أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج
فيصل بن علي البعداني
أمر الله تعالى عباده باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم فقال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر:7]، وجعله سبحانه قدوة حسنة لهم فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
والحج من أوضح عبـادات الإسلام التي يتجلى فيها اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والتأسي به، والملحوظ في واقع الناس اليوم سيطرة الحديث عن الأحكام وانشغالهم بتعداد الأخطاء التي تقع فيه، وما يصح به النسك أو يبطل، ومع أهمية هذا الجانب وضرورته نتيجة تفشي الجهل ودوران صحة العمل أو بطلانه على ذلك، إلا أنه أدى إلى نسيان الكثير من جوانب التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإغفال أعداد غفيرة من الحجيج لمعان كثيرة راعاها النبي صلى الله عليه وسلم أثناء أدائه لنسكه، وفي ظل هذا الغياب أصبح المرء يرى في الحج العديد من المظاهر التي يقع فيها كثير من طلبة العلم الحريصين على تطبيق السنَّة فضلاً عن غيرهم، وهي غير متفقة مع هديه صلى الله عليه وسلم، ولذا جاءت هذه المقالة لتحاول إعطاء توصيف أشمل وصورة أدق عن أحواله صلى الله عليه وسلم في الحج لعل في ذلك مزيد عون للمتأسين به صلى الله عليه وسلم، والسائرين على نهجه. ونظراً لكثرة الحديث عن صفة نسكه صلى الله عليه وسلم فلن تتعرض المقالة لذلك، وستكتفي بإبراز نماذج وإشارات عامة في الجوانب الأخرى نظراً لكون الموضوع أوسع من أن تحيط به مقالة أو تكفي في عرضه الموارد المعتمدة.
ورغبة في تقريب الموضوع ولمِّ شتاته للقارئ فسيكون في ثلاثة محاور رئيسة:
الأول: أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج مع ربه:
لم يشغل النبي صلى الله عليه وسلم تعليم الحجيج وقيادتهم والعناية بأهل بيته ورعاية زوجاته عن الصلة بربه والانكسار بين يديه، وقد أخذ ذلك صوراً وأشكالاً شتى من أبرزها:
1- تحقيق التوحيد والعناية به:
يعد التوحيد أحد القضايا الرئيسة التي عمل النبي صلى الله عليه وسلم في الحج على تحقيقها والعناية بها، وهذا جلي من خلال التأمل في أعماله صلى الله عليه وسلم في الحج، ومن ذلك: التلبية وهي شعار الحج التي تتضمن إفراد الله وحده لا شريك له بالعمل، واستمر صلى الله عليه وسلم يلهج بها منذ دخوله في النسك إلى حين رميه لجمرة العقبة يوم النحر.
ومنها: عنايته صلى الله عليه وسلم بإخلاص العمل وسؤاله ربه أن يجنبه الرياء والسمعة كما في حديث أنس رضي الله عنه مرفوعاً قال: «اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة» (سنن ابن ماجه: رقم: 2890، وضعف إسناده الحافظ في الفتح: 3 / 446، وصححه الألباني بمجموع طرقه في الصحيحة: 2617).
ومنها: دعاؤه صلى الله عليه وسلم على الصفا والمروة بالتوحيد كما في حديث جابر رضي الله عنه قال: "فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة فوحَّد الله وكبَّره، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده» قال مثل هذا ثلاث مرات... حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا" (صحيح مسلم: رقم: 1218).
2- إظهار البراءة من المشركين وتعمد مخالفتهم:
حرص النبي صلى الله عليه وسلم على مخالفة المشركين والسير على سنة أبينا إبراهيم عليه السلام في كثير من شعائر الحج وأحكامه، ووصل الأمر غايته حين تبرأ صلى الله عليه وسلم من أعمال المشركين في خطبته يوم عرفة، وأخبر أن كل شيء من أمر الجاهلية فهو موضوع تحت قدميه (صحيح مسلم: رقم: 1218) والشعائر التي بان فيها تعمده المخالفة كثيرة، من أهمها: التلبية، وقد كان المشركون يضمنونها الشرك بالله ويقولون فيها: "إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك"؛ فأخلص النبي صلى الله عليه وسلم فيها التوحيد، ونبذ الشرك وتبرأ منه (انظر: صحيح مسلم: رقم: 1185).
