أقوال العلماء في حكم مراجعة من طلقت حائضا
قوله: [وتسن رجعتها] .
وتسن رجعتها، بل تجب، وهو رواية عن الإمام أحمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مره فليراجعها) ، وهذه مسألة أصولية، فأمر الغير أن يأمر غيره هل هو أمر للمأمور الأول أو للثاني أو لهما معا؟ إن قلنا: إنه أمر للمأمور الثاني فحينئذ يكون دالا على الوجوب، وهذا مثل قوله عليه الصلاة والسلام حينما نفست أسماء بنت عميس بـ محمد بن أبي بكر الصديق في البيداء واستفتي لها، فقال صلى الله عليه وسلم: (مرها فلتغتسل ثم لتهل) .
فإن قلت: إن الأمر للمأمور أن يأمر غيره أمر للثاني كان حينئذ دالا على الوجوب، ويكون الاغتسال للإحرام للحائض والنفساء واجبا، (مرها فلتغسل) ، وأشكل على هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (مروا أولادكم للصلاة لسبع) ، فإنه أمر لمأمور أن يأمر غير المأمور، فإن الصبي لا يتعلق به الوجوب، فلو كان الأمر للشخص أن يأمر غيره أمرا لهذا الغير لما استقام هذا مع حديثنا؛ لأن الصبي غير مكلف، فدل على أن أمر المأمور أن يأمر غيره أمر للمأمور لا لغير المأمور، هذا عند من يقول: إنه ليس أمرا له إلا إذا دل الدليل على الوجوب.
والأولون يقولون: هو أمر للمأمور وأمر لغير المأمور، أمر للمأمور أن يأمر وأمر للمأمور الثاني أن يمتثل، فإن ظهرت القرينة وجاء الدليل على استثنائه -كما في الصبي- حينئذ ينتزع الحكم بعدم الوجوب إلى الثاني، وهذه المسألة معروفة في الأصول عند علماء الأصول؛ ولذلك يقولون: إذا كان أمرا للأول فإنه يأثم بتركه، ومن هنا قالوا: يكلف المكلف بغير المكلف ويأثم به، كأن تمر على نائم فهو غير مكلف؛ فإن كنت مأمورا به؛ فإنك تأثم إن تركته نائما، فلو فاتته الصلاة تأثم؛ لأنه غير مكلف، لكن كونك مأمورا بإيقاظه هذا أمر للمكلف أن يأمر غير المكلف، فهذا وجه وتخريج، والمسألة مشهورة عند علماء الأصول رحمهم الله، والصحيح في هذه المسألة: أنه تجب عليه رجعتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر) .
وهذا أمر والأصل في الأمر أن يكون للوجوب حتى يدل الدليل على صرفه عن ذلك الظاهر، فهذا الذي تطمئن إليه النفس، وقد أخذ الإمام أحمد رحمه الله بظاهر هذه السنة كعادته، فإنه كان من أعلم الأئمة الأربعة بالسنة، وهذا أمر معلوم عنه رحمه الله؛ فإنه اطلع من السنن والآثار على ما لم يطلع عليه بقية إخوانه من الأئمة، وكان له -رحمه الله- اليد الطولى في علم الحديث وروايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أورع الأئمة وألزمهم لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولما جاءته هذه السنة قال بالوجوب لظاهر الأمر في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمراجعة ولا صارف لهذا الأمر؛ إذا لو كان الأمر تخييريا وابن عمر ليس بملزم وقد علم صلى الله عليه وسلم أن ابن عمر ما طلق امرأته إلا بسبب، فكيف يلزمه بإرجاع من طلقها؟ فلو كانت الرجعة ليست بواجبة ولا لازمة لما أمر صلى الله عليه وسلم ولا ألزم بها على هذا الوجه، فلا شك أن الحق معه رحمه الله، وقد وافقه على هذا القول طائفة من العلماء من الظاهرية وأهل الحديث رحمة الله على الجميع.
