عرض مشاركة واحدة
  #544  
قديم 15-05-2025, 06:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي



تعريف النشوز
قال رحمه الله تعالى: [فصل: النشوز معصيتها إياه فيما يجب عليها] .
بعد أن بين رحمه الله حقوق الزوج على زوجته، وحقوق الزوجة على زوجها، شرع فيما يعترض أداء هذه الحقوق، وفيما يخالف القيام بالحقوق، وهو ما يسمى بالنشوز، والنشوز يكون من الزوج لزوجته، ويكون من الزوجة لزوجها، ويكون من الطرفين معا، فإما أن تكون المرأة هي الناشز على زوجها، أو يكون الرجل هو الناشز على زوجته، أو يكون الطرفان ناشزين، فهذه كلها أحوال للنشوز.
وأصل النشوز من نشز الشيء إذا كان مرتفعا، والمراد به: أحوال تكون من الرجل، وتكون من المرأة مخالفة لشرع الله، يستعلي بها أحد الزوجين على الآخر، فالرجل يستعلي بها على المرأة لمنعها من حقوقها، والمرأة تستعلي بها على الرجل بإضراره في حقوقه، وهو من أسوأ ما يكون في العشرة الزوجية، وبه تفسد الحياة الزوجية.
ولذلك بين الله عز وجل نشوز الرجل على المرأة، فقال تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا} [النساء:128] ، وبين نشوز المرأة على زوجها، فقال سبحانه: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا} [النساء:34] ، وبين الحكم في حال وجود الشقاق بسبب نشوز الطرفين، فقال تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها} [النساء:35] ، فما ترك كتاب الله شيئا، ولقد كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: ما من شيء في هذه الحياة إلا وهو في كتاب الله، بين الله حكمه، وبين الله ما يجب على المسلم تجاهه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، حتى الحقوق، فقد بين القرآن الأثر المترتب على أدائها والأثر المترتب على الإخلال بها.
فقوله رحمه الله تعالى: [النشوز معصيتها إياه] يعني معصية الزوجة لزوجها.
[فيما يجب عليها] هذا بيان لمحل المعصية، أي: ما يجب له عليها من الحقوق، وعلى هذا لا يمكن أن نصف المرأة بأنها ناشز في المستحبات والفضائل، كرجل احتاج إلى مال قرضا، وعند زوجته مال، فقال لها: أقرضيني، فقالت: لا أقرضك! فلا يقال: إنها ناشز؛ لأنها إن أقرضته ففضل منها، وإن لم تقرضه فعدل، فهذا حقها، وهي ما ظلمته، ولا ظلمت نفسها، فلا يقال: إنها ناشز إن منعت فضلا، إنما تكون ناشزا إذا منعت فرضا واجبا له عليها كما ذكر رحمه الله تعالى.
مراحل النشوز وطرق علاجه
جعل بعض العلماء للنشوز مرحلتين: الأولى: مرحلة المقدمات للنشوز، ودلائل النشوز التي لا يظهر بها، ولا تظهر المرأة معها الإعراض عن الزوج علانية، وإنما فيها أمارات ودلائل تدل على أن هناك أمرا تخفيه المرأة، وعندها يتوجس الرجل من المرأة خيفة كما أشار الله تعالى إليه في قوله تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن} [النساء:34] .
الثانية: أن يقع النشوز فعلا، فتعصي المرأة زوجها علانية كأن تقول له: لا تطأ لي فراشا، أو لا يمكن أن تطأني، ولا تقربني ونحو هذا، فحينئذ تنشز تماما، فأصبحت هناك مرحلتان: مرحلة مقدمة للنشوز، ومرحلة يقع بها النشوز حقيقة، ومرحلة المقدمة للنشوز تكون أيضا على حالتين: الحالة الأولى: أن تبدو العلامات دون إصرار، والحالة الثانية: أن تبدو العلامات مع شيء من الإصرار، مع كونها مطيعة إذا دعاها إلى فراشه.
