الوقت المستحب للخطبة
قال رحمه الله: [ويسن العقد يوم الجمعة مساء بخطبة ابن مسعود] .
بعد أن بين رحمه الله مشروعية الخطبة، والأحوال التي تجوز فيها الخطبة، والأحوال التي تحظر فيها الخطبة شرع رحمه الله في بيان الميقات المستحب للخطبة، وهذا على ما اختاره.
قال رحمه الله: (ويسن) ، والسنة: الطريقة، والمراد بها هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان عليه، سواء ثبت بقوله أو فعله أو تقريره صلوات الله وسلامه عليه، فيقال: هذا من السنة، إذا ثبت به الدليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصل أن هذه العبارة لا ينطق بها إلا بحجة، فلا يقال: من السنة كذا، ولا يقال: يسن، إلا بدليل يدل على ثبوت ذلك الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حسب علمي في حديث صحيح أنه استحب النكاح يوم الجمعة أو دعا إليه أو رغب فيه، ويوم الجمعة يوم له فضله ولكن النص على السنية والحكم بكونه من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لا يخلو من نظر، ولذلك يبقى الأمر مطلقا كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلو قيل بسنية يوم الجمعة لتحرى الناس بخطبتهم يوم الجمعة، وهذا يؤدي إلى اعتقاد في اليوم، ولم يرد النص بهذا التقييد على هذا الوجه، فالذي يظهر أنه يتوقف أو يمنع من الحكم لكونه سنة حتى يثبت الدليل، ولا أعلم دليلا حسب علمي.
قوله: (بخطبة ابن مسعود) .
خطبة ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما قيل لها خطبة ابن مسعود لأنها جاءت من روايته رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم التشهد في الصلاة، والتشهد عند الحاجة: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ثم تذكر الآيات، منها آية آل عمران: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران:102] وآية النساء: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} [النساء:1] ثم يختم بآية الأحزاب: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} [الأحزاب:70 - 71] .
ثم يشرع بعد ذلك في خطبته، فيذكر مضمون خطبته من طلب نكاح المرأة، وإذا كان وليا للزوج كمن يريد أن يزوج ابنه الصغير ذكر ذلك وبين أنه يرغب بتزويج ابنه، أو كان وكيلا عن الزوج ذكر بعد هذه الخطبة ما يريده من طلب المرأة لموكله ونحو ذلك، فيبتدئ الخاطب ويذكر هذه الخطبة، ثم يذكر المضمون الذي يريده من طلب زواج المرأة ونكاحها، هذا بالنسبة للخاطب، وهل تكرر بالنسبة للمخطوب؟ قال جمع من العلماء: إنما تشرع للخاطب الأول ويقتصر على ذلك ولا حاجة أن يقول ولي المرأة هذه الخطبة، وإن قالها؟ قالوا: لا بأس بذلك لكن الأصل الوارد والأولى بالإتباع كما اختاره الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني أنه اقتصر في ذلك على الخاطب الأول.
أركان النكاح
الزوجان الخاليان من الموانع
قال رحمه الله: [فصل: وأركانه الزوجان الخاليان من الموانع، والإيجاب والقبول] .
قوله: (وأركانه) أي: أركان عقد النكاح؛ (الزوجان الخاليان من الموانع) .
من عادة العلماء رحمهم الله والفقهاء خاصة أن يعتنوا ببيان أركان العبادات وأركان المعاملات؛ لأن هذا مما يعين على التصور وفهم المسائل وضم بعضها إلى بعض، فإذا عرفت أركان العقد ضمت مسائل كل ركن إلى ما جانسها وشاكلها، ولذلك هذا التقسيم الذي درج عليه الفقهاء رحمهم الله يعين على التصور والفهم كثيرا، إضافة إلى أنه قد تترتب الأحكام الشرعية على معرفة الأركان في العبادة، وهي التي يحكم ببطلانها عند فقد واحد منها.
وقوله رحمه الله: (الزوجان الخاليان من الموانع) .
