الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن(129)
- {إن ربي على صراط مستقيم}
لكل إنسان طريقه الذي يسلكه، ومقصده الذي يتوجه إليه، واختياره قد يكون ناشئا عن عقله أو هواه أو بيئته أو غير ذلك من المؤثرات التي تحدد للإنسان طريقه، وما يتبع ذلك من رسم اعتقاداته وتشكيل أخلاقه وتحديد شخصيته.
والله -تعالى- قد رسم للمسلم طريقه، وبين له مقاصده، وأوضح له نهاية سعيه وخاتمة أمره، وهذا من رحمة الله -تعالى- بعباده، أن هداهم للحق وأرشدهم إليه، ولم يتركهم حيارى تتلاعب بهم الأهواء، وتتقاذفهم شياطين الإنس والجن، فبين لهم صراطه المستقيم، ودلهم على طريقه القويم.
وكفى بهذا الصراط شرفا وفضلا أن الله تعالى نسبه إليه كما قال سبحانه: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(هود: 56).
قال ابن القيم مبينا معنى الآية: «أن الله -سبحانه- على صراط مستقيم، وهو سبحانه أحق من كان على صراط مستقيم، فإن أقواله كلها صدق ورشد وهدى وعدل وحكمة، وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا، وأفعاله كلها مصالح وحكم، ورحمة وعدل وخير، فالشر لا يدخل في أفعال من هو على الصراط المستقيم، أو أقواله، وإنما يدخل في أفعال من خرج عنه وفي أقواله».
وقال الطبري: «يقول:إن ربي على طريق الحق،يجازي المحسن من خلقه بإحسانه، والمسيء بإساءته، لا يظلم أحدا منهم شيئا، ولا يقبل منهم إلا الإسلام والإيمان به».
وقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(النحل: 76).
قال ابن القيم: «فهذا مثل ضربه الله للأصنام التي لا تسمع، ولا تنطق ولا تعقل، وهي كلّ على عابدها، يحتاج الصنم إلى أن يحمله عابده، ويضعه، ويقيمه، ويخدمه، فكيف يسوونه في العادة بالله الذي يأمر بالعدل والتوحيد؟ وهو قادر متكلم، غني، وهو على صراط مستقيم في قوله وفعله، فقوله صدق ورشد ونصح وهدى، وفعله حكمة وعدل ورحمة ومصلحة».
وأخبر سبحانه بأن أفضل خلقه على ذلك الصراط المستقيم فقال سبحانه عن أنبيائه ورسله: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ ۖ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(الأنعام: 87), وقال عن إبراهيم عليه السلام:{إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}(النحل: 120 - 121)، وقال عن موسى وهارون عليهما السلام:{وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}(الصافات: 118), وقال عن خاتم النبيين وسيد المرسلين: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۚ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(الأنعام: 161).
وسلوك الصراط المستقيم بيد الله تعالى، فهو سبحانه يهدي من يشاء إليه كما قال عز وجل: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(يونس: 25)، وقال سبحانه: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ ۚ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }(النور: 46)؛ ولذا أمرنا أن نسأل الله تعالى الهداية إلى الصراط المستقيم كلما قمنا في الصلاة فنقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }(الفاتحة: 5 - 6)، لحاجتنا الشديدة إلى معرفة الصراط المستقيم، والتوفيق إلى العمل به اعتقادا وسلوكا، وفعلا وتركا، ظاهرا وباطنا، والثبات على ذلك إلى الممات.
فالصراط المستقيم يقوم على العلم بالله تعالى والإيمان به وتوحيده كما قال سبحانه: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(الحج: 54)، وقال تعالى: {{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطًا مُسْتَقِيمًا }(النساء: 175).
كما يقوم الصراط على العمل بدين الله تعالى كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوْا مَا يُوْعَظُوْنَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيْتًا(66(وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}(النساء: 66 - 67 - 68).
وعبادة الله تعالى وحده، وترك الشرك من أهم معالم الصراط المستقيم كما قال سبحانه على لسان عيسى عليه السلام: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}(الزخرف: 64)، وقال عز وجل محذرا من سبيل الشيطان: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}(يس: 60 - 61)، فالشيطان أعظم عائق في طريق مريدي الصراط المستقيم كما أخبرنا تعالى عنه أنه قال: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}(الأعراف: 16)، قال الطبري: «يقول: لأجلسن لبني آدم «صراطك المستقيم»، يعني: طريقك القويم، وذلك دين الله الحق، وهو الإسلام وشرائعه. وإنما معنى الكلام: لأصدن بني آدم عن عبادتك وطاعتك».
والتمسك بالقرآن الكريم والعمل بما فيه أعظم سبب للاستقامة على الصراط كما قال سبحانه: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴿15﴾يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(المائدة: 15 - 16).
ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم في هديه وسنته من أهم لوازم الصراط المستقيم كما قال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} (المؤمنون: 73)، وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}(الشورى: 52).
ولاشك أن لأصحاب الأهواء سبلا منحرفة، وطرائق ضالة مضلة وقد حذرنا الله تعالى من تلك السبل فقال عز وجل: {صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(الأنعام: 153).
وروى الإمام أحمد والنسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده، ثم قال: «هذا سبيل الله مستقيماً». ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله، ثم قال: «وهذه سبل ليس منها سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إليه»، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ}.
وعن مجاهد في معنى قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} قال: «البدع والشهوات».
وذكر ابن جرير بسنده أن رجلا قال لابن مسعود رضي الله عنه : ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد، وعن يساره جواد، وثم رجال يدعون من مر بهم. فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة. ثم قرأ ابن مسعود: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فتفرق بكم عن سبيله} الآية.
وقد ضرب الله لنا مثلا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس، ادخلوا الصراط جميعا ولا تعوجوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب، قال: ويحك، لا تفتحه؛ فإنك إن تفتحه تلجه. فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم».
اعداد: د.وليد خالد الربيع