فهاتان الحالتان في المقدمات، وبناء على ذلك قسم بعض الفقهاء -كما درج عليه الشافعية ومن وافقهم- المسألة إلى ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: الأمارة والعلامة على النشوز.
والمرتبة الثانية: العلامة والأمارة مع الإصرار، دون امتناع عن الفراش.
والمرحلة الثالثة: النشوز الكلي.
أما المرتبة الأولى: فظهور الأمارات، فتكون أول أمرها مطيعة له إذا أمرها، وسامعة له إذا دعاها، ومجيبة بكل ما يطلبه، ثم تنقلب على العكس، فإذا أمرها لم تأتمر، وإذا دعاها أتت متأخرة، وإذا طلب شيئا منها فإذا بها تلوي وجهها، وتحدث نوعا من الظواهر والأمارات على ظاهرها، مما يدل على أنها متبرمة ساخطة لهذا، فهذه هي مرحلة بداية النشوز التي قال الله تعالى عنها: {واللاتي تخافون نشوزهن} [النساء:34] ، فهذه مرحلة الخوف.
أما المرحلة الثانية فهي إصرارها على المعصية، فيعظها ويذكرها بالله تعالى، ويقول لها: اتقي الله فإنه لا يجوز لك هذا، وإني أرى منك كذا وكذا، فإن كان الذي رآه من العلامة مرة أو مرتين فقد تكون مريضة، أو قد يكون لها عذر، كأن ترى منه شيئا لا تستطيع أن تجابهه به، فإذا جاء يعظها ويذكرها بالله فانكسر الذي في قلبها فاطمأنت، ورجعت إلى حالها الأول فلا إشكال، وحينئذ يتلافى هذا؛ لأن الوعظ كان تأديبا لها، فإن أصرت فذلك يدل على أن هناك شيئا تخفيه، فإذا طلب منها أن تناوله الشيء جاءت به إما متوانية متكاسلة وعادتها السرعة، أو جاءت به فوضعته بقوة وعادتها أن تضعه بين يديه، وكررت ذلك المرة تلو المرة وهو يذكرها وهي تصر فتصبح في مرحلة الإصرار.
وأما المرحلة الثالثة فهي عصيانها الفعلي، كأن يقول لها: لا تفعلي هذا، أو: هذا لا يجوز، فتقول له: ليس لك من شأن، وتعترض عليه.
ففي الحالة الثانية تكون مجيبة له إلى الفراش، فإذا جابهته وجابهها، وانكشف الأمر بينهما وامتنعت عن فراشه، فقد انتقلت للمرحلة الثالثة، وهي غاية النشوز.
هذا تقسيم لطائفة من أهل العلم، وفائدة هذا التقسيم عندهم أن الأحكام تترتب على حسب هذه المراحل الثلاث.
فالله تعالى يقول: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن} [النساء:34] ، فإن بدت المرحلة الأولى، أو العلامة الأولى شرع الوعظ، وإن بدت العلامة الثانية وهي الإصرار بعد الوعظ هجرها في المضجع، وإن بدت العلامة الثالثة، فأصرت على إعراضها، وعلى أذيتها، فإن دعاها إلى فراشه فلم تأت ولم تجب، انتقلت إلى حكم الثالثة فضربت، فيجعلون العقوبات مرتبة على المراحل الثلاث، ويجعلون الآية مجزأة على أحوال النشوز، كما جزءوا آية الحرابة على أحوال المحاربين في قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} [المائدة:33] ، فجعلوا هذه العقوبات مختلفة بحسب اختلاف قطع الطريق والحرابة، وهذا مذهب الشافعية ومن وافقهم.
وكذلك هنا، فالمرأة يبتدئ نشوزها بعلامة يحتمل أنها نشوز، ويحتمل أنها عفوية، أو لسبب من خطأ منه تذكره به، فيصلح خطأه، فتصلح هي خطأها، فهذا بالنسبة لوعظهن.
