء، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت قشرتها، والفاسق سمي فاسقا لأنه قد خرج عن طاعة الله عز وجل، فإن خرج خروجا كليا -والعياذ بالله- بالكفر فهذا فسق الكفر، وإن خرج خروجا لا يخرجه عن الملة، فهذا فسق العصيان الذي لا يوصل الإنسان إلى حد الكفر.
فمثل هذا الذي يفعل الكبائر وفيه فسق لا يؤمن أن يضيع حقوق اليتامى ويتلاعب بها، فربما قبل الرشوة، فباع أموال اليتامى بثمن بخس، أو باعها حين يكون البيع ضررا على اليتامى، أو يشتري حيث يكون الشراء ضررا على اليتامى.
فالمقصود: أنه بفسقه فيه تهتك وفيه تساهل، فلا يؤمن منه أن يضيع حقوق هؤلاء اليتامى، وحينئذ يكون مقصود الشرع تحقيق المصالح، فتكون ولايته مضيعة لمقصود الشرع.
هذا من جهة الأمور التي ينبغي توفرها في الشخص الذي يوصى إليه.

أمور يستحب توافرها في الموصي
وهناك أمور تستحب في الموصي، وينبغي لمن يوصي أن ينظر إلى الأكمل والأفضل؛ ومن هذه الشروط المستحبة: أولا: ألا يخرج عن القرابة، فإذا أراد أن يوصي لأيتامه فيبدأ بأقرب الناس إليه، ممن يحسن النظر؛ لأن القريب في الغالب فيه شفقة القرابة، ويخاف من الله جل وعلا أكثر؛ لأن القرابة تدعو إلى الشفقة وإلى الرحمة، فإذا كان هناك من أقربائه من يمكن أن يقوم بالنظر في عياله وأولاده وأيتامه من بعده، فلا يعدل إلى الغريب، ولا ينتقل إلى الأجنبي، ولأنه ربما احتاج الوصي أن يخاطب أمهم، ولربما احتاج أن يختلط باليتامى، فعندما يكون من الأقربين يكون ذلك أخف على أولاده وأيتامه وأجبر لقلوبهم، بخلاف ما إذا كان أجنبيا فإنه يكون أدعى إلى التهم، ويكون في ذلك من التضييق والعنت ما الله به عليم، فيبدأ بالأقرباء قبل الغرباء.
ثانيا: من أهم ما ينبغي أن ينتبه له بعد هذه الشروط الدينية هو مراعاة الأمور الدنيوية المهمة التي من أهمها: حسن النظر في الأمور؛ فإن الله عز وجل فضل الناس بالعقول، وفضلهم بحسن النظر، فهذا العقل هو الذي ارتقى الإنسان به من مستوى البهيمية إلى مستوى الآدمية والتكريم من الله جل وعلا، وهو نور من الله سبحانه وتعالى تنكشف به حقائق الأمور، فيميز الإنسان بهذا العقل بين الصالح وبين الضار، ولذلك تجد من فقد عقله بسكر أو جنون -والعياذ بالله- يكون حاله في بعض الأحيان أردأ من حال الطفل، ولربما ذهب ورمى بنفسه في النار، مع أن البهيمة إذا رأت النار فرت منها، ولكنه ربما جاء في حال سكره وحال ذهاب عقله -والعياذ بالله- فيرمي بنفسه، ولربما قتل نفسه والعياذ بالله، فالعقل من أتم النعم التي أنعم الله عز وجل بها على العبد بعد نعمة الدين، ولذلك وصف الله الدين مع العقل بأنه نور على نور.
فإذا جاء الإنسان يوصي بقرابته وأوليائه إلى شخص فعليه أن ينتبه لهذه الجوانب المهمة من اكتمال العقل، فقد يكون عاقلا ولكنه غير مكتمل العقل، فينظر إلى الشخص الذي عرف بسداد الرأي، فمثلا: إذا كان الذي يريد أن يوصي غنيا ثريا، فينبغي أن يتنبه إلى جانب حفظ المال وتنميته، فإذا وجد الشخص المعروف بحسن النظر في تنمية الأموال واستثمارها عهد إليه بالقيام على أمواله؛ لأن مال اليتيم يحتاج إلى ذلك، وهذا أكمل وأفضل، فيحفظ المال وينمو، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة) .