ومنها: وقوفه مع الناس بعرفة ومخالفته لكفار قريش الذين كانوا يقفون في مزدلفة ويقولون: "لا نفيض إلا من الحرم"انظر: صحيح البخاري: رقم: 1665، وصحيح مسلم: رقم: 1219).
ومنها: إفاضته من مزدلفة قبل طلوع الشمس مخالفاً المشركين الذين كانوا لا يفيضون منها حتى تطلع الشمس، ويقولون: "أشرق ثبير كيما نغير" (انظر: صحيح البخاري: رقم: 1684، سنن ابن ماجه: رقم: 3022).
3- كثرة التضرع والمناجاة والدعاء: للدعاء منزلة رفيعة؛ إذ هو "إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله والاستكانة له (فتح الباري لابن حجر: 11 / 98)، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة» (جامع الترمذي: رقم: 2969، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي: رقم: 2590)، وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم في الحج منه أوفر الحظ والنصيب؛ فقد دعا ربه في الطواف (انظر: سنن أبي داود: رقم: 1892) وعند الوقوف على الصفا و المروة، وأطال في الدعاء يوم عرفة وهو على ناقته رافعاً يديه إلى صدره كاستطعام المسكين منذ أن استقر في مقامه الذي وقف فيه بعد الصلاة إلى أن غربت الشمس، وفي مزدلفة في المشعر الحرام منذ أن صلى الفجر إلى أن أسفر جداً قبل أن تطلع الشمس (انظر: صحيح مسلم: رقم: 1218)، وفي أيام التشريق بعد رمي الجمرتين الأُوليين كان يستقبل القبلة ويقوم طويلاً يدعو ويرفع يديه (انظر: صحيح البخاري: رقم: 1751).
هذا شيء مما نقل عنه في دعاء المسألة. أما دعاء الثناء والذكر فلم يفارقه صلى الله عليه وسلم منذ أن دخل في النسك إلى أن عاد إلى المدينة؛ إذ لم يزل صلى الله عليه وسلم رطب اللسان بذكر الله مكثراً من الثناء على الله بما هو أهله من تلبية وتكبير وتهليل وتسبيح وتحميد راكباً وماشياً وفي جميع أحواله صلى الله عليه وسلم كما هو جلي لمن قرأ صفة حجه صلى الله عليه وسلم وتتبع أحواله فيه (انظر في ذلك على سبيل المثال الأحاديث الآتية: صحيح البخاري: رقم: 1544، 1550، 1750، 1751، صحيح مسلم: رقم: 1218).
ومن الأهمية بمكان التنبيه على أن المنقول من دعائه صلى الله عليه وسلم وتضرعه وثنائه على ربه في الحج قليل جداً بالنسبة لما لم ينقل؛ إذ الأصل أن ذلك سر بين العبد وربه، وإنما جهر صلى الله عليه وسلم بما جهر به حين كان يريد تأسي أمته به، وإلا فإن ذكر الله من غايات الحج ومقاصده العظام كما يُلْمح ذلك من قوله عز وجل: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ . ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ . فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة:198-200]، بل إن أعمال الحج وشعائره إنما شرعت لذكر الله تعالى كما يدل عليه حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: "إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله (الترمذي: رقم: 902، وقال: حسن صحيح، المستدرك للحاكم: 1 / 459، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، ورمز له السيوطي في الجامع الصغير، بالصحة، وحسنه الأرناؤوط في جامع الأصول رقم: 1505، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع: رقم: 2056)، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله» (صحيح مسلم: رقم: 1141).
4- التوقف عند حدود الله عز وجل:
الوقوف عند حدود الله تعالى غاية التقوى ودليل صدق الإيمان وعلامة كمال العبودية، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بحدود ربه، وأتقاهم له، وأكثرهم تعظيماً لحرماته، وقد لاح ذلك في الحج في مواقف شتى، منها: عندما لم يُحِلَّ من إحرامه مراعاة لأصحابه؛ لأنه ساق الهدي؛ وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر من لم يسق الهدي من أصحابه بأن يحلوا إحرامهم ويجعلوا حجهم عمرة؛ فتأخروا في ذلك ظناً منهم أنه لم يعزم عليهم في ذلك وإنما أبان لهم الجواز، وقال بعضهم معبراً عن عدم رغبته في الحل من الإحرام: "نأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني" فقام النبي صلى الله عليه وسلم فيهم حين بلغه ذلك فقال: «قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم، ولولا هديي لحللت كما تحلون فحلوا» (صحيح البخاري: رقم: 7367، صحيح مسلم: رقم: 1216).
