الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن (131)
- من مات على شيء بعثه الله عليه
قال ابن رجب رحمه الله: أن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس؛ إما من جهة عمل سيء ونحو ذلك
الإسلام هو الدين الحق الذي اختاره الله تعالى وارتضاه لعباده قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة:3)، وهو سبيل النجاة الوحيد عند الله تعالى قال عز وجل:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85)، والإسلام منهج حياة بما فيه من أحكام كاملة، ونظم شاملة ترقى بالإنسان إلى أكمل حياة وأسعدها في الدنيا قبل الآخرة كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (النحل:97).
قال ابن كثير:«هذا وعد من الله -تعالى- لمن عمل صالحا، وهو العمل المتابع لكتاب الله -تعالى- وسنة نبيه من ذكر أو أنثى من بني آدم، وقلبه مؤمن بالله ورسوله، وإن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله، بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة، والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت».
وقد أمرنا سبحانه بالدخول في الإسلام وأحكامه فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (البقرة: 208).
قال ابن كثير: «يأمر الله عباده المؤمنين به المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك»؛ ولأن سعادة الإنسان ونجاته في التمسك بالإسلام إلى الممات، أمرنا سبحانه بالاستقامة على الدين في كل لحظة؛ لأن الموت مجهول الميعاد فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:102)، قال ابن كثير: «أي: حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه، فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، فعياذا بالله من خلاف ذلك».
وقال الطاهر: «النهي عن الموت على غير الإسلام يستلزم النهي عن مفارقة الإسلام في سائر أحيان الحياة، ولو كان المراد به معناه الأصلي لكان ترخيصا في مفارقة الإسلام إلا عند حضور الموت، وهو معنى فاسد».
وقال تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} (الحجر: 99) واليقين: الموت،وهو قول مجاهد وقتادة والحسن.
قال القرطبي: «أمره بعبادته؛ إذ قصر عباده في خدمته، وأن ذلك يجب عليه.والمراد استمرار العبادة مدة حياته، كما قال العبد الصالح: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} (مريم:31).
وقد بشرنا ربنا تعالى بعاقبة الاستقامة على دينه ولزوم طاعته فقال:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ} (الجاثية:21). قال مُجاهد: «إنَّ المؤمنَ يَموتُ مؤمنًا، وَيُبعثُ مؤمنًا، وإن الكافر يَموتُ كافرًا، وَيُبعثُ كافرًا». وعنه أنه قال أيضا: «المؤمن في الدنيا والآخرة مؤمن، والكافر في الدنيا والآخرة كافر».
وعن ليث قال: «بعث المؤمن مؤمنا حيا وميتا، والكافر كافرا حيا وميتا».
ويبين الطاهر أن معنى الآية: «إنكار أن يستوي المشركون مع المؤمنين؛ لا في الحياة ولا بعد الممات، فكما خالف الله بين حالهما في الحياة الدنيا، فجعل فريقا كفرة مسيئين، وفريقا مؤمنين محسنين؛ فكذلك سيخالف بين حالهما في الممات، فيموت المشركون على اليأس من رحمة الله؛ إذ لا يوقنون بالبعث، ويلاقون بعد الممات هول ما توعدهم الله به، ويموت المؤمنون رجاء رحمة الله، والبشرى بما وعدوا به، ويلاقون بعد الممات ثواب الله ورضوانه».
وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من مات على شيء بعثه الله عليه» أخرجه أحمد وصححه الألباني . وقال صلى الله عليه وسلم : «يبعث كل عبد على ما مات عليه». أخرجه مسلم
قال شراح الحديث: «يبعث كلّ على ما مات عليه من العمل، أو من الإيمان والكفر»، وقال النووي: «يبعث على الحالة التي مات عليها». وقال المناوي في فيض القدير: «إن ما يفعله العبد من خير وشر في هذه الدار له نتائج تظهر في دار البقاء؛ لأنها محل الجزاء، وجزاء كل إنسان بحسب عمله، وكل معروف أو منكر يجازى عليه من جنسه، وكل إنسان يحشر على ما كان عليه في الدنيا، ولهذا ورد أن كل إنسان يحشر على ما مات عليه، وفيه أيضاً: «يبعث كل عبد على ما مات عليه» أي: على الحال التي مات عليها من خير وشر».
وقد يشكل على هذا المعنى حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ كِتَابُهُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ».
يزيل هذا الإشكال ابن القيم -رحمه الله- فيقول: «وأما كون الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فإن هذا عمل أهل الجنة فيما يظهر للناس، ولو كان عملا صالحا مقبولا للجنة قد أحبه الله ورضيه لم يبطله عليه.
وقوله: «لم يبق بينه وبينها إلا ذراع» يشكل على هذا التأويل، فيقال: لما كان العمل بآخره وخاتمته ، لم يصبر هذا العامل على عمله حتى يتم له، بل كان فيه آفة كامنة ونكتة خُذل بها في آخر عمره، فخانته تلك الآفة والداهية الباطنة في وقت الحاجة، فرجع إلى موجبها، وعملت عملها، ولو لم يكن هناك غش وآفة لم يقلب الله إيمانه».
يؤيده رواية سهل بن سعد الساعدي في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة»، وفي لفظ البخاري: «فإنما الأعمال بالخواتيم».
قال ابن رجب رحمه الله: وقوله: «فيما يبدو للناس» إشارة إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك، وأن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس؛ إما من جهة عمل سيء ونحو ذلك، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت. وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار، وفي باطنه خصلة خفية من خصال الخير، فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره، فتوجب له حسن الخاتمة».
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: إن حديث ابن مسعود: «حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع» أي: بين الجنة، ليس المراد أن عمله أوصله إلى هذا المكان حتى لم يبق إلا ذراع؛ لأنه لو كان عمله عمل أهل الجنة حقيقة من أول الأمر ما خذله الله عز وجل؛ لأن الله أكرم من عبده، عبد مقبل على الله، ما بقي عليه والجنة إلا ذراع، يصده الله؟! هذا مستحيل، لكن المعنى: يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، حتى إذا لم يبق على أجله إلا القليل زاغ قلبه والعياذ بالله - نسأل الله العافية-».
نسأل الله -تعالى- أن يوفقنا لطاعته، ويعاملنا بكرمه، ويثبتنا على دينه، ويتجاوز عن زلاتنا.
اعداد: د.وليد خالد الربيع