فندب إلى أن يكون الولي ممن يحسن النظر في استثمار الأموال وحسن رعايتها، وهذه المرتبة مرتبة الأحسن والأكمل، أما إذا لم يجد الموصي من يحسن تنمية أموال أيتامه؛ فليبحث عن الشخص الذي عرف بالحيطة والحذر والخوف في حفظ الأشياء، وله أن يختبره حتى يعلم أمانته وحفظه، حتى إذا لقي الله جل جلاله ووقف بين يدي الله وأبناؤه خصومه فيمن ولاهم عليه يقول: رضيت لهم ما أرضاه لنفسي.
فعليه أن ينظر وكأنه يتيم من هؤلاء اليتامى، فينظر الذي يرضى في حفظه ورعايته لهذه الأموال، سواء كان من القرابة أو من غيرهم.
فالإنسان عندما لا يجد من يحسن الاستثمار، أو وجد رجلا يستثمر الأموال ولكنه يخاطر في استثماراته، ووجد شخصا غيره لا يستثمر، لكنه إذا أمسك شيئا حفظه حتى يؤديه على أتم وجوه؛ فحينئذ تجتنب جانب المخاطرة، وتعهد بأبنائك إلى من عرف بالحفظ، فالحفظ حسن والاستثمار أحسن، لكن حينما كان الاستثمار فيه مخاطرة وصاحبه لا يعرف بالحذر، فتعدل إلى من يعرف بالحفظ؛ لأن المسلم لا يخاطر لنفسه، فكذلك لأيتامه الذين أمر بالنظر في مصالحهم.
كذلك أيضا عليه أن يبحث في الأمور الدنيوية من ناحية أخلاق الرجل في دينه وحسن معاملته؛ لأن أيتامه من بعده ربما احتاجوا أن يدخلوا على هذا الرجل المرة بعد المرة، وقد يكون الرجل فظا غليظا، فقد تجده يحسن حفظ الأموال أو استثمارها، لكن أخلاقه شرسة ومعاملته سيئة؛ فيعيش اليتيم تحت القهر، فلا يستطيع أن يبث حاجته وأن يبث حزنه، ولا يستطيع أن يسأل حاجته، أو أن يصل إلى ماله وماله بين يديه، فلا ينبغي أن يولي عليهم من عرف بالشدة والأذية والتضييق، وإنما يراعي فيه الأخلاق الطيبة، والتواضع والإلف والحلم والرحمة، ويوصيه بتقوى الله عز وجل، وحسن النظر في أيتامه وأولاده من بعده، وقد كان السلف الصالح رحمهم الله يحتاطون في هذا الأمر كثيرا.

حكم وصية الرجل إلى المرأة بالقيام على الأيتام والأموال
ويجوز أن تولى المرأة، فإذا كانت زوجة الإنسان معروفة بالصلاح والأمانة، ومعروفة بالرعاية والضبط التام لأموال اليتامى، وكذلك برعايتها؛ عهد إليها؛ لأن المرأة -على أصح أقوال العلماء- يجوز أن تلي وأن يوصى إليها برعاية الأيتام، وكذلك بحفظ المال وتفريقه، والدليل على ذلك فعل السلف، فإن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تولت أمور أيتام أخيها عبد الرحمن رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه توفي قبلها، فوليت أمور أيتامه من بعده؛ فكانت هي التي تقوم على شئونهم وترعى أحوالهم.
وكذلك صح عن عمر رضي الله عنه -كما في الصحيحين- أنه عهد بالوقف الذي أوقفه بخيبر -وقد تقدم معنا- وأوصى أن تكون بنته أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها هي التي تليه على الوقف.
فدل ذلك على أنه يجوز أن يوصى بتفريق الأموال إلى المرأة، قياسا على فعل عمر في الوقف، وبرعاية الأيتام نصا في خبر أم المؤمنين عائشة، حيث وقع فعل هذا بحضور الصحابة وبعلمهم رضي الله عنهم ولم ينكر عليها ذلك، وهي من فقهاء الصحابة رضي الله عنها وأرضاها.
وقد شدد في هذا بعض السلف، فكان عطاء بن أبي رباح رحمه الله لا يرى أن يوصى للمرأة، والصحيح: أنه يجوز ويصح أن يوصي للمرأة، وخاصة إذا عرفت بالأمانة والحفظ وحسن الرعاية والتدبير لأموال أيتامه من بعده.