فالمرحلة الأولى: أن تظهر منها العلامة دون إصرار في المرة الأولى، والمرة الثانية، وفي المرة الثالثة ينبهها.
وليس المراد أنه بمجرد ما يرى من المرأة شيئا ينبهها مباشرة ويذكرها، فعلى الرجل أن يكون حكيما وأن يجعل الموعظة عند الموجب، وأن لا يضخم بعض الأشياء؛ فإن الناس تنتابهم بعض العوارض، وأنت بشر، فكما ترى في غيرك الخطأ، فغيرك يرى فيك الخطأ.
فليس كل فعل من المرأة، وكل قول يفسر بأنه نشوز، أو أنه مقدامات النشوز، وليس من اللائق أن يجلس الرجل يراقب كل صغيرة وكبيرة من المرأة، فإن الناس إذا كانوا على غفلتهم، فقد يكونون في مأمن من هذه الأمور.
فالمقصود: أن الإنسان بعد هذا لا يراقب مراقبة دقيقة، حتى ينظر أمارات النشوز، وإنما يكون الأمر محتفا بقرائن ودلائل من المكان، والزمان، والملابسات بالقول والفعل، الذي يصدر من المرأة، فيغلب على ظن الإنسان أنه بداية النشوز فيعظها.
والوعظ هو التذكير بالله تعالى، ومثل العلماء له بقوله لها: اتقي الله، وخافي الله عز وجل، ويا فلانة إن الله سائلك عن حقي عليك، فلا يجوز لك أن تتبرمي، ولا أن تتسخطي، يا فلانة إنك تفعلين كذا وكذا، وإن هذا لا يعجبني فاتقي الله في، أو نحو ذلك من الكلمات التي يذكرها فيها بالله عز وجل.
وهذا من حكمة الله عز وجل، وقد نبه عليه الذين لهم عناية ببحوث التربية، كما نبه عليه القدماء، وذكرته كتب الأدب، فقالوا: إن العقوبة أبلغ ما تكون، وأكمل ما تكون، وأوقع ما تكون في النفوس، وأثرها محمود إذا سبقت بإعذار، وهو أن تنبه المخطئ، وتعذر إليه، وتقول له: إياك أن تفعل، أو هذا الفعل خطأ، وقالوا: إن الصبي إذا نبهه والده في المرة الأولى، فقال له: إياك أن تفعل، فلا يقل له إذا كان في الأمر سعة: إن فعلت فسأضربك، بل يقول له في المرة الأولى: إياك أن تفعل، فإن رآه المرة الثانية يفعل ما نهاه عنه قال له: إن فعلت فسأضربك؛ لأنه إذا قال له: إياك أن تفعل، فأخطأ فسامحه شعر بحنان الأبوة ورحمة الأبوة، فإذا كررها مرة ثانية، فقال له: إن فعلت فسأضربك، فقد وعده، قالوا: فإن فعل فلا يتركه بل يضربه؛ فإنه إذا ضربه في الثالثة كان من أنجع ما يكون؛ لأنه لو تركه في الثالثة استمرأ الصبي، واستخف بوعيده، فأصبح إذا هدده لا يبالي بتهديده؛ لأنه ألف منه المسامحة، لكن إذا توعده، ووفى بوعيده، زجره ذلك.
ولذلك قال تعالى: {فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن} [النساء:34] فجعل العقوبة بعد الإعذار، وجعل الهجر للمضاجع -وهي العقوبة المتوسطة بين عقوبة الوعظ وعقوبة الضرب- جعلها كمجال للإصلاح، ومن هنا قال بعض العلماء: إن المرأة المحبة لزوجها إذا أعرض عنها زوجها تأثرت بذلك، وشعرت بخطئها، فأصلحته، وغيرت من حالها، واستقامت الأمور، فإن كانت غير محبة، فإنها تحتاج إلى من يشعرها بهذا الزوج، وتحتاج أن تنبه من غفلتها، وأن توقظ من سباتها بالقوة؛ لأن من لا تزجره الكلمة تزجره اللكمة، كما يقولون.