صور الطلاق الذي لا يوصف بكونه سنيا ولا بدعيا
ذكرنا أن الطلاق من حيث حكم الشرع إما أن يكون طلاقا سنيا أو طلاقا بدعيا أو طلاقا لا سنيا ولا بدعيا، هذه ثلاثة أقسام، فمن طلق زوجته إما أن يطلقها وهو مصيب لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، وإما أن يطلقها وقد وقعت البدعة، وإما أن يطلقها طلاقا لا يوصف صاحبه بسنة ولا ببدعة، وقد بينا الطلاق السني والطلاق البدعي وضابط البدعة والسنة.
وبقي السؤال في القسم الثالث، وهو نوع من النساء -كما ذكر المصنف رحمه الله- لا يوصف طلاقهن بالسنة ولا يوصف بالبدعة.
طلاق الصغيرة
قال رحمه الله: (ولا سنة ولا بدعة لصغيرة) أي: إذا طلق الصغيرة التي لم تحض بعد؛ فإن طلاقه لها لا يوصف بكونه سنيا ولا يوصف بكونه بدعيا؛ لأن الصغيرة لا تحيض، وطلاق السنة متعلق بالحيض، بحيث يطلقها في طهر لم يجامعها في ذلك الطهر، فالمفسدة والضرر المترتب على التطليق في الحيض أو المفسدة والضرر المترتب على التطليق في حال طهر جامعها فيه غير موجودة في حال التطليق للصغيرة، فالصغيرة لا تحيض، فلا تطول عليها العدة، ولا يخشى أن تكون حاملا، فهو إذا طلق طلق على بينة من أمره؛ ولذلك تقول: الصغيرة ليس فيها المحابيل.
مثال ذلك: رجل تزوج بنت سبع أو بنت ثمان أو بنت تسع سنين أو بنت عشر سنين ولم تحض بعد، فهذه التي لم تحض بعد إذا كانت في سن العاشرة -مثلا- ولم تحض بعد، فإنه يطلقها ولن تطول عليها العدة؛ لأن عدتها بالأشهر، فبعد طلاقه لها ستحسب الأشهر وينتهي الإشكال وهي ليست بحامل، فلا يخشى أن تكون ليست بطاهر؛ لأن الطلاق في الطهر الذي جامعها فيه كان بدعة لخشية أن تصبح حاملا فيندم على طلاقها؛ ولذلك قال الصحابة -رضوان الله عليهم- كما هو مأثور عن علي وابن مسعود رضي الله عن الجميع: (لا يطلق أحد للسنة فيندم) ، أي: لا يطلق أحد طلاق السنة ويكون نادما؛ لكن لو طلق طلاقا بدعيا في طهر جامعها فيه لاحتمل أن تكون المرأة حاملا منه فيندم؛ لأنه كيف يطلقها وهي ستصير أما لولده، لأنها ستنجب، فكيف يحصل الفراق بينه وبين أم لولده؟ فقد يقدم الرجل على طلاق امرأة لم تنجب بعد، ولكنه لا يقدم لو علم أنها حامل أو أن ولده سيكون منها.
وعلى هذا فإن هناك ثلاثة أنواع من النساء: الصغيرة، والكبيرة الآيسة التي لم تحض بعد، وغير المدخول بها، وفقه المسألة يدور حول طول العدة وخشية أن تكون المرأة حاملا كما ذكرناه في علة المنع من تطليق المرأة الحائض.
قال رحمه الله: (ولا سنة ولا بدعة لصغيرة) .
هذا القسم الثالث: (لصغيرة) أي: في تطليق صغيرة لم تحض بعد.
والدليل على أن طلاق الصغيرة لا سنة ولا بدعة فيه: قول الله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1] ، والصغيرة ليس لها حيض حتى يقال: (لقبل عدتهن) على التقدير في الآية؛ لأن آية الطلاق فسرتها السنة، وقد ذكر أئمة وعلماء التفسير والتأويل رحمة الله عليهم من السلف وغيرهم أن هذا من تفسير السنة للكتاب؛ فإن الله تعالى لما قال: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1] ، جاءت السنة مفسرة مبينة لهذا الطلاق الشرعي وأن المراد بقوله سبحانه: (لعدتهن) أي: لقبل عدتهن، أي: مستقبلات عدتهن وذلك بطهر لم يجامعها فيه، ولا يطلقها في حال الحيض.