اشتراط كون الموصى له يصح تملكه
يقول رحمه الله: [باب الموصى له] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بالشخص الذي يوصى له، فيعهد إليه برعاية أيتام أو تفريق مال، أو يوصى له مباشرة بأن يقال: أعطوا محمدا عشرة آلاف، أو أعطوه الثلث، أو نحو ذلك، فإنه يشمل هذا ويشمل هذا، فهناك يكون موصى له، وأيضا يعتبر وصيا من جهة كونه قائما بالرعاية للمال والأيتام.
قال رحمه الله: [تصح لمن يصح تملكه] .
إذا وصى بمال فلابد أن يكون الشخص الذي يوصى له ممن يصح تملكه للمال، فإن كان ممن لا يصح تملكه للمال؛ كالمعدوم، كأن يقول: أعطوا ابن فلان، ولم يولد له بعد، وليس هناك حمل تحقق وجوده، فهذا غير موجود.
وكذلك أيضا بين أنه لا بد أن يكون ممن يصح تملكه، فيوصى للشخص الذي يكون أهلا للولاية على المال، وكذلك استحقاقه.
فأما إذا كان لا يصح تملكه للمال؛ مثل الحربي، فلو وصى بماله لحربي فلا يصح تملكه للمال، ولا تجوز الوصية له؛ لأن أموال الكفار ملك للمسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم) .
فدل هذا على أن الحربي -أي: المحارب للمسلمين من الكفار إذا لم يفعل ذلك، فمعناه أنه لم يسلم، وأنه باق على محاربته للمسلمين؛ وحينئذ لا استحقاق له في المال، فلو قال: وصيت لأخي فلان بعشرة آلاف، وكان أخوه حربيا كافرا، لم يصح؛ لأنه ليس له يد على ذلك المال؛ لأن الشريعة رفعت يد الكافر عن ماله إذا كان محاربا.
وقوله: (تصح) أي: الوصية (لمن) أي: للشخص الذي (يصح تملكه) ، فلو قال مثلا: وصيت لبهيمة، فإنه لا يصح تملكها، وكذلك أيضا لو قال: وصيت لملك من الملائكة، فلا يصح تملك هؤلاء؛ لكن إذا وصى لشخص معين يصح تملكه صحت الوصية؛ لأن الوصية يراد منها إيصال الحق إلى شخص، سواء كان ذلك على سبيل الصلة والبر، أو على سبيل المحاباة وكسب المودة، وهذا المعنى لا يتحقق فيمن لا يصح تملكه، كالبيهمة، والملك، والحربي، ونحوهم.
وظاهره العموم كما ذكر المصنف، فيشمل الذكر والأنثى، ويشمل الصغير والكبير، فيصح أن يوصي بماله لصغير فيقول مثلا: ثلث مالي وصية لذلك الولد، ولو كان دون البلوغ، وهكذا لو وصى لحمل تحقق وجوده فإنه يصح تملكه.
فعلى هذا لا بد أن يكون الشخص الذي يوصى له ممن يصح تملكه، ويشمل ذلك الرجال والنساء كما ذكرنا.

حكم الوصية بالمال للعبد
قال رحمه الله: [ولعبده بمشاع كثلث] .
أي: وتصح الوصية لعبده بمشاع كثلث، كأن يقول: ثلث مالي لعبدي فلان، وذكر العبد هنا؛ لأن الإشكال في العبد أنه بعد وفاة سيده يكون ملكا للورثة، فإذا وصى له فإن جميع ما يوصى به لهذا الرقيق سيكون إلى الورثة، فصارت الوصية في ظاهرها لغير وارث وفي حقيقتها أنها لوارث، ومن هنا يذكر العلماء مسألة الرقيق من هذا الوجه، ومرادهم التمثيل على وصية في ظاهرها للغير ولكنها في حقيقتها آيلة إلى الورثة.