فإذا جاءها بالتي هي أحسن، وأعذر إليها، وأصرت، فحينئذ يضربها؛ لأنها لو تركت بدون عقاب لضاعت البيوت، وأصبحت البيوت هملا، والرجال قوامون على النساء.
وهذا -كحق من الحقوق- إنما هو في شواذ النساء، وإلا فالأصل في المؤمنة أنها لا تحيل زوجها إلى هذا، ولا تلجئه إلى هذا؛ لأن عندها من العقل، ومن خوف الله عز وجل ومراقبته ما يعقلها ويمنعها عن هذه الأمور، فإذا وعظها، وذكرها بالله، انتقل إلى الهجر.
والهجر للعلماء فيه وجهان: فمن أهل العلم من قال: إنه الوثاق، وهذا مأثور عن ابن جرير الطبري، ورجحه، من أجل الضرب، فجمع بين الهجر والضرب، حتى يكون أبلغ في التأديب، واختاره الإمام ابن جرير لحديث أسماء مع الزبير، أن الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه ضرب أسماء مع ضرتها حين وقع منهما ما وقع من أذيته رضي الله عنه وأرضاه، فالشاهد: أنه أخذ من هذا الأثر تفسير الآية الكريمة؛ لأن الهجار هو وثاق البعير، فقال هو ومن معه من العلماء في قوله تعالى: {واهجروهن} [النساء:34] أنه من الربط أثناء الضرب فقرن بين الهجر والضرب، فليس هناك إلا مرحلتان: الوعظ والعقوبة على هذا القول.
وأما على القول الثاني وهو قول الجمهور الذين قسموا المراحل إلى ثلاث -كما ذكرناها- فالعقوبات ثلاث: يبتدئ بالوعظ ثم الهجر، والهجر عند من يقول: إنه هجر الفراش فيه وجهان: فقال بعض أئمة السلف وأئمة التفسير، والفقهاء: يوليها ظهره في الفراش فيهجر جماعها، فهذا هجر بالفعل، ويهجر كلامها بالقول، فيمكنه أن يستخدم الفعل إذا نفع، ويمكنه أن يجمع بين الفعل والقول، والقول يتأقت، والفعل لا يتأقت، ففي الفعل يجوز أن يهجرها في المضجع شهرا لا يجامعها، وشهرين وثلاثة، ما لم يصل إلى حد الإيلاء، وأما بالنسبة للهجر هجر القول، وهجر الكلام، فلا يجوز أن يهجر فوق ثلاث ليال لورود النص.
وقال آخرون في الهجر: إن الهجر هجر الفراش بالكلية، ولا ينام معها في فراش واحد، وينام في غرفة غير غرفتها التي تنام معه فيها، ولربما هجر البيت فنام عند جاره، أو نام عند أخيه، أو عند أهله، فهذا من الهجر، وكله تحتمله الآية؛ لأن الهجر مطلق في القرآن، والنساء يختلفن، فمنهن من يهجرها بالقرب ويؤثر فيها، ومنهن من لا تهجر إلا بالبعد، فما وجده ناجعا نافعا لصلاحها وإصلاحها، ووفقه الله عز وجل في ذلك، فإنه لا بأس به.
ضرب الزوجة في النشوز
وأما الضرب في قوله تعالى: {واضربوهن} فإن ضرب النساء يشترط فيه ما يلي: أولا: ألا يكون ضرب قتل.
ثانيا: ألا يكون ضرب إدماء.
ثالثا: ألا يكون ضربا مزمنا.
رابعا: ألا يكون ضربا مشينا.
فهذه أربعة أنواع من الضرب ينبغي اتقاؤها.
أولا: أن لا يكون الضرب قاتلا، وضرب القتل: هو أن يضربها في مقتل، أو يضربها بآلة قاتلة، فلا يأتي أحد ويأخذ آلة قاتلة، مستدلا بقوله تعالى: (واضربوهن) ، بل هذا قتل، ويضمن بهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، ولا يضرب في مقتل وهي الأماكن التي لو ضرب فيها أدت إلى القتل، كأن يضربها على كبدها، أو يضربها على أماكن قاتلة، فهذا يوجب الضمان، أي: يوجب العقوبة، فهذا ضرب القتل.