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم عن زوجه صفية رضي الله عنها حين حاضت ليلة النفر وقبل أن يعلم أنها طافت طواف الإفاضة يوم النحر: «ما أراها إلا حابستكم» (صحيح البخاري: رقم: 1772) مع ما في ذلك من الحرج الشديد له أمام الخلق؛ إذ كيف يُحبَس الناس عن النفير بسببها؟!
5- الخشوع والسكينة:
يُدرَك حضور القلب وخشوعه بسكون الجوارح ووقارها؛ إذ الظاهر عنوان الباطن (انظر: فتح الباري لابن حجر: 2 / 264)، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في حجه بين الأمرين؛ فكان حاضر القلب غير متشاغل بشيء عن نسكه، خاضعاً لربه فيه، ذليلاً منكسراً بين يدي مولاه، مكثراً من التضرع والمناجاة مع إطالة للقيام ورفع لليدين أثناء ذلك (النصوص الدالة على ذلك كثيرة، انظر على سبيل المثال: صحيح البخاري: رقم: 1751، صحيح مسلم: رقم 1218).
كما كان النبي صلى الله عليه وسلم خاشع الجوارح يسير سيراً ليناً بسكينة ووقار، ويؤدي مناسكه بتؤدة واطمئنان، يدل على ذلك حديث جابر رضي الله عنه قال: "أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه السكينة" (سنن النسائي: رقم: 3024، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي: رقم: 2827)، وحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "أنه دفع مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم وراءه زجراً شديداً وضرباً وصوتاً للإبل، فأشار بسوطه إليهم، وقال: «أيها الناس عليكم بالسكينة؛ فإن البر ليس بالإيضاع»" (صحيح البخاري: رقم 1671).
6- الاستكثار من الخير ومباشرته:
ح
ث الله عباده على التزود من التقوى والتسابق في الخيرات، فقال عز وجل: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197]، وقد كان هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الحج وديدنه فيه، ومن المظاهر الدالة على ذلك: حرصه صلى الله عليه وسلم على المجيء بمستحبات النسك كالاغتسال للإحرام (انظر: جامع الترمذي: رقم: 830 وقال عن الحديث: حسن غريب، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي: رقم: 664)، والتطيب عند الإهلال به وعند الخروج منه (انظر: صحيح البخاري: رقم: 1539)، وإشعار الهدي وتقليده (انظر: صحيح البخاري: رقم: 1545، 1697)، والإكثار من التلبية والجهر بها حتى رمي جمرة العقبة (انظر: صحيح البخاري: رقم: 1544، 1573، صحيح مسلم: رقم: 1184)، وبدء البيت بالطواف (انظر: صحيح البخاري: رقم: 1615)، والرَّمَل فيه (انظر: صحيح البخاري: رقم: 616)، والاستلام للركنين (انظر: صحيح البخاري: رقم: 1609، صحيح مسلم: رقم: 1218، المسند لأحمد: رقم: 4686 وإسناده صحيح)، وصلاة ركعتي الطواف خلف المقام (انظر: جامع الترمذي: رقم: 856 وقال: (حسن صحيح)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي: رقم: 679)، والدعاء على الصفا والمروة، والسرعة الشديدة في بطن الوادي (انظر: صحيح مسلم: رقم: 1218، 1261)، والذكر عند استلام الركنين ورمي الجمار (انظر: صحيح البخاري: رقم: 1751، صحيح مسلم: رقم: 1218)، وغيرها من السنن كثير.