لكن إذا قال: وصيت بثلث مالي لفلان، من أرقائه وعبيده، أو قال: أوصيت أن يعتق فلان من ثلثي ونحو ذلك، فحينئذ ينظر، فإذا استغرق الثلث الذي وصى به قيمة العبد فهو حر، فلو كانت قيمته تسعة آلاف ريال، وكان قد ترك سبعة وعشرين ألفا، فالثلث تسعة آلاف، فحينئذ يعتق من هذا الثلث، وأما إذا كان زائدا فحينئذ يعتق ويملك ما زاد، فلو قال: وصيت بثلثي لمحمد -وهو من عبيده- والثلث تسعة آلاف، وقيمة الرقيق ثلاثة آلاف؛ عتق بالثلاثة وملك ستة آلاف؛ لأنه تكون له يد على المال، وحينئذ يعتق ويملك.
قال رحمه الله: [ويعتق منه بقدره ويأخذ الفاضل] .
قوله: (ويأخذ الفاضل) الفاضل هو الزائد، يقال: فضل الشيء إذا زاد، ومنه فضل الإنسان، إذا كان محافظا على الطاعة؛ لأن الطاعة والبر إذا كانت غير واجبة فهي فضل وزيادة على الواجب.
قال رحمه الله: [وبمائة أو معين لا تصح له] .
فإن عين وقال: بمائة درهم، أو أوصيت له بألف، فهذه المائة أو الألف ستعود إلى الرقيق وليست في رقبته، وإنما تعود ملكا له، وبمجرد ما تقع يده على ذلك المال سينتقل إلى ورثة الموصي، فكأنه يوصي إلى ورثته؛ لأن الرقيق لا يملك، والدليل على أنه لا يملك قوله تعالى: {عبدا مملوكا لا يقدر على شيء} [النحل:75] ، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) ، فأخلى يد الرقيق عن الملكية، وجعل ماله إما للبائع وإما للمشتري، فدل على أنه لا يملك.
وعلى هذا فلو وصى له بمعين -كمائة أو ألف أو ألفين- فهذا المعين بمجرد أن تحكم بصحة الوصية سيدخل إلى ملكية العبد، والعبد وما ملك سيكون لسيده، فهو في الحقيقة سيؤول إلى وصية لوارث، بخلاف ما ذكرناه في مسألة المشاع والثلث.

صحة الوصية بحمل أو لحمل تحقق وجوده

قال رحمه الله تعالى: [وتصح بحمل ولحمل تحقق وجوده] .
قوله: (وتصح بحمل) ، أي: إذا وصى بحمل جاريته؛ لأن الحمل يكون من الرقيق تبعا لأمه.
أو يكون الحمل حمل ناقة أو حمل شاة، فقال: ما في بطن هذه الشاة -والحمل موجود- يعطى لمحمد أو يعطى لعلي، فهذه وصية منه بهذا الحمل، فتصح الوصية بحمل.
وقوله: (ولحمل تحقق وجوده قبلها) ، أي: قبل الوصية، فالضمير عائد للوصية، إذا: يشترط أن يتحقق من وجود الحمل قبل الوصية حتى تصح الوصية؛ لأنه إذا لم يتحقق من وجود الحمل قبل الوصية كانت لمعدوم، ولا تصح حينئذ الوصية من هذا الوجه، فإذا وصى لحمل كأن يكون -مثلا- ولد أخيه، أو أخته، فيقول مثلا: وصيت بألف ريال تعطى لحمل فلانة، فيشترط في هذا الحمل أن يتحقق من وجوده حتى تصح الوصية، وقد يوصي للحمل لأنه سيكون يتيما، كأن توفي أخوه وزوجته حامل، فأحب أن يصل أولاد إخوانه من اليتامى، فقال: أوصي بثلث مالي لحمل فلانة، يقصد زوجة أخيه.

إذا أوصى أن يحج عنه بمال يكفي لأكثر من حجة
قال رحمه الله: [وإذا أوصى من لا حج عليه أن يحج عنه بألف؛ صرف من ثلثه مئونة حجة بعد أخرى حتى ينفد] .
الإنسان إذا وصى بالحج أو بالعمرة، فإما أن يكونا واجبين عليه، وإما أن يكونا غير واجبين، فإن كانا واجبين فلا إشكال، فإنها ستخرج سواء وصى أو لم يوص؛ لأن دين الله أحق أن يقضى؛ ولكن إذا وصى وقال: حجوا عني، فإن حدد مالا فقال: هذه العشرة آلاف يحج بها عني، أو ثلث مالي يحج به عني، فحينئذ نأخذ هذا الثلث كاملا نحجج عنه، فإذا حججنا عنه لم يخل من حالتين: فإما أن يكفي الثلث، وإما أن لا يكفي.