(الزوجان): مثنى زوج، والمراد بالزوجين هنا: الذكر والأنثى، ويختصان بجنس بني آدم فلا يشملان غيرهما، ومن هنا نص العلماء على أنه لا زواج بين الإنس والجن، ومسألة الزواج من الجنية نص بعض علماء السلف رحمهم الله على أنه لا يعتد به ولا يعتبر مثل هذا الزواج؛ لأن الله تعالى يقول: {وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء} [النساء:1] فبين الله تعالى أن الزوجة من الإنسان تكون له كما قال تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها} [الروم:21] فجعل الحكم خاصا على هذا الوجه، فدل على أنه لا زواج عند اختلاف الجنسين، ومن هنا قال الإمام مالك رحمه الله: (لو فتح هذا الباب لادعت كل زانية أنها منكوحة من جني، وفتح باب الفساد على هذا الوجه) .
وقوله: (الزوجان) قلنا: يشمل الذكر والأنثى، وعلى هذا ينظر في الخنثى؛ فإن تبين أنه رجل أعطي حكم الرجال، وإن تبين أنه أنثى أعطي حكم النساء، وإن أصبح مشكلا توقف فيه.
وقوله رحمه الله: (الخاليان من الموانع) .
الموانع: جمع مانع، والمانع هو: الحائل بين الشيئين؛ كالجدار ونحوه.
وأما في الاصطلاح: فالمانع هو الذي يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه وجود.
والموانع التي تمنع من النكاح تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: الموانع المؤبدة، وهي تشمل: مانع النسب، ومانع الرضاع، ومانع المصاهرة.
فأما مانع النسب فهو لسبع من النسوة: الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت؛ فهؤلاء سبع محرمات من جهة النسب على ظاهر آية النساء: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت} [النساء:23] وأما المانع الثاني: فهو مانع المصاهرة ويشمل أربعا: الأول: زوجات الآباء؛ وهي كل أنثى عقد عليها الأب أو أبوه وإن علا، سواء دخل بها أو لم يدخل لظاهر قوله سبحانه: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} [النساء:22] .
وزوجات الأبناء لقوله سبحانه: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} [النساء:23] وهي: كل أنثى عقد عليها الابن أو ابنه وإن نزل، سواء دخل أو لم يدخل؛ لأن المرأة تكون حليلة له بالعقد.
والثالثة: بنت الزوجة، وهي الربيبة سواء كانت في الحجر أو لم تكن في الحجر؛ أما إذا كانت في الحجر فلقوله تعالى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم} [النساء:23] ، وأما بالنسبة للتي ليست في الحجر فعلى ظاهر حديث أم حبيبة رضي الله عنها وأرضاها في الصحيح: (فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن) وخرجت الآية مخرج الغالب، والقاعدة: (أن النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه) .
وأما النوع الرابع: فهي أم الزوجة، وهي تحرم على زوج ابنتها لقوله تعالى: {وأمهات نسائكم} [النساء:23] وتحرم بمجرد العقد.
وأما بالنسبة للربيبة فإنها تحرم بشرط الدخول.
فهؤلاء أربع من المصاهرة وهو المانع الثاني من النكاح.
وأما المانع الثالث الذي يمنع النكاح: فهو الرضاع، ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) ، وعلى هذا فإن المرأة تحرم بواحد من هذه الثلاث الموانع إلى الأبد، فالأم حرام إلى الأبد، وهكذا البنت وبقية من ذكرنا، وقد تحرم المرأة إلى الأبد لعارض كما في زوجة الملاعن كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة عويمر العجلاني، وقصة هلال بن أمية لما قذف امرأته بـ شريك بن سحماء ففرق بينهما النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الزهري: مضت السنة أن يفرق بين المتلاعنين، فهذا مانع إلى الأبد لعارض.
القسم الثاني من الموانع التي تمنع النكاح: الموانع المؤقتة، فهذه موانع لها أسباب تزول بزوالها، فمنها: مانع الجمع؛ كالجمع بين الأختين، والجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، أما تحريم الجمع بين الأختين فلظاهر آية النساء: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} [النساء:23] وأما بالنسبة للجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها فلما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه نهى أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها) فهذا المانع -وهو مانع الجمع- يزول إذا طلق الأخت الأولى وخرجت من عدتها، وهكذا بالنسبة للعمة والخالة.
أما بالنسبة للنوع الثاني من الموانع المؤقتة: فهو مانع الشرك؛ لأن الله حرم نكاح المشركة والوثنية: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} [البقرة:221] فهذا مانع إلى أمد لقوله: {حتى يؤمن} [البقرة:221] والقاعدة: (أن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها في الحكم) فحرم نكاح الوثنية حال شركها وكفرها، فإن أسلمت زال المانع، ولا يحل نكاح مجوسية، قال صلى الله عليه وسلم: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم) .