ثانيا: ألا يكون ضربا مدميا، وهو الضرب الذي يجرح، كأن يضربها بشيء كالسلك أو نحوه، مما يجرح الجسم ويدميه، والآلات الحادة، كأن يجرحها بسكين، أو يجرحها بشيء له نفوذ في البدن، فهذا لا يجوز بإجماع العلماء رحمة الله عليهم.
ثالثا: ألا يكون الضرب مزمنا، والضرب المزمن هو الذي يعيق بعض الأعضاء، كأن يضربها على يدها فتصاب يدها بالشلل، أو تجلس فترة لا تستطيع أن ترفع يدها، فهذا ضرب يزمن اليد، أي: يبقى أثره زمنا؛ لأنه ضرب مبرح، فهذا بالنسبة للمزمن.
فإذا: يشترط ألا يكون قاتلا، وألا يكون جارحا، وألا يكون مزمنا.
رابعا: ألا يكون مشينا، والضرب المشين هو الذي يبقى أثره في البدن، ولا يقتل ولا يجرح؛ لكن يضربها -مثلا- بقوة على بدنها حتى يحمر البدن، فإذا احمر فهو الضرب المشين، وحينئذ لا يجوز له هذا النوع من الضرب، وإنما يضرب الضرب من لكز ونحوه، الذي لا يكون فيه قتل، ولا جرح، ولا زمانة، ولا يشين، وهكذا لطم الوجه، فإنه لا يجوز لطم الوجه، فقد نهي عن لطم الوجه، وهكذا لو كان الضرب شديدا، فإذا ضربها بقوة بحيث بقيت آثار ضربه على وجهها، فهو ضرب مزمن.
خير الناس من يحتمل زوجته ويصبر عليها
فالضرب إذا وقع من الزوج لزوجته، وظهرت آثاره على جلدها، فإن هذا خارج عما أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى لا يأمر بالضرب على هذا الوجه، إنما المقصود ضرب الأدب، والمرأة تعي هذا الأمر، فليس المراد من هذا استعلاء الرجال على النساء، وإنما المراد حملها على الخير؛ خير دينها ودنياها، بإصلاح أمرها بالقوة، ولا شك أن هذا الضرب إذا كان ضربا شرعيا يكون له أثره، والصحابة رضوان الله عليهم ضربوا، ووقع الضرب منهم لنسائهم، ولكن إذا كمل الرجل وفضل، ورزقه الله عز وجل الألفة والمحبة والعقل والبصيرة، فإنه لن يصل إلى مثل هذه الأمور، ويعيش مع زوجته دون أن يرفع يده يوما عليها، وهذا صنيع الكرام وهم خيار الأمة، فخيارنا من وفق لحسن الخلق حتى أصبح يملك زوجته بالمشاعر، ولذلك لما أكد النبي صلى الله عليه وسلم على الأخلاق، وأتى في الأخلاق بباب عام تحتاجه الأمة، قدم الأخلاق مع الأهل أولا، فقال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) .
فالرجل الذي يوفق للإحسان إلى زوجته مع التعقل في ذلك الإحسان، بحيث لا يكون سببا في إفراطها في الدلال والضياع، ويكون إحسانا متعقلا، فإن الله سبحانه وتعالى يرزقه المحبة التي معها الهيبة، وشتان بين هيبة بالقوة وبين هيبة بالمحبة.
كما قال القائل: أهابك إجلالا وما بك قدرة علي ولكن ملء عين حبيبها فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يضرب الناس، ولا ضرب إلا في الجهاد في سبيل الله عز وجل؛ ولكن كان إذا سخط الشيء عرف في وجه، فلم يكن صخابا، ولا سبابا، ولا لعانا، صلى الله عليه وسلم، وإنما كان يعامل الناس بالمشاعر.