7- التوازن والاعتدال:
خير الأمور الوسط، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، وقد كان من أبرز أحوال المصطفى صلى الله عليه وسلم وما تجلى من خلقه في الحج التوازن والاعتدال، وكراهية الإفراط والتفريط، ولعل الذي يعنينا من ذلك في حاله مع ربه عز وجل أمران:
الأول: اعتداله صلى الله عليه وسلم وموازنته بين العناية بنفسه من خلال قوة صلته بربه من جهة (انظر: صحيح البخاري: رقم: 1751، صحيح مسلم: رقم: 1218)، وبين التعليم لأمته وقيادتها، والرعاية لزوجاته والحنو على أهل بيته من جهة أخرى (انظر: صحيح البخاري: رقم: 305، 1556، صحيح مسلم: رقم: 1218).
الثاني: اعتداله صلى الله عليه وسلم وموازنته بين كل من حقوق روحه وجسده؛ إذ في ذلك الجو الإيماني المهيب الذي قد يدفع الكثيرين إلى التفريط في حق الجسد والإفراط في حق الروح نجده صلى الله عليه وسلم معتنياً بجسده غاية العناية؛ إذ صعد يوم التروية إلى منى ليقرب من عرفة (انظر: سنن أبي داود: رقم: 1911 وصحح الحديث الألباني في صحيح أبي داود: رقم: 1682)، ونام ليلة عرفة ومزدلفة (انظر: صحيح مسلم: رقم: 1218)، وأفطر يوم عرفة (انظر: صحيح البخاري: رقم: 1658)، وترك ليلةَ جَمْع صلاة النافلة (انظر: صحيح البخاري، رقم: 1673)، واستظل فيه بقبة من شعر ضُرِبت له قبلُ (انظر: صحيح مسلم: رقم: 1218)، وركب في تنقلاته بين المشاعر (انظر: صحيح البخاري: رقم: 1666، صحيح مسلم: رقم: 1218) وأثناء قيامه ببعض أعمال الحج (انظر: صحيح البخاري: رقم: 1608)، واتخذ صلى الله عليه وسلم من يخدمه ويقوم بأمره (انظر: صحيح مسلم: رقم: 1313، المسند لأحمد: رقم: 27290)... ونحو ذلك من الأمور التي ترفق بالجسد، وتمكنه من التقوِّي على العبادة وأداء النسك بحضور قلب وتدبر وخشوع وطمأنينة.
8- الزهد في الدنيا:
كان النبي صلى الله عليه وسلم زاهداً في الدنيا، معرضاً عما لا ينفع في الآخرة منها، ومظاهر زهده صلى الله عليه وسلم في الحج بالدنيا وتعلق قلبه بالآخرة كثيرة لا تكاد تحصى، ومن أبرزها: أنه حج على رَحْل رثٍّ وقطيفة تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي (سنن ابن ماجه: رقم: 2337).
ومنها: إردافه صلى الله عليه وسلم على راحلته أمام الحجيج أسامة بن زيد رضي الله عنهما من عرفة إلى مزدلفة، و الفضل بن العباس رضي الله عنهما من مزدلفة إلى منى (انظر: صحيح البخاري: رقم: 1544).
ومنها: عدم تميُّزه في الموسم عن الناس بشيء، وأعظم ما تجلى فيه ذلك أنه صلى الله عليه وسلم "جاء إلى السقاية فاستسقى فقال العباس: "يا فضل! اذهب إلى أمك فائت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها"، فقال: «اسقني»، قال: "يا رسول الله! إنهم يجعلون أيديهم فيه". قال: «اسقني»، فشرب منه" (صحيح البخاري: رقم: 1636)، وفي رواية أنهم حين قالوا: "نأتيك به من البيت" قال: «لا حاجة لي فيه، اسقوني مما يشرب منه الناس» (المسند لأحمد: رقم: 1814 وهو حديث صحيح).
ومنها: عظم هديه؛ إذ قرَّب مائة بدنة (انظر: صحيح البخاري: رقم: 1718)، ومن تعلق قلبه بالدنيا فإنه لا يُخرِج شيئاً فوق الحد الواجب.
ومنها: جمعه بين الهدي والأضحية (انظر: صحيح مسلم: رقم: 3180) مع أن الهدي يجزئ الحاج عنها.