طلاق الآيسة
قال رحمه الله: قوله: (وآيسة) .
أي: ولا سنة ولا بدعة في آيسة، والمرأة الآيسة من المحيض قد سبق وأن تكلمنا عليها في باب الحيض، فمن العلماء من جعل سنا محددا إذا وصلت المرأة إليه حكم بكونها في حكم الآيسة، ومن العلماء من قال: لا حد لذلك، ويختلف باختلاف النساء، وقد تبلغ المرأة خمسين أو أكثر والحيض معها، فهذا شيء يختلف باختلاف النساء، فلما لم يذكر الشرع حدا أو سنا معينا لليأس؛ فإننا لا نحد سنا معينا، وقد بينا أن هذا هو أرجح الأقوال كما اختاره شيخ الإسلام رحمه الله وطائفة من أهل العلم أنه لا حد لليأس، وإذا كان لا حد لليأس؛ فالمرأة إذا طلقها زوجها وهي كبيرة فلا تخلو من حالتين: إما أن تكون في المحيض، فحكمها حكم الحائض، فيطلقها في طهر لم يمسها فيه، وتسري عليها أحكام طلاق السنة أو طلاق البدعة؛ لأنها من ذوات الحيض، أما لو طلقها وقد انقطع عنها حيضها على وجه يغلب على الظن أنها آيسة أو تحقق معه أنها آيسة؛ فتسري عليها أحكام الآيسة.
فمثلا: امرأة عمرها خمسون سنة، ومكثت ثلاث سنوات أو أربع سنوات أو خمس سنوات وانقطع عنها الحيض، فما رأت الحيض خلال السنة أو السنتين أو الثلاث أو الأربع الأخيرة، ففي الغالب أنه قد انقطع حيضها وتعتبر آيسة في هذه الحال، وحينئذ نقول لزوجها: إذا أردت طلاقها فطلقها في أي وقت شئت؛ لأنه ليس هناك حيض يلزمك بأن تطلق في طهر لم تجامع فيه.
وفائدة المسألة حينما قال: (ولا سنة ولا بدعة لصغيرة) قالوا: لو قال لامرأته الصغيرة: أنت طالق للسنة، فهل تطلق عليه أو لا تطلق؟ وإن كانت تطلق عليه فمتى تطلق؟ قالوا: إذا قال لها: أنت طالق للسنة، فقال طائفة من العلماء: لغو؛ لأن طلاق مثلها لا سنة فيه ولا بدعة، قالوا: فيلغو هذا، كأنه جاء بلفظ لا حقيقة له؛ لأن مثلها لا سنة في طلاقها ولا بدعة، وقال طائفة من العلماء: بل تنتظر فتبقى امرأته إلى أن يأتيها الحيض؛ فإذا حاضت ثم طهرت الطهر الأول بعد الحيض فبمجرد أن تطهر تطلق عليه؛ لأنه علق طلاقها طلاقا سنيا، كأنه يقول: طلقتك طلقة سنية، فبقيت معلقة إلى أن يأتيها الحيض.
أما قوله: (والآيسة) ، فالآيسة النوع الثاني، فإذا أردت أن تضبط المسألة تنظر إلى قاسم مشترك بين الصغيرة والكبيرة ما هو؟ عدم الحيض، فيكون إما بأصله غير موجود كالحال في الصغيرة، وإما كان موجودا ثم زال كما هو الحال في الكبيرة والآيسة، فهذا الطلاق تقول: لا سنة فيه ولا بدعة.
فهذا القسم الثالث، وضابطه: أن تكون المرأة من غير ذوات الحيض، ويشمل ذلك الصغيرة التي لم تحض، والكبيرة التي انقطع حيضها.
طلاق الزوجة غير المدخول بها
قال المصنف رحمه الله: [وغير مدخول بها] .
