19-قصَّة موسى في القرآن الكريم
بقلم : مجـْـد مكَّي
حوار فرعون قبل الإتيان بالمعجزة
دهش فرعون لفصاحة موسى عليه السلام، وحُسْن بيانه، وقوة حجَّته في الرد على شبهاته، وأحسَّ أنه لن ينتصر على موسى، وبهذا تهاوى السلاح الأول الذي شهره فرعون في وجه موسى وهو سلاح تشويه السمعة.
اتهامه بالجنون:
فبدأ الغيظ يفلت منه زمام تفكيره وهدوئه المصطنع، فالتفت إلى من حوله يؤلبهم ويحرضهم على موسى، قال: [قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ] {الشعراء:27}.
قال فرعون: إنَّ رسولكُم الذي يَدَّعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال، فَضْلاً عن أن يجيب عنه، ويتكلَّم بكلام لا نقبله ولا نعرف صحَّته. وهو تحريض بكبرياء لأنه نسب الرسول إليهم [رسولكم الذي أرسل إليكم] نفياً منه أن يكون رسولاً إليه.
ويستمرُّ موسى عليه السلام في تبيين المعتقد الإيماني: [قَالَ رَبُّ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ] {الشعراء:28}
قال موسى: الربُّ الذي أدعوكم إليه هو المُدبِّر بصفات ربوبيَّته لمكان شروق الشمس وغروبها، ولزمان الشروق والغروب، وهو ربُّ كلِّ ما بين المشرق والمغرب من ظلمة وضياء، وأحياء وبشر، ورياح وسُحُب، وغير ذلك؛ إنْ كنتم تدركون حقيقة ربوبيَّته للمشرق والمغرب وما بينهما، وحسبكم أن تدلكم الظواهر على صفاته. وما لكم وللبحث عن ذاته؟.
حرَّض موسى عليه السلام من حول فرعون باستعمال عقله وبصيرته، فإنَّ من تدبَّر هذه الأمور سيصل إلى الإيمان لا محالة. ويحسُّ فرعون بهذا التحريض وهو يعلم ماذا يعني لو استجاب له الناس، إنه يعني اليقظة وصحوة القلوب التي طالما عمل على طمسها والتعمية عليها.
والطغيان لا يخشى شيئاً كما يخشى يقظة الشعوب، وصحوة القلوب، ولا يكره أحداً كما يكره الداعين إلى الوعي واليقظة، ولا ينقم على أحد كما ينقم على من يهزون الضمائر الغافية، ومن ثَمَّ ترى فرعون يهيج على موسى ويثور عندما يمس بقولته هذه أوتار القلوب، فينهي الحوار معه بالتهديد الغليظ، وبالبطش الصريح الذي يَعتمد عليه الطغاة عندما يسقط في أيديهم وتخذلهم البراهين ـ (في ظلال القرآن 5/2593).
[قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ] {الشعراء:29}قال فرعون حين لزمته الحجَّة، وانقطع عنه الجواب: أقسم لئن اتخذت – يا موسى – معبودا تعبده غيري لأجعلنَّك ممن عرفت أحوالهم في سجوني، حيث كان يطرحهم في هوة عميقة حتى يموتوا، عاد بهذه الكلمات إلى طبيعته التي أخفاها، لأنه لم يستطع أن يقابل موسى بالحُجَّة والبرهان، فلجأ إلى البطش والطغيان، والسجن أول درجاته لعله يرجع أو يتراجع، ولكن موسى لا يتراجع أبداً، بل يعرض عليه أن يريه المعجزة التي معه.
بعد استعمال المعجزة:
أحسَّ فرعون أنه قد خاب وفشل في الطعن في أهليَّة موسى وعقله، كما فشل في استدراجه إلى معارك جانبيَّة، فانتقل إلى التَّهديد بالسجن، وانتهاج طريق الطغيان والتعذيب.
وكذلك أحسَّ موسى عليه السلام بأنَّ كل هذه البراهين الواضحة، والحجج الدامغة لم تُجْدِ مع فرعون فتيلاً، فقابل موسى عليه السلام تهديده ووعيده بسجنه:
[قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ] {الشعراء:30}.
أي: أتأمر بسجني، ولو جئتك – يا فرعون – بآية بيِّنة يتبيَّن فيها صدقي فيما دعوتك إليه؟!!
[ قالَ: فأتِ به إن كنتَ من الصَّادقين ]{ الشعراء: 31}.
قال فرعون: فَائْت بالذي يُبيِّن صدقك ، فإنا لن نسجنك حينئذ؛ إن كنت من الصادقين في أن لك بيِّنة.
وقال الله تعالى في سورة الأعراف:[قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(106)] قال فرعون لموسى: إن كنت جئت من عند من أرسلك بمعجزة خارقة للعادة تدلُّ على صدقك، فائتني بها وأحضرها عندي؛ لتصحَّ دعواك ويثبت صدقك.