الثاني: أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج مع أمته:
عَجَبٌ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج؛ إذ قام بتعليم الناس وقيادتهم في آن واحد؛ ومع ذلك فما أنت مريد أن ترى شيئاً فعله صلى الله عليه وسلم معهم على خلاف الأوْلى إلا وأنت عاجز عن ذلك. وكل أحواله صلى الله عليه وسلم والوظائف التي قام بها مع أمته دالة على عظمته وعلو مرتبته، ولعل من أبرز ذلك:
1- التعليم:
بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم "معلماً ميسراً" (صحيح مسلم: رقم: 1478)، وقد بلغ الغاية في ذلك، فشهد له الناس بأنه ما رأى الخلقُ "معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه" (صحيح مسلم: رقم: 537)، ومن تأمل حَجَّه صلى الله عليه وسلم وجد أنه هو ذلك المعلم الموصوف بعينه؛ إذ أمر صلى الله عليه وسلم بأن يؤذن قبل الحج في الناس بأنه صلى الله عليه وسلم يريد الحج ليسهل على من يريد مرافقته السفر معه، فقدم المدينةَ بشرٌ كثير كلهم يلتمس أن يأتم به ويأخذ عنه (انظر: سنن أبي داود: رقم: 1905، وصحح الحديث الألباني في صحيح أبي داود: رقم: 1676)، فاختلط بالناس وأشرف لهم، وبرز طوال الموسم (انظر: صحيح مسلم: رقم: 1187، 1218، 1273)، وكان أحد لا يُصرف عنه ولا يُدفع (انظر: صحيح مسلم: رقم: 1274، المسند لأحمد: رقم: 2842، وإسناده حسن)، ولم يكن حوله ضرب ولا طرد ولا قول: إليك إليك (انظر: سنن ابن ماجه: رقم: 3035، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه: رقم: 2461).
وحرص صلى الله عليه وسلم على البلاغ وإقامة الحُجَّة على الخلق فحفزهم على التعلم، وشحذ هممهم، وشد انتباههم إلى ما يقول ويفعل بتنويع أساليب الخطاب وطرق التعليم، وأمره لهم بأخذ المناسك عنه لاحتمال أن تكون حَجَّته الأخيرة (انظر: صحيح مسلم: رقم: 1297)، ومطالبته إياهم بالشهادة له بالبلاغ؛ إذ مراراً ما خاطبهم بعد أن يتم تعليمهم قائلاً: «ألا هل بَلَّغت؟» (انظر: صحيح البخاري: رقم: 1741، المسند لأحمد: رقم: 20695 وهو صحيح لغيره)، فيشهد الناس له بذلك قائلين: "نشهد أنك قد بلَّغت وأديت ونصحت" (انظر: صحيح مسلم: رقم: 1218).
ولم يقتصر صلى الله عليه وسلم على البلاغ والتعليم بنفسه، بل اتخذ من يُبلِّغ عنه (انظر: سنن أبي داود: رقم: 1949، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: رقم: 1717)، وأرسل الرسل لذلك (انظر: جامع الترمذي: رقم: 890 وقال حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي: 700، المسند لأحمد: رقم: 10664 وهو حديث صحيح).
وأبرز الأمور التي اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم الناس إياها هي أحكام المناسك التي جمع فيها النبي بين البيان والتطبيق العملي (انظر: صحيح مسلم: رقم 1218، الترمذي: رقم 885، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي: رقم: 702).
ومن ذلك: بيان منزلة أركان الإسلام ومبانيه العظام؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم في إحدى خطبه في الموسم: «اتقوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم» (جامع الترمذي: رقم: 616، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي: رقم: 512).
ومن ذلك: بيان خطورة الشرك وبعض المحرمات العظام؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: «إنما هن أربع: لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تزنوا» (المسند لأحمد: رقم: 18989 وسنده صحيح).
2- الإفتاء:
من أهم أحوال النبي صلى الله عليه وسلم والأعمال التي تقلب فيها مع الناس في الحج تبيين المشكل عليهم من الأحكام والجواب عن استفساراتهم، ومن أشهر فتاويه صلى الله عليه وسلم في الحج "أن امرأة من خثعم قالت: "يا رسول الله! إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فحُجي عنه» (صحيح مسلم: رقم: 1335)، وقوله صلى الله عليه وسلم لكل من سأله عن التقديم والتأخير في أعمال يوم النحر: «افعل ولا حرج» (صحيح البخاري: رقم: 83).