كذلك أيضا من الموانع التي تكون إلى أمد: مانع المطلقة ثلاثا، فإنه يمتنع نكاحها حتى تنكح زوجا غيره وتذوق عسيلته ويذوق عسيلتها على ظاهر السنة، لحديث امرأة رفاعة رضي الله عنها وعنه.
كذلك أيضا من الموانع المؤقتة: الزوجية؛ وهو أن تكون زوجة للغير، لقوله تعالى: {والمحصنات من النساء} [النساء:24] فلا يحل نكاح المرأة إذا تزوجت، لكن هذا يختص بالنساء دون الرجال، فالرجل يجوز له أن ينكح إلى أربع.
كذلك أيضا هناك مانع مؤقت وهو: مانع العدد، فمن نكح أربعا من النسوة لم يحل له النكاح حتى يفارق واحدة منهن وتخرج من عدتها حتى لا تبقى في العصمة، فإذا مات لا يجمع في عصمته بين خمس.
فالمقصود: أن هذه الموانع تزول بزوال موجباتها وأسبابها، فإذا زالت حل النكاح، فلا نحكم بكون النكاح نكاحا شرعيا إذا خالف فنكح من منعه الله من نكاحه، فلو نكح محرما له لا نعتبره نكاحا وإنما يعتبر زنا والعياذ بالله، وهكذا نكاح بنته من الرضاع، أو أخته من الرضاع مع العلم بوجود الرضاع المؤثر، فالمقصود: أنه لا يحكم بكون النكاح نكاحا شرعيا إلا إذا كان الزوجان خاليين من الموانع؛ يشمل ذلك الموانع المؤبدة والموانع المؤقتة على التفصيل الذي ذكرناه.
الإيجاب والقبول
قوله رحمه الله: [والإيجاب والقبول] .
الركن الثاني: الإيجاب، والثالث: القبول.
على ما اختار الشارح، فقد جعل قوله: (الزوجان الخاليان من الموانع) الركن الأول، ثم جعل (الإيجاب) الثاني، (والقبول) الثالث.
بعض الفقهاء يقول: النكاح يقوم على ركن واحد وهو الصيغة، نظرا إلى أن الصيغة تفتقر إلى موجب وقابل، فالإيجاب والقبول يرد على محل، فلا خلاف بين القولين؛ لأن النتيجة واحدة والثمرة واحدة، وأين ما كان.
قوله رحمه الله: (الإيجاب) ؛ مثل قوله: زوجتك، أو نكحتك أو أنكحتك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أنكحتك هذه بما معك من القرآن) ، فالإيجاب قول الولي: زوجتك وأنكحتك، والقبول قول الزوج: قبلت ورضيت، ونحو ذلك من العبارات الدالة عن القبول والرضا.
والإيجاب والقبول هما ركنا الصيغة، والنكاح يفتقر إلى صيغة، ولا يمكن أن تتحقق إلا بالإيجاب والقبول، فإذا وجدت الصيغة: زوجتك بنتي فلانة، وقال: قبلت، فقد تمت، وحينئذ يترتب اللزوم، فلزوم العقد مترتب بوجود الصيغة الكاملة المستوفية للشروط المعتبرة، فإذا حصلت الصيغة على هذا الوجه صار النكاح لازما.
ألفاظ النكاح
قال رحمه الله: [ولا يصح ممن يحسن العربية بغير لفظ: زوجت، أو أنكحت، وقبلت هذا النكاح، أو تزوجتها، أو تزوجت، أو قبلت] .
الإيجاب والقبول لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون باللفظ العربي.
والحالة الثانية: أن يكون بغير العربية.
فأما إذا كان باللفظ العربي فإما أن يكون باللفظ الصريح وإما أن يكون باللفظ غير الصريح، وإن كان بلفظ العربية وقال: زوجتك، وهو اللفظ الصريح، فبالإجماع أن الصيغة معتبرة، فقد أجمع العلماء رحمهم الله على صحة النكاح باللفظ الصريح، وجعلوا للصريح لفظين: الأول: أنكحتك، والثاني: زوجتك، قال تعالى: {قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي} [القصص:27] فقال: (أن أنكحك) فالإنكاح يعتبرونه من صريح ألفاظ النكاح، كذلك أيضا الزواج، قال تعالى: {فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها} [الأحزاب:37] .