فالرجل الكريم الإلف المحبوب الذي يعاشر زوجته بالمعاشرة الطيبة الحميدة الكريمة إذا لوى وجهه عنها أحست بمرارة الحياة، حتى إن بعض النساء تقول لزوجها: اقتلني ولا تعرض عني، من كمال محبتها له؛ لأنه ملك مشاعرها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن بأخلاقكم) فالخلق يملك القلوب.
فإذا كان الرجل يريد أن يقيم بيته فليعلم أن البيوت ليست ميادين القوة والشدة والعنف، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه) ، فالرفق خير للأمور، وصلاح لها، إذا كان موضوعا في موضعه، وعلى الإنسان أن يجتهد.
والعلماء يقولون: إن أكثر ما يحفظ الله به الإنسان عن أذية الأهل، وأذية الأهل له: كثرة الطاعة، فإن العبد الصالح المتقي لله عز وجل يحفظ من أذية أهله، ولو آذاه أهله يعصمه الله عز وجل من الزلة والأذية والإضرار، فيبقى صابرا حتى يأتيه الفرج، ولذلك ذكروا عن زكريا عليه السلام أنه كانت امرأته تسبه وتشتمه وتؤذيه وتضره، وهو نبي من أنبياء الله، كما قال تعالى عنه: {ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه} [الأنبياء:90] ، فأصلح الله له زوجه في آخر عمره، وحين تقرأ في تراجم العلماء والفضلاء تجد من أخلاقهم مع أهلهم وصبرهم عليهم شيئا كثيرا، حتى قالوا: ليس من حكيم إلا ووراءه امرأة تؤذيه؛ من كثرة ما رأوا؛ لأنه إذا أوذي واضطهد من امرأته أصبح حكيما، وهذا من المبالغة، وليس بحقيقة، ولكن مما جرب وشوهد وعلم أنك تجد العلماء والفضلاء والكرماء والعظماء تغلبهم النساء، فما للمسلم إلا الصبر واحتساب الأجر عند الله سبحانه وتعالى، فإذا استرجع وفوض الأمر إلى الله، فإن الله يتولى أمره.
من نزلت به فاقة، وألمت به حاجة، وضاقت عليه الأمور، فتوكل على الله، وفوضها إلى الله، وتضرع إلى الله، فلن يمضي عليه فترة إلا وقد أراه الله بهجة سرور في أهله وزوجه، ومن يصبر يصبره الله، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وجدنا ألذ عيشنا بالصبر.
فالمرأة من ينظر إلى حالها في بيتها وشؤونها، وتشتت فكرها في هذه الأمور، وفي أولادها، وفي شؤونها، يتنازل عن كثير، ويصبر على كثير، وهذا هو الذي عناه عمر رضي الله عنه حينما جاءه عقيل يشتكي من زوجه، فلما وقف على الباب سمع امرأة عمر تسب عمر، وهو إنما جاء ليشكو أهله إلى عمر، فوقف في الباب فوجد أن أمير المؤمنين يسب من زوجه فرجع؛ لأنه رأى عظة له وسلوة عن الشكوى، فرآه عمر رضي الله عنه فدعاه، فلما جاء قال: ما حاجتك؟ قال: خيرا يا أمير المؤمنين، قال: عزمت عليك إلا أخبرتني، فقال له: يا أمير المؤمنين! إن أم فلان آذتني، فلما وقفت في الباب سمعت زوجتك تسبك! فقال عمر رضي الله عنه: يا عقيل! إنها أم أطفالي، تغسل ثوبي، وترضع صغيري، فأنا أمسكها لأجل ذلك، أي: كن حكيما عاقلا بعيد النظر، فإن الدنيا ليس فيها شيء كامل من سرورها إلا ما كان من ذكر الله عز وجل.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه) فليس هناك شيء كامل في هذه الدنيا، فما يرى الإنسان من بهجة الدنيا شيئا أو سرورا إلا جعل الله فيه نغصا.