والملحوظ: في إفتائه صلى الله عليه وسلم في الموسم أمور من أوضحها: وقوفه صلى الله عليه وسلم للناس وبروزه لهم ليروه ويسألوه (انظر: صحيح البخاري: رقم: 1736، صحيح مسلم: رقم: 1218، 1273، 1306).
ومنها: جنوحه إلى التيسير في فتاويه (انظر: صحيح البخاري: رقم: 83، 1207، 4853) والتخفيف على ذوي الحاجات (انظر: صحيح البخاري: رقم: 1634، جامع الترمذي: رقم: 954 وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي: رقم: 762).
ومنها: حرصه صلى الله عليه وسلم على الإقناع لمن يستفتيه كقوله صلى الله عليه وسلم لرجل قال له: "يا رسول الله! إن أبي أدركه الإسلام، وهو شيخ كبير لا يثبت على راحلته، أفأحج عنه؟" قال: «أرأيت لو كان عليه دين فقضيته عنه أكان يجزيه؟» قال: "نعم". قال: «فاحجج عن أبيك» (المسند لأحمد: رقم: 1812 وهو حديث صحيح).
ومنها: صبره صلى الله عليه وسلم على السائلين واحتماله لأذاهم مع الرفق والرحمة بهم (انظر: صحيح مسلم: رقم: 1273، المسند لأحمد: رقم: 2842 وهو حديث حسن).
3- الوعظ:
كان للنبي صلى الله عليه وسلم في الوعظ اليد الطولى والقدح المعلى؛ إذ بعثه الله مبشراً ونذيراً، فأرشد أمته إلى الخير ورغبها فيه، ونهاها عن الشر ورهَّبها منه.
وفي الحج كان للوعظ والتوجيه ميدان فسيح ووجود ظاهر، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أعاد التذكير ببعض القواعد والأمور الهامة (انظر: صحيح البخاري: رقم: 67، صحيح مسلم: رقم: 1218، المسند لأحمد: رقم: 20695 والحديث صحيح لغيره) من غير ما تكلُّف أكثر من مرة، وقد تناول وعظه صلى الله عليه وسلم موضوعات عدة كان من أهمها:
التزهيد في الدنيا؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم قبل الغروب بعرفات: «أيها الناس! إنه لم يبق من دنياكم فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه» (المسند لأحمد: رقم: 6173 والحديث صحيح لغيره).
ومنها: الأمر بالتقوى والدلالة على ما يُدخِلُ المرءَ الجنةَ؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا ربكم، وصلوا خمسكم؛ وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم» (جامع الترمذي: رقم: 616، وقال حسن صحيح وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي: 502).
ومنها: بيان أن لا أحد يحمل جريرة أحد، وأن المسؤولية أمام المولى عز وجل فردية؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: «ألا لا يجني جانٍ إلا على نفسه، لا يجني والد على ولده، ولا مولود على والده» (سنن ابن ماجه: رقم: 2669 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه: رقم: 2160).
ومنها: الترغيب في ترك الفسوق والعصيان أثناء النسك والاشتغال بما ينفع؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» (صحيح البخاري: رقم: 1819)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس البر بإيضاع الخيل ولا الرِّكاب» (صحيح البخاري: رقم: 1671، المسند لأحمد: رقم: 2264، واللفظ له(>
ومنها: التحذير من الغلو؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس ! إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» (سنن ابن ماجه: رقم: 3029 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه: رقم 2455).
ومنها: الوصاية بالضعفاء من النساء والأرقَّاء والأمر بالإحسان إليهم؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: «فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله» (صحيح مسلم: رقم 1218(، وجاء في حديث مرفوع: «أرقَّاءَكم أرقاءَكم أرقاءَكم أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون؛ فإن جاؤوا بذنب لا تريدون أن تغفروه فبيعوا عباد الله ولا تعذبوهم» (المسند لأحمد: رقم: 16409وإسناده ضعيف وله أصل من حديث أبي ذر، انظر صحيح البخاري: رقم: 30، صحيح مسلم: رقم: 1661).