هناك نوع ثالث يوصف بكون طلاقه لا سنة فيه ولا بدعة، وهي الزوجة التي لم يدخل بها، مثلا: تزوج زيد خديجة وعقد عليها، وقبل الدخول طلقها، فإذا طلق الرجل امرأته قبل الدخول فإنه لا عدة له عليها لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49] ، وآية الطلاق قالت في طلاق السنة: {إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1] ، فإذا كانت السنة مرتبطة بالعدة، وهذه المنكوحة لم يدخل بها فلا عدة لها في حكم الشرع، أي: فلا سنة في طلاقها ولا بدعة؛ لأن السنة تثبت في حال وجود العدة بالحيض، حتى لا يندم إذا طلقها في حال طهرها الذي جامعها فيه، وأيضا لا تطول عليها عدتها بالحيض، فإذا كانت بحكم الشرع لا عدة لها؛ فحينئذ نحكم بكونها لا سنة في طلاقها ولا بدعة، فقال الله تعالى: {فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49] .
وعلى هذا: بعض طلاب العلم يخطئ في بعض فتاويه، فإذا كان يرى أن طلاق الحائض لا يقع، يأتيه السائل ويقول: طلقت امرأتي وهي حائض، فالمنبغي إذا كان يرى أن طلاق الحائض لا يقع أن يسأله: دخلت بها أو لم تدخل؟ فإن كانت المرأة لم يدخل بها؛ فإن الطلاق نافذ بالإجماع؛ لأنها ليست بمحل لقضية السنة والبدعة.
وعلى هذا فالنوع الثالث من النسوة اللاتي يعتبر طلاقهن لا سنة فيه ولا بدعة: المطلقة قبل الدخول عليها، فالخلاصة: عندنا الصغيرة، وضدها الكبيرة الآيسة، والمرأة غير المدخول بها.
قال رحمه الله: [ومن بان حملها] .
من بان حملها للعلماء فيها وجهان: فإذا بان الحمل واستبان أنها حامل فمذهب طائفة من العلماء أنه لا سنة ولا بدعة في الحامل، سواء كانت في أول أو أوسط أو آخر الحمل، فلا يوصف الطلاق بسنة ولا ببدعة، وقال بعض العلماء: طلاق الحامل طلاق سنة؛ لما ثبت من حديث ابن عمر عند مسلم: (وليطلقها وهي طاهر حائلا أو حاملا) وهذا يعني أنه يطلقها حال طهرها الذي لم يجامعها فيه سواء كانت طاهرا أو كانت حاملا استبان حملها، فقالوا: نظرا لقوله: (أو حاملا) ، وهي رواية صحيحة في رواية سالم بن عبد الله بن عمر في قصة تطليق أبيه رضي الله عنه الثابتة في الصحيحين، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (أو حاملا) ، دل على أن من طلق الحامل، فقد طلقها بإباحة وإذن الشرع، أما أصحاب القول الأول فقالوا: إن طلاق الحامل قصد به الإذن لأنه قال: (أو حاملا) ، وكلا القولين له وجهه، لكن النظر يقوي الوجه الأول كما ذكرنا.
الأسئلة
الحكمة في إلزام النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر بتطليق امرأته في الطهر الثاني بعد الحيضة
السؤال أشكل علي في قصة تطليق ابن عمر لزوجته قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر) ، وموضع الإشكال هو: لماذا لم يكتف بالطهر الذي يلي الحيض الذي وقع فيه الطلاق حتى تحيض ثانية ثم تطهر؟
الجواب باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فقد قال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يؤكد طهر المرأة، وذلك أن المراجعة وقعت منه عليه الصلاة والسلام على سبيل الإلزام، فقال له: (مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر) ، أي: تطهر من هذه الحيضة التي طلق فيها، وأكد ذلك بقوله: (ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء) ، فيكون الطلاق في طهر لم يقع في حيضه طلاق أيضا، وهذا من باب التأكيد على أنه لا يقع الطلاق إلا في طهر، والله تعالى أعلم.