فيعتبر العلماء رحمهم الله لفظي الإنكاح والتزويج من الصريح، والإجماع منعقد على أن ولي المرأة إذا قال: زوجتك ابنتي فلانة، أو قال له: أنكحتك ابنتي فلانة، وقال الآخر: قبلت، فإن النكاح صحيح والصيغة معتبرة.
أما اللفظ غير الصريح مما يدل على إرادة النكاح إما بحسب العرف، أو تكون دلالة بألفاظ مخصوصة، وذكر العلماء رحمهم الله منها لفظ (ملكتك) وكذلك أيضا (وهبتك) و (أعطيتك) ونحو ذلك، فإن قال له: ملكتكها أو أعطيتكها أو وهبتها لك، فاختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين مشهورين: القول الأول: أنه لا يصح النكاح إلا باللفظ الصريح دون غيره، وهذا هو مذهب الشافعية رحمهم الله، واختاره جمع من أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.
والقول الثاني: أنه يصح بهذه الألفاظ وبكل ما دل على النكاح عرفا أو بسبب وجود القرينة كذكر مهر ونحو ذلك، وهذا هو مذهب الجمهور، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكذلك الإمام ابن القيم، وبين أن النصوص وهدي السلف الصالح رحمهم الله على عدم تقييد النكاح بلفظ معين؛ لأن العبرة في معرفة الرضا والوصول إليه، وقد تكلم على هذه المسألة بكلام نفيس في كتابه النفيس: (القواعد النورانية) عند بيانه لمسألة البيع بالمعاطاة، وذكر أن السلف الصالح رحمهم الله ما كانوا في العقود يقتصرون على ألفاظ معينة بل كانوا ينزلون دلالة الظواهر والأعراف منزلة الألفاظ الصريحة، ومن أمثلة ذلك مما اشتهر: كمن بنى مسجدا وفتح أبوابه، وكمن أخرج صنابير الماء للسقيا والشرب، فإن هذا كله يدل على الإذن، قال: فتنزل هذه الدلائل العرفية منزلة الألفاظ القولية، ولن يحصر النكاح بلفظ معين، وأكد هذا بما ثبت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله في حديث الواهبة: (أملكتكها بما معك من القرآن) .
وفي لفظ: (ملكتكها بما معك من القرآن) .
وعلى هذا القول الراجح الذي دلت عليه السنة ودل عليه هدي السلف الصالح: أنه يصح النكاح بكل لفظ يدل على الرضا، حتى ولو جرى العرف بألفاظ ليست من صريح النكاح، فإنه يحكم بالاعتداد بها واعتبارها.
الحالة الثانية: أن يكون الزوج والولي لا يحسنان العربية، فهل يجب عليهما أن يتعلما العربية حتى ينطقا باللفظ المخصوص، أم أنه يصح النكاح بما يدل عليه في لغتهم؟ فمقتضى ما سبقت الإشارة إليه من كلام شيخ الإسلام رحمه الله وهذا يختاره جمع من المحققين: أن من لا يحسن العربية يزوج باللفظ المعروف في عرفه، وأنه يكفي ذلك، ولا يجب عليه أن يتعلم الألفاظ العربية في النكاح بل يزوج بالألفاظ التي عرفت في لسان قومه ولغتهم.
حكم من جهل ألفاظ النكاح
قوله: [ومن جهلهما لم يلزمه تعلمهما وكفاه معناهما الخاص بكل لسان] .
هذا هو الذي تقدمت الإشارة إليه من أنه لا يشترط أن يتقيد باللفظ العربي، بل إن الألفاظ الغير العربية تنزل منزلة الألفاظ العربية؛ لأن العبرة بوجود الرضا، وإذا خطب الرجل بلسان قومه وأجيب فإن هذا يدل على الرضا كما لو خطب بالعربية، فالعبرة بوجود الرضا الذي تنبني عليه العقود ويحكم باعتبارها بسبب وجوده.
وعلى هذا فيصح بغير العربية كما يصح بالعربية بجامع وجود الرضا.
