18-قصَّة موسى في القرآن الكريم
بقلم : مجـْـد مكَّي
كانت إجابة موسى تنمُّ عن حكمة وذكاء، وأمانة وصدق؛ لأن الخوض في القرون الأولى خوض فيما لا ينتهي أمره، وخوض في متاهة لا يعلمها إلا الله. وبهذا البيان أجاب موسى عليه السلام على السؤال، وبقي في حدود دعوته، وضيَّع الفرصة على فرعون.
ويزيد موسى الأمر وضوحاً بما قال: [الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى] {طه:53}.
وربُّكم هو الذي جَعَل لكم الأرض بمثابة السرير المُمَهَّد المبسوط، صالحةً لتجدوا عليها راحتكم إقامةً، وجلوساً، واضطجاعاً، ومناماً، وجعل لكم في الأرض طرقاً صالحةً لأن تسلكوها في تنقُّلاتكم وأسفاركم، وبهذه السُّبل تُحقِّقون منافع كثيرةً لكم، وأنزل من السحاب ماءً، فأخرجنا بذلك الماء الذي أنزلناه من السحاب، أصنافاً كثيرةً من نباتٍ مختلف الألوان والطعوم والمنافع.
كُلوا ـ يا أيها الناس ـ ممَّا أخرجنا لكم من الأرض، ممَّا هو صالحٌ لأنْ يُؤكل، واجْعَلوا أنعامَكم التي خلقناها لكم ترعى من نبات الأرض، إنَّ في ذلك الذي ذكر لآيات جليلات لذوي العقول الواعية الدرَّاكة، يدركون أنَّ ذلك الخلق العظيم والنظام البديع لا يكون إلا من ربٍّ قادر حكيم.
هذه هي نعم ربي، فكيف تكفرونها؟ وتستكبرون عن طاعته؟ وهل نسيتم؟!
إنكم مخلوقون من تراب فلم الشموخ؟ وأنتم إليها ستعودون ثم منها ستخرجون.
[مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى] {طه:55}.
من تراب الأرض ومائها خلقنا أجسادكم ـ أيُّها الناس ـ، وفيها نُعيدكم عند الموت والدَّفن، ومنها نُخرجكم مرةً أخرى يوم القيامة للبعث والحساب، وفصل القضاء، وتحقيق الجزاء.
هذا هو ربي يا فرعون فهلا آمنت؟ لكن طبيعة فرعون العاتية ما زالت تؤمِّل في الانتصار على موسى أو أن تجد لها مخرجاً من هذا المأزق فتحافظ على مكاسبها وملكها. ولشدَّة خبث فرعون وذكائه، و لما رأى أنه لا يستطيع مجادلة موسى في باب الاستدلال على الخالق انتقل إلى السؤال عن ماهية الخالق التي يصعب الاستدلال عليها.
[قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ] {الشعراء:23}.
كأني بفرعون يقول إذا كان من سبق وصفه هو ربكما فما حقيقة ذات ربِّ العالمين الذي تزعم أنه غيري؟ وتزعم أنَّك رسوله؟
أعرض موسى عن إجابة فرعون عن حقيقة ذاته جلَّ جلاله، وسَمَتْ عن الإدراك ذاتُه؛ لأنَّ حقيقة ذاته لا يستطيع البشر إدراكها.
[قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ] {الشعراء:24}. قال موسى: ربُّ العالمين هو خالقُ السموات والأرض وما بينهما، وممدُّها بعطاءات ربوبيَّته دواماً، إن كنتم مُسْتعدِّين لأن تفكِّروا بالحقائق التي أعرضها عليكم، فتُوقنوا بربِّ العالمين عن طريق البراهين والأدلة العقليَّة، فإذا كنتم غير مُستعدِّين لأن تفكِّروا فتوقنوا مُستقبلاً، فإنَّ بياني هذا لن يُغيِّر من جُحودكم لربِّكم شيئاً مهما قدَّمت لكم من أدلة.
وعندما سمع فرعون هذه الإجابة الواسعة العميقة أدرك أنه لن يستطيع الإفلات، فأراد إشراك المستمعين معه في هذا الحوار، حتى لا يقع وحده:
[قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ] {الشعراء:25}؟!!
قال فرعون لِمَنْ حَوْلَه من أشراف قومه محرضاً لهم ومثيراً: ألا تستمعون لجوابه، إني أطلب منه الماهيَّة وهو يُجبيني بأفعاله وآثاره؟
إلا أن موسى يستمر في بيانه، شارحاً دعوته، ومبيناً أصول العقيدة: [قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ] {الشعراء:26}. إنَّه خالقكم وخالقُ آبائكم الأوَّلين الذين ماتوا عند انتهاء آجالهم، فكيف تعبدون مَنْ هو مخلوقٌ مثلكم، وله آباء قد فَنَوا كآبائكم؟ هذه هي مكانة فرعون إنه إنسان من البشر وليس إلهاً كما يدَّعي، بل هو مربوب.