فانظر إلى أحوال الدنيا كلها، فإنك تكون -مثلا- في البر، فتجد طيب الهواء، وأجمل ما تكون المناظر في طبيعتها، وتلتذ بأنسك وانبساطك، فتخرج لك حية من الأرض، أو تخرج لك العقرب، فتعاف البر بما فيه، وترى أن المدن أحسن، فإذا ذهبت إلى المدن، وتنعمت براحتها وسرورها جاءك نكدها ونغصها، وذلك حتى لا يركن المؤمن إلى الدنيا.
مسرة الدنيا إلى تنغيص وربما أعيت يد الحريص لأنها لو كانت كلها سرورا فلربما -والعياذ بالله- اطمأن إليها العبد فهلك، لكن الله لطف بعباده فجعل مسراتها إلى تنغيص، ومهما وجد من زوجته وأولاده سرورا فلابد أن يرى يوما يبكي فيه بمرارة؛ حتى يبقى سروره بالله وحده لا شريك له، فيجد أن المحبة الكاملة ينبغي أن تكون لله، وأن السرور الكامل كله لا يكون إلا لله.
وهكذا الزوجة، فإن المرأة تسر بزوجها وتفرح، حتى إذا جاءها يوم من الأيام تغير ذلك السرور، وذهبت تلك البهجة، وقد يكون سرور الزوج لحاجة ومتعة، لكن المؤمنة إذا تسلت بالله، وقامت بذلك الزوج، وحملته ودبرت -بتوفيق الله ومعونته- شؤونه وأحواله وأموره وأولاده وأطفاله، وحملت الهموم والغموم، وهي لا تنتظر منه شكرا، ولا تنتظر منه ثناء، إنما تنتظر من الله جل جلاله، فاليوم الذي ينقلب لها فيه ظهر المجن لا يتغير عندها شيء، فتجدها راضية مطمئنة فرحة حتى بالبلاء؛ لأن الإنسان إذا سر بسرور الدنيا أبكاه الله، فلا ينبغي للإنسان أن يكون سروره سرور المطمئن الغافل، وإنما إذا رأى بهجة الدنيا قال: الحمد لله، فذكرته بهجتها بما عند الله عز وجل.
ولذلك يقولون: إن يعقوب عليه السلام أحب ابنه يوسف عليه السلام، فعذبه الله بحبه، وفارقه حتى فقد بصره من البكاء عليه، فالإنسان إذا أحب شيئا من هذه الدنيا، وركن إليها، بمعنى أنها عظمت محبتها في قلبه، فإنه لابد أن يرى يوما يبكي فيه من تلك المحبة، فنسأل الله العظيم أن يجعل قلوبنا مملوءة بمحبته، وأن يجعل لنا من حبه وبره وشكره والرضا به أعظم حظ ونصيب.
حالات المعالجة بالوعظ والهجر
قال رحمه الله تعالى: [فإذا ظهر منها من أماراته، بأن لا تجيبه إلى الاستمتاع، أو تجيبه متبرمة أو متكرهة، وعظها، فإن أصرت هجرها في المضجع ما شاء، وفي الكلام ثلاثة أيام، فإن أصرت ضربها غير مبرح] قوله رحمه الله تعالى: [فإن ظهر منها] أي: من الزوجة.
[من أماراته] جمع أمارة، وهي العلامة، والضمير في (أماراته) عائد إلى النشوز.
[بأن لا تجيبه] أي: إذا دعاها إلى فراشه، أو كانت تجيبه من أول نداء، فأصبحت تجيبه من الثاني، أو الثالث، وربما تأخرت إلى الرابع، وإن شاءت إلى الخامس، فهذه كلها أمارات على النشوز؛ لأنها كانت تجيبه من أول نداء فأصبحت لا تجيبه إلا بعد رأي يدل بوضوح على أنها تنوي نية النشوز، وأنها تسترسل من هذا إلى ما وراءه، فينطبق عليها قوله تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن} [النساء:34] فيشرع الوعظ.