الرد على حديث عويمر العجلاني وحديث فاطمة في جواز الثلاث تطليقات
السؤال بعد أن قررنا أن طلاق السنة هو الواحدة، فما هو الجواب عن حديث عويمر العجلاني وكذلك حديث فاطمة أن زوجها طلقها البتة؟
الجواب أما بالنسبة لحديث عويمر العجلاني؛ فإن طلاقه لم يصادف المحل، وتوضيح ذلك: أن المرأة إذا لاعنت زوجها فإنه يفرق بينهما فراقا أبديا، قال الزهري رحمه الله في روايته عن سهل رضي الله عنه في قصة المتلاعنين: مضت السنة أن يفرق بين المتلاعنين فلا يجتمعان أبدا، وعلى هذا فبمجرد ما تنتهي من الأيمان -والعياذ بالله- فإنه تقع الفرقة بينهما، وقال بعض العلماء: تفتقر إلى حكم القاضي؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم أن أحدكما كاذب، حسابكما على الله) ؛ لأنه حلف الأيمان وهي حلفت الأيمان، فحينئذ أحدهما كاذب، إما الرجل وإما المرأة، فتنتقل الحكومة والحكم والخصومة إلى خصومة الآخرة نسأل الله السلامة والعافية، فخصومة الدنيا لا نملك فيها شيئا لأن ما عندنا شيء ثبت، والأصل البراءة، فترك الأمر إلى الآخرة؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يوقفها ويوقفه عند الموجبة وهي الخامسة ومضت السنة على ذلك، فقال له: (اتق الله، فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة) ، وقال للمرأة: (اتق الله فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة) ، فكادت تعترف ثم قالت -والعياذ بالله-: لا أفضح قومي، فحلفت الموجبة، وكان يقول: إنها الموجبة، يعني: إذا حلف الرجل الخامسة: {والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين} [النور:7] ؛ فإنه تصيبه اللعنة والعياذ بالله.
والمرأة إذا حلفت وقالت في الخامسة: أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فإنه -والعياذ بالله- يحل عليها غضب الله عز وجل، ومن حل عليه غضب الله فقد هوى؛ فإذا ثبت هذا فإنه يفرق بينهما بمجرد انتهاء اللعان؛ فعندما فرق بينهما، قال عويمر من شدة الألم: (والله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد سمعت بأذني ورأيت بعيني) فلما رآها تحلف هذه الأيمان، قال: (يا رسول الله! كذبت عليها إن أمسكتها هي طالق بالثلاث) ، فلما وقع طلاقه وقع بعد الفرقة، فهي أجنبية منه محرمة عليه؛ ولذلك المرأة الملاعنة لا تحل إلى الأبد، وقد أثبتنا هذا في المحرمات، أنها لا تحل إلى الأبد، فالتطليق ثلاثا وقع بعد زوال المحل، فلا يستقيم الاستدلال به؛ ولذلك يكون إقرار النبي صلى الله عليه وسلم أو عدم إقراره ليس بوارد أصلا؛ لأن الطلاق وقع في غير موقعه، ومن هنا لا يمكن أن يوصف التطليق ثلاثا بكونه طلاق سنة من هذا الوجه، والله تعالى أعلم.
أما بالنسبة لحديث سهيمة في قصة امرأة رفاعة بن رافع القرظي أنه طلقها ثلاثا فبت طلاقها، فهذا أجاب عنه العلماء وأشار الحافظ ابن حجر والحافظ ابن الملقن وغيرهما -رحمة الله على الجميع- إلى أنه ليس بدليل على أن طلاق الثلاث وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بلفظة واحدة؛ والسبب في ذلك: أن سهيمة أو سهلة -اختلف في اسمها رضي الله عنها وأرضاها- طلقها زوجها الطلقة الثالثة، يعني: كان قد طلقها قبل ذلك طلقتين، فوقعت الطلقة الثالثة التي بها البينونة، فلذلك قال الراوي: (إنه طلقها فبت طلاقها) ولذلك جاءت الرواية الأخرى: (طلقها آخر تطليقة) يعني: آخر طلقة من طلاقه، وعلى هذا فلم تكن الثلاث مجموعة وإنما كانت مفرقة، فلا يستقيم الاستدلال به على إثبات الطلاق ثلاثا وأنه سنة، والله تعالى أعلم.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.