فإن كان الثلث كافيا فعلى ضربين: إما أن يكفي ويزيد، وإما أن يكفي ولا يزيد.
فإن كان يكفي ولا يزيد فلا إشكال، مثال ذلك: لو أنه قال: خذوا من مالي ألف ريال وحجوا بها عني، ثم جئنا لشخص وقلنا له: أتحج عن فلان؟ قال: نعم، فنظرنا في مئونة الحج وكلفته فإذا هي ألف ريال؛ فحينئذ وصى بمال يكفي للحج ولا يزيد، فحينئذ لا إشكال.
الحالة الثانية: أن يكفي ويزيد، فإذا كفى المال وزيادة؛ حج عنه بالأصل، ثم كرر الحج سنوات حتى ينفد المال كله؛ لأن هذا المال شبه الموقوف على هذه الطاعة، فيحجج بهذا المال عنه.
لكن الإشكال إذا كان المال يكفي لأربع حجج، فهل تكون هذه الأربع الحجج متتابعة، بحيث نحج عنه في أربع سنوات، أو يمكن أن يستأجر أربعة أشخاص في حجة واحدة؟ هذا فيه تفصيل عند بعض العلماء، فبعض العلماء يقول: لا يحج عن الميت إلا حجة واحدة؛ لأن البدل آخذ حكم مبدله، كما أنه لا يمكن أن يأتي بحجتين في عام واحد؛ فكذلك لا يصح أن يحجج عنه حجتين في عام واحد؛ ولأننا لو فتحنا هذا الباب في باب النوافل لصح أن يأتي هو بحج ويستأجر الغير معه ليحج أيضا عنه، على القول بجواز التنفل عن الحي مع القدرة، وهذا من حيث النظر صحيح، ومن حيث الأصل أيضا له وجهه.
وبعض العلماء يقول: بل يمكن أن يحجج عنه أربعا أو خمسا في زمان واحد على حسبه، فمثلا: لو ترك خمسة آلاف، وكل ألف ريال تكفي لحجة عنه، فبعض العلماء يقول: أستأجر خمسة أشخاص؛ وذلك لأنني لا أضمن في العام القادم أن تكون الحجة بألف، وقالوا: إنه يجوز في الأموات بعد موتهم ما لا يجوز للإنسان في حال حياته، فيخفف في هذا من هذا الوجه.
وأيا ما كان فكلا القولين له وجهه، وما ذكرناه من أنه لا يجمع بين الحجتين في عام واحد له قوة.
هذا بالنسبة إذا كانت تكفي وزيادة، والحكم الذي يهمنا أنه ما دام قد قال: ثلث مالي يصرف في الحج، أو هذه الألف يحج بها عني، فإن هذا المال كله ينفق في الحج، ولا نقتصر على حجة واحدة إلا إذا قال: خذوا من ثلث مالي حجة واحدة؛ أو عمرة واحدة، فحينئذ يقتصر على ما طلب وسأل، ويصرف من المال بقدره.
أما إذا كان لا يكفي أن يحج عنه، فبعض العلماء يقول: إنه ينظر إلى أقرب الأماكن؛ لأنه لا يمكن أن يحج عنه من بلده ومن مكانه، ويمكن أن ينظر إلى أقرب الأماكن، كأن يستأجر شخص من أهل مكة ويحج عنه، أو ينظر ممن يرضى بالقليل ويقوم بالحج عنه، وأيا ما كان فإن المال الذي عين للحج مصروف في ذلك الحج، إلا إذا تعذر الوجود وتعذر من يحج عنه، فحينئذ ينتظر حتى يتمكن من صرف ذلك المال في الحج.
وقوله: (صرف من ثلثه مئونة حجة بعد أخرى حتى ينفد) ، أي: حتى ينفذ الثلث؛ لأنه لم يخص حجة واحدة، ولا عمرة واحدة، لكنه لو خص وقال: يحج عني حجة واحدة، أو يحج عني السنة القادمة، أو يحج عني حجتين، فحدد وعين، فيتعين الحكم ويختص الحكم بما عين من أجله، أما إذا كان قد أطلق فإننا نستنفد الثلث كاملا، ولو شمل ذلك عشر حجج، لكن على التفصيل الذي ذكرناه.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 45.96 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 45.34 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.37%)]