وقوله: [أو تجيبه متبرمة] أي: تفعل ما يدل على عدم الطاعة ويظهر ذلك من وجهها وفعلها، كأن يقول لها: ائتيني بالكتاب أو ائتيني بالصحن، أو ائتيني بالطعام، فتأتي وتضع الطعام بقوة بين يديه، أو تضع الشيء بين يديه بقوة، فهذا واضح -جدا- على أنها لا تريد طاعة.
وقوله: [أو متكرهة] بمعنى: أن تظهر عليها أمارت الكره، مثل ما ذكرنا من عبوس الوجه، وكذلك أيضا التأفف، والتأوه، والتضجر.
ويذكر العلماء هذه الأمثلة، لأنك تحتاج إلى ذلك في الفتوى، وتحتاجه في القضاء، فالشخص إذا جاءك وقال: إنه يحصل كذا وكذا، فإنك تبحث عن الأمارات، وتسأل عما يكون من المرأة، حتى تستطيع أن تعطي كل حالة حكمها، وهذا -كما ذكرنا- لأن المتون الفقهية يعتني فيها العلماء رحمهم الله بهذه المسائل إعانة على الفتوى وإعانة على القضاء.
وقوله: [وعظها] من الموعظة، وهي الكلمات المؤثرة، والموعظة تكون بالقرآن، كأن يتلو عليها آيات من كتاب الله عز وجل، أو أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك فرق في مقاصد الوعظ، فإذا وعظت لله فإنها موعظة ومؤثرة، وإذا وعظت لحظ نفسك فإنها موعظة لكنها لا تؤثر؛ لأنها موعظة الظاهر، وأنت في الباطن لا تريد إلا حظ نفسك، ولذلك تجد الرجل يرى أخاه، أو قريبه على المنكر فيقول له: يا أخي! اتق الله، إني أخاف عليك النار، ويتذكر أنه أخوه، ويخشى أن يفرق بينهما في الآخرة، وكأنه يراه في عرصات يوم القيامة وقد افترقا، فيخاف عليه خوفا شديدا، فتجده يدعوه إلى الله تعالى بصدق فتقع الكلمات في قلبه فيهتدي.
وتجد آخر يأتي ويقول له: يا أخي فضحتنا، وشهرت بنا، وفعلت وفعلت، فقد فضحت بيتنا وفضحت أسرتنا فانتقل من الوعظ إلى حظ نفسه وأهله وبيته، فلا يبارك الله في قوله، فنصحه لأخيه ليس من باب الهداية، وإنما من باب أنه فضح وأنه اشتهر، فتكون عاطفة الدنيا أكثر من عاطفة الدين، فالذي يعظ المرأة لا ينبغي له أن يعظها لحظ نفسه، إنما يعظها خوفا عليها من النار؛ لأن الله أمره أن يقي نفسه وأهله وزوجه من النار، فيقول لها: اتقي الله، فإني أخاف عليك من النار، وأخاف عليك من عقوبة الله، وأخاف أن ينزل الله بك بلاء، وهذا لا يجوز، أما حقي فأنا أصبر عليه، فإذا شعرت أنه يذكرها بالله، أو علم الله من قرارة قلبه الإخلاص فإن وعظه يؤثر بإذن الله تبارك وتعالى.
قوله: [فإن أصرت هجرها في المضجع ما شاء] أي: بما فيه المصلحة.
وقوله: [وفي الكلام ثلاثة أيام] أي: إذا هجرها في الكلام فلا يزد على ثلاثة أيام، ففرق بين القول والفعل، فلا يجوز في هجر القول أكثر من ثلاثة أيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) ، فلا يجوز الهجر فوق ثلاثة أيام.
وقوله: [فإن أصرت ضربها غير مبرح] فإن أصرت على النشوز ضربها غير مبرح، أي: ضربا غسير مبرح كما ذكرنا.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.10 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.47 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.61%)]