4- توحيد الأمة، وتحذيرها من الفتن ودواعي الافتراق:
كان الحج بما يحمل في طياته من وحدة بين أفراد الأمة في الشعور والمشاعر فرصة سانحة لتوحيد الأمة وتحذيرها من الفتنة ودواعي الفرقة، وقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر وأولاه عنايته، وقد أخذ ذلك الاهتمام مظاهر شتى من أبرزها:
تسويته صلى الله عليه وسلم بين أفراد الأمة، وعدم تمييزه بينهم إلا بالتقوى؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم واحد، وأباكم واحد؛ ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى» (المسند لأحمد: رقم: 23536، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 3 / 266 رجاله رجال الصحيح).
ومنها: أمره صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة لمن يقيم كتاب الله عز وجل، ولزوم الجماعة والنصح للأئمة؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: «إن أُمِّر عليكم عبد مجدع أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا» (صحيح مسلم: رقم: 1298)، وقال صلى الله عليه وسلم بالخيف من منى: «ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم» (سنن ابن ماجه: رقم: 3056 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه: رقم: 2480).
ومنها: تحذيره صلى الله عليه وسلم من الاستجابة لتحريش الشيطان؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم» (صحيح مسلم: رقم: 2812، وانظر: المسند لأحمد: رقم: 20695 وهو صحيح لغيره).
ومنها: نهيه صلى الله عليه وسلم عن الابتداع في الدين؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم محذراً أمته: «ألا وإني مستنقِذٌ أناساً، ومستنقَذٌ مني أناس فأقول: يارب أصيحابي ! فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» (سنن ابن ماجه: رقم: 3057 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه: 2481).
ومنها: نهيه صلى الله عليه وسلم عما يسبب الفرقة ويؤدي إلى الفتنة في المجتمع المسلم كالاقتتال؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم بعد أن استنصت الناس: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» (صحيح البخاري: رقم: 121).
وكالاستهانة بدماء الآخرين وأموالهم وأعراضهم؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم في خطبه الثلاث في عرفة ويوم النحر وأوسط أيام التشريق: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» (صحيح البخاري: رقم: 67، وانظر: صحيح مسلم: رقم: 1218، والمسند لأحمد: 20695).
وكالظلم وأخذ أموال الناس بغير طيب نفس منهم؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم«: اسمعوا مني تعيشوا: ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا؛ إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» (المسند لأحمد: رقم: 20695 وهو صحيح لغيره).
5- التربية على الاتباع وتوحيد مصدر التلقي:
الإسلام هو الخضوع والذل لله وحده والإذعان لما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا تثبت قدم أحد فيه ما لم يسلِّم لنصوص الوحي، وينقاد إليها ولا يعترض على شيء منها (انظر: شرح العقيدة الطحاوية: 201)، والحج آية في الانقياد ومدرسة في التسليم والاستسلام، ربَّى النبي صلى الله عليه وسلم فيه أصحابه رضي الله عنهم على توحيد متابعته، وغرس في نفوسهم ضرورة التأسي به. يقول جابر رضي الله عنه واصفاً الحال: "ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه القرآن ينزل، وهو يعرف تأويله، وما عمل من شيء عملنا به" (صحيح مسلم: رقم: 1218)، فأنتجت تلك التربية العظيمة ثمرات يانعة مباركة.
ومظاهر تربيته صلى الله عليه وسلم في الحج لأصحابه رضي الله عنهم على المتابعة والاقتصار في الأخذ والتلقي على نصوص الوحي كثيرة، من أبرزها: مطالبته صلى الله عليه وسلم الحجيج في مواطن عدة خلال الموسم بالتأسي به وتحفيزه إياهم على ذلك بذكر احتمال أن تكون حجته تلك آخر حجة له؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم مراراً: «لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه» (صحيح مسلم: رقم: 1297، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه: رقم: 2449، المسند لأحمد: رقم: 14943 وهو حديث صحيح).
ومنها: حثه صلى الله عليه وسلم الناس في خطبته يوم عرفة على الاعتصام بالتنزيل والتمسك به؛ لأن ذلك طريق الوقاية من الزيغ والضلال؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله» (صحيح مسلم: رقم: 1218).
يتبع