تلك الوسائل!
التجاني صلاح عبدالله المبارك
مهما اتَّبع الإنسان من سُبُل ووسائل في تهذيب النفس الإنسانية، وتخليصها مما يمكن أن يشوبها، ويغيرها ويحط من قدرها وينقص منها، حتى تصل إلى درك الحيوانية، فيصير الإنسان كما الأنعام والبهائم سواء بسواء، بدلًا من علوها وارتفاعها إلى درجات الصفاء والملائكية، مهما اتَّبع فإنه لا يجد- في تقديري- وسائلَ وسُبُلًا أفضل وأنجع وأقوم من تعاليم وتوجيهات وفروض ديننا الإسلامي الحنيف.
ولأن الانحطاط والهبوط إلى الطبيعة الحيوانية هو من عمل الشيطان أولًا، ومن النفس الأمَّارة بالسوء، فقد وضع الدين الإسلامي علاجًا وترياقًا، وموجهات وضوابط لكل الغرائز الإنسانية الفطرية، وهي من شأنها (أي الموجهات والضوابط) أن تكون كابحًا فعَّالًا لهذه الغرائز، وإعادة بوصلتها وتوجيهها توجيهًا صحيحًا.
من هذه الغرائز ميل الرجل وانجذابه للأنثى، فكان غضُّ البصر عن المرأة هو أولى الخطوات الواجبة لإلزام النفس الإنسانية وتقويمها، وكبح نوازع الشهوة فيها، وقطع الدواعي لها، ثم إن التماس الزواج للشباب هو أحفظ للنفس وأكمل للدين، أو الصوم عند عدم المقدرة والاستطاعة فإنه لهم وِجاء.
في كتب التراث العربي تحديدًا كتاب الحيوان، ذكر "الجاحظ" قصة ابن المبارك الصابي، وهي على طرافتها وجزالة لغة الجاحظ، مثال جيد في ذكر النساء ومحلهن من قلوب الرجال، مهما سلك الفرد من وسائل وسبل غير التي أمر وحث عليها الشرع الحنيف، وقد كان يكفي ابن المبارك في رأيي أن يغض بصره، ويبعد عن مخالطة النساء، ويلتمس ما أمر الله به، بدلًا من تعذيب النفس وتحميلها فوق طاقتها!
يقول الجاحظ: حدثني محمد بن عباد قال: سمعتُه يقول - وجرى ذكرُ النساء ومحلهن من قلوب الرجال، حتى زعموا أنَّ الرجلَ كلما كانَ عليهن أحرص كان ذلك أدلَّ على تمام الفحولة فيه، وكان أذهب له في الناحية التي هي في خلقَتِه ومعناه وطبعه، إذ كان قد جعل رجلًا ولم يُجعل امرأة - قال ابن عبَّاد، فقال لنا: ألستم تعلمون أني قد أربَيتُ على المائة، فينبغي لمن كان كذلك أن يكون وهْنُ الكِبَر، ونفادُ الذِّكر، وموتُ الشهوة، وانقطاعُ ينبُوع النطفة، قد أماتَ حنينه إلى النساء وتفكيرَه في الغزَل؟! قال: قلنا: صَدقتَ. قال: وينبغي أن يكون مَنْ عَوَّد نفسه تركَهنَّ مُددًا، وتخلى عنهن سنينَ ودَهرًا، أن تكون العادة وتمرينُ الطبيعة، وتوطينُ النفس، قد حطَّ من ثقل منازعة الشهوة، ودواعي الباءة، وقد علمتمْ أنَّ العادة التي هي الطبيعة الثانية، قد تستحكم ببعض عمدِ هَجْرٍ لملامسةِ النساء. قال: قلنا: صدقت. قال: وينبغي أن يكونَ مَن لم يذُقْ طعم الْخَلوة بهنَّ ولم يجالسهنَّ متبذلات، ولم يسمَعْ حديثَهن وخلابتهن القلوب، واستِمالتهن للأهواء، ولم يَرَهُنَّ منكشفاتٍ عارياتٍ، إذا تقدم له ذلك معَ طول الترك، ألا يكون بقي معه من دواعيهن شيء؟! قال: قلنا: صدقت. قال: وينبغي أن يكون لمن قد علِم أنه مجبوبٌ، وأنَّ سببه إلى خِلاطهنَّ محسوم، أن يكون اليأسُ من أمتن أسبابه إلى الزهد والسلوة، وإلى موت الخواطر. قال: قلنا: صدقت. قال: وينبغي أن يكونَ من دعاهُ الزهد في الدنيا، وفيما يحتويه النساء مع جمالهنَّ وفتنةِ النُّسَّاك بهن، واتخاذِ الأنبياء لهنَّ، إلى أن خَصَى نفسه، ولم يكرهه عليه أبٌ ولا عدوٌّ، ولا سَباه سابٍ، أن يكون مقدارُ ذلك الزهدِ هو المقدار الذى يُميت الذكْر لهن ويُسَرِّي عنه ألم فقد وُجودِهِنَّ، وينبغي لمن كان في إمكانه أن ينشئ العزم ويختار الإرادة التي يصير بها إلى قطع ذلك العضو الجامع لكبار اللذات، وإلى ما فيه من الألم، ومع ما فيه من الخطر، وإلى ما فيه من المثلة والنَّقص الداخل على الخلقة، أن تكون الوساوس في هذا الباب لا تعرُوه، والدواعي لا تقروه. قال: قلنا: صدقت. قال: وينبغي لِمن سخت نفسه عن السكَن وعن الوَلد، وعن أن يكون مذكورًا بالعقب الصالح، أن يكون قد نسي هذا الباب، إن كان قد مرَّ منه على ذكر. هذا وأنتم تعلمون أني سَمَلْتُ عيني يومَ خصيت نفسي، فقد نسيتُ كيفية الصور وكيف تَرُوع، وجَهلت المراد منها، وكيف تراد، أفما كان مَنْ كان كذلك حريًّا أن تكون نفسُه ساهيةً لاهيةً مشغولةً بالبابِ الذي أحتمل له هذه المكاره؟! قال: قلنا: صدقت. قال: أوَ لَوْ لم أكن هَرِمًا، ولم يكن ها هنا طولُ اجتناب، وكانت الآلةُ قائمةً أليس في أني لم أذق حيوانًا منذ ثمانِينَ سنة ولم تمتلِ عروقي من الشرابِ مخافة الزيادة في الشهوة، والنقصان من العزم ــ أليسَ في ذلك ما يقطع الدواعي، ويسكن الحركة إن هاجت؟! قال: قلنا: صدقت. قال: فإني بعدَ جميع ما وصفتُ لكم، لأسْمَعُ نغمة المرأةِ فَأظنُّ مرَّةً أنَّ كبدي قد ذابت، وأظنُّ مرة أنها قد انصدعت، وأظنُّ مرَّةً أنَّ عقلي قد اختُلِس، وربما اضطرَب فؤادي عند ضَحِك إحداهُنَّ، حتى أظنَّ أنَّه قد خرجَ من فمي، فكيف ألومُ علِيهنَّ غيري؟!