حكم تقدم القبول على الإيجاب والعكس
قال رحمه الله: [فإن تقدم القبول لم يصح] : بعد أن بين رحمه الله لزوم الإيجاب والقبول، وبين نوع الإيجاب والقبول من حيث اللغة واللسان، شرع في مسألة تقدم الإيجاب على القبول والعكس، فالأصل أن الإيجاب يسبق القبول، يقول ولي المرأة: أنكحتك ابنتي فلانة بعشرة آلاف مثلا، فيقول الزوج: قبلت، أو يقول وكيله: قبلت أو رضيت، فحينئذ تقدم الإيجاب وترتب القبول عليه، وعلى هذا فبإجماع العلماء: أنه إذا وقعت الصيغة على هذا الوجه أن النكاح صحيح والعقد معتبر؛ لأن الأصل في الإيجاب أن يتقدم على القبول، سواء جاء بصيغة الإنكاح أو التزويج أو غيرها، المهم أنه إذا سبق الإيجاب القبول اعتد به.
وأما إذا حصل العكس، وهو أن يتقدم القبول على الإيجاب كقول الزوج: زوجني ابنتك فلانة.
قال: قبلت.
أنكحني ابنتك فلانة، قال: قبلت.
فللعلماء في هذه المسألة قولان مشهوران: القول الأول: أنه لابد من ترتب القبول على الإيجاب، وبهذا القول قال فقهاء الحنابلة رحمهم الله.
والقول الثاني: أنه يجوز تقدم القبول على الإيجاب، ولا بأس في ذلك، وهو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله.
بناء على هذا: يجوز أن يتقدم القبول على الإيجاب، وهذا بلا إشكال؛ لأن المقصود حصل بذلك، فإنه إذا تقدم القبول على الإيجاب استفيد منه ما استفيد من ترتب القبول على الإيجاب، وعلى هذا يستوي أن يتقدم الإيجاب على القبول أو يتأخر عنه.
قوله: [وإن تأخر عن الإيجاب صح ما داما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعهما] .
من مسائل الإيجاب والقبول أن الأصل أن يقع القبول بعد الإيجاب، فإذا قال له: زوجتك ابنتي فلانة بعشرة آلاف مثلا، قال: قبلت، فإنه ينبغي أن يكون القول: قبلت في الأصل مرتبا على الإيجاب بحيث لا يقع الفاصل المؤثر بينهما، فإذا وقع الفاصل؛ فتارة يكون بالأقوال وتارة يكون بالأفعال.
فأما الفاصل بالأقوال: أن يقول له: زوجتك ابنتي فلانة بعشرة آلاف مثلا، فلا يجيبه الزوج أو الخاطب بالقبول، ثم يتكلمان في أمر غريب خارج عن هذا الأمر من بيع أو إجارة أو سؤال عن حال أحد، ثم بعد ذلك يقول: قبلت، فإذا وقع الفاصل الأجنبي من هذا الكلام الأجنبي فيعتبر فاصلا مؤثرا عند من يرى تأثير الفصل، وأما إذا كان الفاصل من الأقوال من جنس الخطبة ومن جنس الإيجاب والقبول، بمعنى أن يكون في شأن النكاح مثل أن يقول له: زوجتك ابنتي فلانة بعشرة آلاف، قال: كم عمرها؟ وأين عملها؟ وأخذ يسأل عن أمور تتعلق بها وطالت الأسئلة، ثم لما أجابه عنها قال: قبلت، فنص طائفة من العلماء على أن هذا الفاصل لا يؤثر؛ لأنه داخل في الإيجاب والقبول وليس بأجنبي.
وأما بالنسبة للفصل بالأفعال: فمثل أن يخرج من مجلس العقد، كما لو قال: زوجتك ابنتي فلانة، فيخرج الخاطب ويفترق عن المجلس ثم يرجع ويقول: قبلت، فقالوا: إنه إذا خرج عن المجلس فقد انقطع القبول عن الإيجاب؛ لأن الأصل في العقود أن تكون في المجلس، ولذلك جعل الشرع الخيار للمجلس، أما إذا افترقا عن المجلس صار خروجه عن المجلس قبل قبوله بمثابة الإعراض، فلابد من إنشاء إيجاب جديد وقبول جديد.
قال رحمه الله: [وإن تفرقا قبله بطل] .
أي: قبل القبول، وقوله: (بطل) يعني: الإيجاب، وعلى هذا فإنه لا يصح أن يأتي بعد المجلس ويقول: قبلت؛ لأن التفرق يرفع حكم المجلس الأول وما كان فيه من إيجاب.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.